{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}.
{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني: النضير {من ديارهم} مساكنهم بالمدينة، وذلك أنهم نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف سيدهم، فقتل غليةً، وحاصر بني النضير ثم صالحهم على أن يخرجوا إلى الشام، فخرجوا وتركوا رباعهم وضياعهم، وقوله: {لأول الحشر} كانوا أول من حشر إلى الشام من اليهود من الجزيرة العرب. وقيل إنه أول حشر إلى الشام ، والحشر الثاني حشر القيامة، والشام أرض المحشر. {ما ظننتم} أيها المؤمنون {أن يخرجوا} لعدتهم ومنعتهم {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} وذلك أنهم كانوا أهل حلقة وحصون، فظنوا أنها تحفظهم من ظهور المسلمين عليهم {فأتاهم الله} أي: أمر الله {من حيث لم يحتسبوا} من جهة المؤمنين، وما كانوا يحسبون أنهم يغلبونهم ويظهرون عليهم {وقذف في قلوبهم الرعب} ألقى في قلوبهم الخوف بقتل سيدهم {يخربون بيوتهم بأيديهم} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل، وكانوا ينظرون إلى الخشبة والشيء في منازلهم مما يستحسنونه، فيقلعونه وينتزعونه ويهدمون البيوت لأجله، فذلك إخراجهم بأيديهم، ويخرب المؤمنون باقيها، وهو قوله: {وأيدي المؤمنين} وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم، لأنهم عضوا منازلهم للخراب بنقض العهد. {فاعتبروا} فاتعظوا {يا أولي الأبصار} يا ذوي العقول، فلا تفعلوا فعل بني النير فينزل بكم ما نزل بهم.
{ولولا أن كتب الله} قضى الله {عليهم الجلاء} الخروج عن الوطن {لعذبهم في الدنيا} بالقتل والسبي كما فعل بقريظة.
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}.
{ما قطعتم من لينة} من نخلة من نخيلهم {أو تركتموها قائمة} فلم تقطعوها {فبإذن الله} أي: إنه أذن في ذلك، إن شئتم قطعتم وإن شئتم تركتم، وذلك أنهم لما تحصنوا بحصونهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك، وقالوا: من أين لك يا محمد عقر الشجر المثمر؟ واختلف المسلمون في ذلك، فمنهم من قطع غيظاً لهم، ومنهم من ترك القطع وقالوا: هو مالنا: أفاء الله علينا به، فأخبر الله أن كل ذلك من القطع والترك بإذنه {وليخزي الفاسقين} وليذل اليهود وليغيظهم.
{وما أفاء الله على رسوله} رد الله على رسوله ورجع إليه {منهم} من بني النضير من الأموال {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي: ما حملتم خيلكم ولا إبلكم على الوجيف إليه، وهو السير السريع، والمعنى: لم تركبوا إليه خيلاً ولا إبلاً، ولا قطعتم إليه شفة، فهو خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فيه ما أحب، وليس كالغنيمة التي تكون للغانمين، وهذا معنى قوله: {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} الآية.
{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} من أموال القرى الكافرة {فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وكان الفيء يخمس خمسة أخماس، فكانت أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية، وأما اليوم فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء يصرف إلى أهل الثغور المترصدين للقتال في أحد قولي الشافعي رحمه الله، والفيء: كل مال رجع إلى المسلمين من أيدي الكفار عفواً من غير قتال، مثل: مال الصلح والجزية والخراج، أو هربوا فتركوا ديارهم وأموالهم، كفعل بني النضير، وقوله: {كيلا يكون} يعني: الفيء {دولة} متداولاً {بين الأغنياء} الرؤساء والأقوياء {منكم وما آتاكم الرسول} أعطاكم من الفيء {فخذوه وما نهاكم عنه} عن أخذه {فانتهوا}.
{للفقراء المهاجرين} يعني: خمس الفيء للذين هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم حباً لله ولرسوله، ونصرةً لدينه، وهو قوله: {وينصرون الله} أي: دينه {ورسوله أولئك هم الصادقون} في إيمانهم.
{ والذين تبوؤوا الدار والإيمان } نزلوا المدينة وقبلوا الإيمان {من قبلهم} من قبل المهاجرين وهم الأنصار {يحبون من هاجر إليهم} من المسلمين {ولا يجدون في صدورهم حاجة} غيظاً وحسداً {مما أوتوا} مما أوتي المهاجرون من الفيء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة فطابت أنفس الأنصار بذلك، فذلك قوله: {ويؤثرون على أنفسهم} أي: يختارون إخوانهم المهاجرين بالمال على أنفسهم {ولو كان بهم خصاصة} حاجة وفاقة إلى المال {ومن يوق شح نفسه} من حفظ من الحرص المهلك على المال، وهو حرص يحمله على إمساك المال عن الحقوق والحسد {فأولئك هم المفلحون}.
{والذين جاؤوا من بعدهم} أي: والذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} أي: المهاجرين والأنصار {ولا تجعل في قلوبنا غلا} حقداً {للذين آمنوا} الآية. فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غل لهم فهو من أهل هذه الآية، ومن يشتم واحداً منهم ولم يترحم عليه لم يكن له حظ في الفيء، وكان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين، وهم ثلاثة: المهاجرون والأنصار، والذين جاؤوا من بعدهم بهذه الصفة التي ذكرها الله تعالى.
{ألم تر إلى الذين نافقوا} الآية. وذلك أن المنافقين ذهبوا إلى بني النضير لما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم محمد كنا معكم، وإن أخرجكم خرجنا معكم، وذلك قوله: {لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا} سألنا خذلانكم {أبدا} فكذبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} والآية الثانية، وذكر أنهم إن نصروهم انهزموا ولم ينتصروا، وهو قوله:
{ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون}.
{لأنتم} أيها المؤمنون {أشد رهبة في صدورهم} صدور المنافقين من الله، يقول: أنتم أهيب في صدورهم من الله تعالى، لأنهم يخفون منكم موافقة اليهود خوفاً منكم، ولا يخافون الله فيتركون ذلك.
{لا يقاتلونكم جميعا} أي: اليهود {إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} أي: لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب لا يقاتلونكم إلا محصنين بالقرى والجدران، ولا يبرزون لقتالكم. {بأسهم بينهم شديد} خلافهم بينهم عظيم {تحسبهم جميعا} مجتمعين متفقين {وقلوبهم شتى} مختلفة متفرقة، و{ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} عن الله أمره.
{كمثل الذين من قبلهم} أي: المشركين، يقول: هم في تركهم الإيمان وغفلتهم عن عذاب الله كالذين من قبلهم {قريبا ذاقوا وبال أمرهم} يعني: أهل بدر ذاقوا العذاب بمدة قليلة من قبل ما حل بالنضير من الجلاء والنفي، وكان ذلك بعد مرجعه من أحد، وقوله:
{كمثل الشيطان} يعني: إن المنافقين في نصرتهم لليهود كمثل الشيطان {إذ قال للإنسان اكفر} يعني: عابداً في بني إسرائيل فتنه الشيطان حتى كفر، ثم خذله، كذلك المنافقون منوا بني النضير نصرتهم ثم خذلوهم وتبرؤوا منهم.
{فكان عاقبتهما} عاقبة الشيطان والكافر {أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين}.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} بأداء فرائضه واجتناب معاصيه {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} يوم القيامة من طاعة وعمل صالح.
{ولا تكونوا كالذين نسوا الله} تركوا طاعة الله وأمره {فأنساهم أنفسهم} حظ أنفسهم أن يقدموا لها خيراً.
{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} أخبر الله تعالى أن من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز - كما جعل في الإنسان - وأنزل عليه القرآن لخشع وتصدع، أي: تشقق من خشية الله. قوله:
{عالم الغيب والشهادة} السر والعلانية. وقوله:
{الملك}: ذو الملك {القدوس} الطاهر عما لا يليق به {السلام} ذو السلامة من الآفات والنقائض {المؤمن} المصدق رسله بخلق المعجزة لهم. وقيل: الذي آمن خلقه من ظلمه {المهيمن} الشهيد {العزيز} القوي {الجبار} الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره {المتكبر} عما لا يليق به.
{هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.