{ الر } أنا الله أرى . { تلك آيات الكتاب } هذه الآيات التي أنزلتها عليك آيات القرآن { الحكيم } الحاكم بين الناس .
{ أكان للناس } أهل مكة { عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } وذلك أنهم قالوا : ما وجد الله من يرسله إلينا إلا يتيم أبي طالب ؟! { أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا } أي : بعثناه بشيرا ونذيرا { أن لهم قدم صدق عند ربهم } يعني : الأعمال الصالحة . { قال الكافرون إن هذا } القرآن { لسحر مبين } .
{ إن ربكم الله } مفسرة في سورة الأعراف ، وقوله : { يدبر الأمر } يقضيه { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } رد لقولهم : الأصنام شفعاؤنا عند الله .
{إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}.
{ هو الذي جعل الشمس ضياء } ذات ضياء { والقمر نورا } ذا نور { وقدره } وقدر له { منازل } على عدد أيام الشهر { ما خلق الله ذلك } يعني : ما تقدم ذكره { إلا بالحق } بالعدل ، أي : هو عادل في خلقه ، لم يخلقه ظلما و لا باطلا { يفصل الآيات } يبينها { لقوم يعلمون } يستدلون بها على قدرة الله .
{إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}.
{ إن الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث { ورضوا بالحياة الدنيا } بدلا من الآخرة { واطمأنوا بها } وركنوا إليها { والذين هم عن آياتنا } ما أنزلت من الحلال والحرام والشرائع { غافلون } . وقوله :
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.
{ يهديهم ربهم بإيمانهم } أي : إلى الجنان ثوابا لهم بإيمانهم .
{ دعواهم } دعاؤهم { فيها سبحانك اللهم } وهو أنهم كلما اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم ، فجاءهم ما يشتهون ، فإذا طعموا مما يشتهون قالوا : الحمد لله رب العالمين .
{ ولو يعجل الله للناس الشر } الآية . نزلت في دعاء الرجل على نفسه وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له ، والمعنى : لو استجبت لهم في الشر كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير { لقضي إليهم أجلهم } لماتوا ، وفرغ من هلاكهم . نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية . يدل على هذا قوله : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } يعني : الكفار الذين لا يخافون البعث .
{ وإذا مس الإنسان } يعني : الكافر { الضر } المرض والبلاء { دعانا لجنبه } أي : مضطجعا { أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر } طاغيا على ترك الشكر { كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } لنسيانه ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به { كذلك زين } كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء ، والإعراض عند الرخاء { زين للمسرفين } عملهم ، وهم الذين أسرفوا على أنفسهم ، إذ عبدوا الوثن .
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية { وما كانوا ليؤمنوا } لأن الله طبع على قلوبهم جزاء لهم على كفرهم { كذلك نجزي القوم المجرمين } نفعل بمن كذب بمحمد كما فعلنا بمن قبلهم جزاء لكفرهم .
{ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } يعني : أهل مكة { لننظر كيف تعملون } لنختبر أعمالكم .
{ وإذا تتلى عليهم } على هؤلاء المشركين { آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث : { ائت بقرآن غير هذا } ليس فيه عيب آلهتنا { أو بدله } تكلم به من ذات نفسك ، فبدل منه ما نكرهه { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } ما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } ما أخبركم إلا ما أخبرني الله به ، أي : الذي أتيت به من عند الله ، لا من عندي نفسي فأبدله .
{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } ما قرأت عليكم القرآن { ولا أدراكم به } ولا أعلمكم الله به { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم شيئا { أفلا تعقلون } أنه ليس من قبلي .
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم الكفر ، أي : إني لم أفتر على الله ، ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا { إنه لا يفلح المجرمون } لا يسعد من كذب أنبياء الله .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } إن لم يعبدوه { ولا ينفعهم } إن عبدوه { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } في إصلاح معاشهم في الدنيا ، لأنهم لا يقرون بالبعث { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } أتخبرون الله أن له شريكا ، ولا يعلم الله سبحانه لنفسه شريكا في السماوات ولا في الأرض ، ثم نزه نفسه عما افتروه فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } .
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة } يعني : من لدن عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غير الدين عمرو بن لحي { فاختلفوا } واتخذوا الأصنام { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير عذاب هذه الأمة إلى القيامة { لقضي بينهم } بنزول العذاب .
{ ويقولون } يعني : أهل مكة : { لولا } هلا { أنزل عليه آية من ربه } مثل العصا ، وما جاءت به الأنبياء { فقل إنما الغيب لله } أي : إن قولكم : هلا أنزل عليه آية غيب ، وإنما الغيب لله لا يعلم أحد لم لم يفعل ذلك { فانتظروا } نزول الآية { إني معكم من المنتظرين } .
{ وإذا أذقنا الناس } كفار مكة { رحمة } مطرا وخصبا { من بعد ضراء مستهم } فقر وبؤس { إذا لهم مكر في آياتنا } قول بالتكذيب ، أي : إذا أخصبوا بطروا ، فاحتالوا لدفع آيات الله { قل الله أسرع مكرا } أسرع نقمة . يعني : إن ما يأتيهم من العقاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر في إبطال آيات الله { إن رسلنا } يعني : الحفظة { يكتبون ما تمكرون } للمجازاة به في الآخرة .
{ هو الذي يسيركم في البر } على المراكب والظهور { والبحر } على السفن { حتى إذا كنتم في الفلك } السفن { وجرين بهم } يعني : وجرت السفن بمن ركبها في البحر { بريح طيبة } رخاء لينة { وفرحوا } بتلك الريح للينها واستوائها { جاءتها ريح عاصف } شديدة { وجاءهم الموج } وهو ما ارتفع من الماء { من كل مكان } من البحر { وظنوا أنهم أحيط بهم } دنوا من الهلاك { دعوا الله مخلصين له الدين } تركوا الشرك وأخلصوا لله الربوبية ، وقالوا { لئن أنجيتنا من هذه } الريح العاصفة { لنكونن من الشاكرين } الموحدين الطائعين .
{ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } يعملون بالفساد والمعاصي والجرأة على الله . { يا أيها الناس } يعني : أهل مكة { إنما بغيكم على أنفسكم } أي : بغي بعضكم على بعض { متاع الحياة الدنيا } أي : ما ينالونه بهذا الفساد والبغي إنما يتمتعون به في الحياة الدنيا { ثم إلينا مرجعكم } .
{ إنما مثل الحياة الدنيا } يعني : الحياة الفانية في هذه الدار { كماء } كمطر { أنزلناه من السماء فاختلط به } بذلك المطر وبسببه { نبات الأرض مما يأكل الناس } من البقول والحبوب والثمار { والأنعام } من المراعي والكلأ { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } زينتها وحسنتها { وازينت } بنباتها { وظن } أهل تلك الأرض { أنهم قادرون } على حصادها والانتفاع بها { أتاها أمرنا } عذابنا { فجعلناها حصيدا } لا شيء فيها { كأن لم تغن } لم تكن بالأمس { كذلك } الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وزهرة الدنيا ، حتى إذا كثر ذلك عند صاحبه ، وظن أنه ممتع به سلب ذلك عنه بموته ، أو بحادثة تهلكه { كذلك نفصل الآيات } كما بينا هذا المثل للحياة الدنيا كذلك يبين الله آيات القرآن { لقوم يتفكرون } في المعاد .
{ والله يدعو إلى دار السلام } وهي الجنة ببعث الرسول ، ونصب الأدلة { ويهدي من يشاء } عم بالدعوة ، وخص بالهداية من يشاء .
{ للذين أحسنوا } قالوا : لا إله إلا الله { الحسنى } الجنة { وزيادة } النظر إلى وجه الله الكريم عز وجل { ولا يرهق } يغشى { وجوههم قتر } سواد من الكآبة { ولا ذلة } كما يصيب أهل جهنم ، وهذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى .
{ والذين كسبوا السيئات } عملوا الشرك { جزاء سيئة } أي : فلهم جزاء سيئة { بمثلها وترهقهم ذلة } يصيبهم ذل وخزي وهوان { ما لهم من الله } من عذاب الله { من عاصم } من مانع يمنعهم { كأنما أغشيت } ألبست { وجوههم قطعا } طائفة { من الليل } وهو مظلم .
{ ويوم نحشرهم جميعا } نجمعهم جميعا : الكفار وآلهتهم { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } قفوا والزموا مكانكم { أنتم وشركاؤكم فزيلنا } فرقنا وميزنا { بينهم } بين المشركين وبين شركائهم ، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا { وقال شركاؤهم } وهي الأوثان : { ما كنتم إيانا تعبدون } أنكروا عبادتهم ، وقالوا : ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون ، والله ينطقها بهذا .
{ فكفى بالله شهيدا } الآية . هذا من كلام الشركاء . قالوا : شهد الله على علمه فينا ، ما { كنا عن عبادتكم } إلا غافلين ، لأنا كنا جمادا لم يكن فينا روح .
{ هنالك } في ذلك الوقت { تبلو } تختبر { كل نفس ما أسلفت } جزاء ما قدمت من خير أو شر { وردوا إلى الله مولاهم الحق } أي : الذي يملك تولي أمرهم ويجازيهم بالحق { وضل عنهم } زال وبطل { ما كانوا يفترون } في الدنيا من التكذيب .
{ قل من يرزقكم من السماء والأرض } من ينزل من السماء المكر ، ويخرج النبات من الأرض ؟ { أمن يملك السمع والأبصار } من جعلها وخلقها لكم ؟ على معنى : من يملك خلقها { ومن يخرج الحي من الميت } المؤمن من الكافر ، والنبات من الأرض ، والإنسان من النطفة ، وعلى الضد من ذلك { ويخرج الميت من الحي ومن يدبر } أمر الدنيا والآخرة { فسيقولون الله } أي : الله الذي يفعل هذه الأشياء ، فإذا أقروا بعد الإحتجاج عليهم { فقل أفلا تتقون } أفلا تخافون الله ، فلا تشركوا به شيئا .
{ فذلكم الله ربكم الحق } أي : الذي هذا كله فعله هو الحق ، ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء { فماذا بعد الحق } بعد عبادة الله { إلا الضلال } يعني : عبادة الشيطان { فأنى تصرفون } يريد : كيف تصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت .
{ كذلك } هكذا { حقت } صدقت { كلمة ربك } بالشقاوة والخذلان { على الذين فسقوا } تمردوا في الكفر { أنهم لا يؤمنون } .
{قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون}.
{ قل هل من شركائكم } يعني : آلهتكم { من يهدي } يرشد { إلى الحق } إلى دين الإسلام { قل الله يهدي للحق } أي : إلى الحق { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي } أي : الله الذي يهدي ، ويرشد إلى الحق أهل الحق أحق أن يتبع أمره أم الأصنام التي لا تهدي أحدا { إلا أن يهدى } يرشد ، وهي _ وإن هديت _ لم تهتد ، ولكن الكلام نزل على أنها إن هديت اهتدت ، لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعلم { فما لكم } أي شيء لكم في عبادة الأوثان ، وهذا كلام تام { كيف تحكمون } يعني : كيف تقضون حين زعمتم أن مع الله شريكا .
{ وما يتبع أكثرهم } يعني : الرؤساء ، لأن السفلة يتبعون قولهم { إلا ظنا } يظنون أنها آلهة { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ليس الظن كاليقين . يعني : إن الظن لا يقوم مقام العلم . { إن الله عليم بما يفعلون } من كفرهم .
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } هذا جواب لقولهم : { ائت بقرآن غير هذا } يقول : ما كان هذا القرآن افراء من دون الله { ولكن تصديق } ولكن كان تصديق { الذي بين يديه } من الكتب { وتفصيل الكتاب } يعني : تفصيل المكتوب من الوعد لمن آمن ، والوعيد لمن عصى { لا ريب فيه } لا شك في نزوله من عند رب العالمين .
{ أم يقولون افتراه } بل أتقولون : افتراه محمد { قل فاتوا بسورة مثله } إن كان مفترى { وادعوا } إلى معاونتكم على المعارضة كل من تقدرون عليه { إن كنتم صادقين } في أن محمدا اختلقه من عند نفسه ، ونظير هذه الآية في سورة البقرة : { وإن كنتم في ريب } الآية .
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } أي : بما في القرآن من الحنة والنار ، والبعث والقيامة { ولما يأتهم تأويله } ولم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب { كذلك كذب الذين من قبلهم } بالبعث والقيامة .
{ ومنهم } ومن كفار مكة { من يؤمن به } يعني : قوما علم أنهم يؤمنون { ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } يريد : المكذبين ، وهذا تهديد لهم .
{ وإن كذبوك فقل لي عملي } الآية . نسختها آية الجهاد .
{ ومنهم من يستمعون إليك } نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون الاستهزاء والتكذيب ، فقال الله تعالى : { أفأنت تسمع الصم } يريد أنهم بمنزلة الصم لشدة عداوتهم { ولو كانوا لا يعقلون } أي : ولو كانوا مع كونهم صما جهالا ! أخبر الله سبحانه أنهم بمنزلة الصم الجهال إذ لم ينتفعوا بما سمعوا .
{ ومنهم من ينظر إليك } متعجبا منك غير منتفع بنظره { أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } يريد : إن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئا من الهدى .
{ إن الله لا يظلم الناس شيئا } لما ذكر أهل الشقاوة ذكر أنه لم يظلمهم بتقدير الشقاوة عليهم ، لأنه يتصرف في ملكه { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } بكسبهم المعاصي .
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار ، استقصروا تلك المدة من هول ما استقبلوا من أمر البعث والقيامة { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا تعارف تعارف توبيخ ، لأن كل فريق يقول للآخر : أنت أضللتني وما يشبه هذا { قد خسر } ثواب الجنة { الذين كذبوا } بالبعث .
{ وإما نرينك بعض الذي نعدهم } يريد : ما ابتلوا به يوم بدر { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإلينا مرجعهم } أي : فنعذبهم في الآخرة { ثم الله شهيد على ما يفعلون } من محاربتك وتكذيبك ، فيجزيهم بها ، ومعنى الآية : إن لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل .
{ ولكل أمة رسول } يرسل إليهم { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } وهو هلاك من كذبه ، ونجاة من تبعه { وهم لا يظلمون } لا ينقص ثواب المصدق ، ويجازي المكذب بتكذيبه .
{ ويقولون متى هذا الوعد } قالوا ذلك حين قيل لهم : { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } الآية ، فقالوا : متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد ؟ { إن كنتم } أنت يا محمد وأتباعك صادقين .
{ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله } الآية مفسرة في آيتين من سورة الأعراف ، فلما استعجلوا العذاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم :
{ قل أرأيتم } أعلمتم { إن أتاكم عذابه بياتا } ليلا { أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون } أي شيء يستعجل المجرمون من العذاب ؟ وهذا استفهام معناه التهويل والتفظيع ، أي : ما أعظم ما يلتمسون ويستعجلون ! كما تقول : أعلمت ماذا تجني على نفسك ؟! فلما قال لهم النبي عليه السلام هذا ، قالوا : نكذب بالعذاب ونستعجله ، فإذا وقع آمنا به ، فقال الله تعالى :
{ أثم إذا ما وقع } وحل بكم { آمنتم به } بعد نزوله ، فلا يقبل منكم الإيمان ، ويقال لكم : { آلآن } تؤمنون به { وقد كنتم به تستعجلون } في الدنيا مستهزئين .
{ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}.
{ ويستنبئونك } يستخبرونك { أحق } ما أخبرتنا به من العذاب والبعث ؟ { قل إي } نعم { وربي إنه لحق } يعني : العذاب نازل بكم { وما أنتم بمعجزين } بعد الموت ، أي : فتجازون بكفركم .
{ ولو أن لكل نفس ظلمت } أشركت { ما في الأرض لافتدت به } لبذلته لدفع العذاب عنها { وأسروا } أخفوا وكتموا { الندامة } يعني : الرؤساء من السفلة الذين أضلوهم { وقضي بينهم } بين السفلة والرؤساء { بالقسط } بالعدل ، فيجازى كل على صنيعه .
{ ألا إن وعد الله حق } ما وعد لأوليائه وأعدائه { ولكن أكثرهم لا يعلمون } يعني : المشركين .
{هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}.
{ يا أيها الناس } يعني : قريشا { قد جاءتكم موعظة من ربكم } القرآن { وشفاء لما في الصدور } ودواء لداء الجهل { وهدى } وبيان من الضلالة { ورحمة للمؤمنين } ونعمة من الله سبحانه لأصحاب محمد .
{ قل بفضل الله } الإسلام { وبرحمته } القرآن { فبذلك } الفضل والرحمة { فليفرحوا هو خير } أي : ما آتاهم الله من الإسلام والقرآن خير مما يجمع غيرهم من الدنيا .
{ قل } لكفار مكة : { أرأيتم ما أنزل الله } خلقه وأنشأه لكم { من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } يعني : ما حرموه مما هو حلال لهم من البحيرة وأمثالها ، وأحلوه مما هو حرام من الميتة وأمثالها { قل آلله أذن لكم } في ذلك التحريم والتحليل { أم } بل { على الله تفترون } .
{ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } أي : ما ظنهم ذلك اليوم بالله وقد افتروا عليه ؟ { إن الله لذو فضل على الناس } أهل مكة حين جعلهم في أمن وحرم إلى سائر ما أنعم به عليهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } لا يوحدون ولا يطيعون .
{ وما تكون } يا محمد { في شأن } أمر من أمورك { وما تتلوا منه } من الله { من قرآن } أنزله عليك { ولا تعملون من عمل } خاطبه وأمته { إلا كنا عليكم شهودا } نشاهد ما تعلمون { إذ تفيضون } تأخذون { فيه وما يعزب } يغيب ويبعد { عن ربك من مثقال ذرة } وزن ذرة { إلا في كتاب مبين } يريد : اللوح المحفوظ الذي أثبت الله سبحانه فيه الكائنات .
{ ألا إن أولياء الله } هم الذين تولى الله سبحانه هداهم .
{ الذين آمنوا } صدقوا النبي { وكانوا يتقون } خافوا مقامهم بين يدي الله سبحانه .
{ لهم البشرى في الحياة الدنيا } عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشرى من الله {وفي الآخرة } يبشرون بثواب الله وجنته { لا تبديل لكلمات الله } لا خلف لمواعيده .
{ ولا يحزنك قولهم } تكذيبهم إياك { إن العزة لله } القوة لله والقدرة لله { جميعا } وهو ناصرك { وهو السميع } يسمع قولهم { العليم } بما في ضميركم ، فيجازيهم بما يقتضيه حالهم .
{ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض } يعني : يفعل بهم وفيهم ما يشاء { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أي : ليسوا يتبعون شركاء على الحقيقة ، لأنهم يعدونها شركاء شفعاء لهم ، وليست على ما يظنون { إن يتبعون إلا الظن } ما يتبعون إلا ظنهم أنها تشفع لهم { وإن هم إلا يخرصون } يقولون ما لا يكون .
{هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سمع اعتبار .
{قالوا اتخذ الله ولدا } يعني : قولهم : الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيها له عمل قالوه { هو الغني } أن يكون له زوجة أو ولد { إن عندكم من سلطان بهذا } ما عندكم من حجة بهذا ، وقوله :
{قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}.
{متاع في الدنيا } أي : لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما يسيرا ، وقوله :
{ إن كان كبر عليكم مقامي } أي : عظم وشق عليكم مكثي ولبثي فيكم { وتذكيري بآيات الله } وعظي وتخويفي إياكم عقوبة الله { فعلى الله توكلت } فافعلوا ما شئتم ، وهو قوله : { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } أي : اعزموا على أمر محكم تجتمعون عليه { وشركاءكم } مع شركاءكم . وقيل : معناه : وادعوا شركاءكم يعني : آلهتكم { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } أي : ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم لا كمن يكتم أمرا ويخفيه ، فلا يقدر أن يفعل ما يريد { ثم اقضوا إلي } افعلوا ما تريدون ، وامضوا إلى بمكروهكم { ولا تنظرون } ولا تؤخروا أمري ، والمعنى : ولا تألوا في الجمع والقوة ، فإنكم لا تقدرون على مساءتي ، لأن لي إلها يمنعني ، وفي هذا تقوية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن سبيله مع قومه كسبيل الأنبياء من قبله .
{ فإن توليتم } أعرضتم عن الإيمان { فما سألتكم من أجر } مال تعطونيه ، وهذا من قول نوح عليه السلام لقومه ، وقوله :
{فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين}.
{ فما كانوا ليؤمنوا } يعني : أمم الأنبياء والرسل { بما } كذب به قوم نوح . أي : هؤلاء الآخرون لم يؤمنوا بما كذب به أولوهم ، وقد علموا أن الله سبحانه أغرقهم بتكذيبهم ، ثم قال : { كذلك } كما طبعنا على قلوبهم { نطبع على قلوب المعتدين } المجاوزين الحق إلى الباطل ، وقوله :
{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين}.
{فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين}.
{قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون}.
{قالوا أجئتنا لتلفتنا } لتردنا { عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء } الملك والعز { في الأرض } في أرض مصر ، وقوله :
{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم}.
{فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}.
{ إن الله سيبطله } سيهلكه { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يجعله ينفعهم .
{ ويحق الله الحق } ويظهره بالدلائل الواضحة { بكلماته } بوعده .
{ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } يعني : من آمن به من بني إسرائيل ، وكانوا ذرية أولاد يعقوب { على خوف من فرعون وملئهم } ورؤسائهم { أن يفتنهم } يصرفهم عن دينهم بمحنة وبلية يوقعهم فيها { وإن فرعون لعال } متطاول { في الأرض } في أرض مصر { وإنه لمن المسرفين } حيث كان عبدا فادعى الربوبية ، وقوله :
{وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}.
{ لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } أي : لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا ، فيزدادوا طغيانا ويقولوا : لو كانوا على حق ما سلطنا عليهم ، فيفتنوا .
{ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}.
{ وأوحينا إلى موسى وأخيه } الآية . لما أرسل موسى صلوات الله عليه إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ، ومنعوا من الصلاة ، فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ، ويصلوا فيها خوفا من فرعون ، فذلك قوله : { تبوءا لقومكما } أي : اتخذ لهم { بمصر بيوتا } في دورهم { واجعلوا بيوتكم قبلة } أي : صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف ، وقوله :
{ ربنا ليضلوا عن سبيلك } أي : جعلت هذه الأموال سببا لضلالهم ، لأنهم بطروا ، فاستكبروا عن الإيمان { ربنا اطمس على أموالهم } امسخها وأذهبها عن صورتها ، فصارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة منقوشة صحاحا وأنصافا ، وكذلك سائر أموالهم { واشدد على قلوبهم } اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان { فلا يؤمنوا } دعاء عليهم { حتى يروا العذاب الأليم } يعني : الغرق ، فاستجيب في ذلك ، فلم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق .
{قال قد أجيبت دعوتكما } وذلك أن موسى دعا ، وأمن هارون { فاستقيما } على الرسالة والدعوة { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } لا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي ، وقوله :
{ فأتبعهم فرعون وجنوده } طلبوا أن يلحقوا بهم { بغيا } طلبا للاستعلاء بغير حق { وعدوا } ظلما { حتى إذا أدركه الغرق } تلفظ لما أخبر الله عنه حين لم ينفعه ذلك ، لأنه رأى اليأس وعاينه ، فقيل له : { آلآن وقد عصيت قبل } أي : آلآن تؤمن أو تتوب ؟ فلما أغرقه الله جحد بعض بني إسرائيل غرقه ، وقالوا : هو أعظم شأنا من أن يغرق ، فأخرجه الله سبحانه من الماء حتى رأوه ، فذلك قوله :
{آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}.
{ فاليوم ننجيك } نخرجك من البحر بعد الغرق { ببدنك } بجسدك الذي لا روح فيه { لتكون لمن خلفك آية } نكالا وعبرة { وإن كثيرا من الناس } يريد : أهل مكة { عن آياتنا } عما يراد بهم { لغافلون } .
{ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } أنزلنا قريظة والنضير منزل صدق ، أي : محمودا مختارا ، يريد : من أرض يثرب ، ما بين المدينة والشام { ورزقناهم من الطيبات } من النخل والثمار ، ووسعنا عليهم الرزق { فما اختلفوا } في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول مبعوث { حتى جاءهم العلم } حقيقة ما كانوا يعلمونه ، وهو محمد عليه السلام بنعته وصفته ، والقرآن ، وذلك أنهم كانوا يخبرون عن زمانه ونبوته ، ويؤمنون به ، فلما أتاهم اختلفوا ، فكفر به أكثرهم .
{ فإن كنت في شك } هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره من الشاكين في الدين ، وقوله : { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } يعني : من آمن من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، فيشهدون على صدق محمد ، ويخبرون بنبوته وباقي الآية والتي تليها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره .
{ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين}.
{ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك } وجبت عليهم كلمة العذاب .
{ لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية } وذلك أنهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا ، فقال الله تعالى : { لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } فلا ينفعهم حينئذ الإيمان كما لم ينفع فرعون .
{ فلولا كانت قرية } أي : فما كانت قرية { آمنت فنفعها إيمانها } عند نزول العذاب { إلا قوم يونس لما آمنوا } عند نزول العذاب { كشفنا عنهم عذاب الخزي } يعني : سخط الله سبحانه { ومتعناهم إلى حين } يريد : حين آجالهم ، وذلك أنهم لما رأوا الآيات التي تدل على قرب العذاب أخلصوا التوبة ، وترادوا المظالم ، وتضرعوا إلى الله تعالى ، فكشف عنهم العذاب .
{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } الآية . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يؤمن جميع الناي ، فأخبره الله سبحانه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة ، وهو قوله :
{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } أي : إلا بما سبق لها في قضاء الله وقدره { ويجعل الرجس } العذاب { على الذين لا يعقلون } عن الله تعالى أمره ونهيه ، وما يدعوهم إليه .
{ قل } للمشركين الذين يسألونك الآيات : { انظروا ماذا } أي : الذي أعظم منها { في السماوات والأرض } من الآيات والعبر التي تدل على وحدانية الله سبحانه ، فيعلموا أن ذلك كله يقتضي صانعا لا يشبه الأشياء ، ولا تشبهه ، ثم بين أن الآيات لا تغني عمن سبق في علم الله سبحانه أنه لا يؤمن فقال : { وما تغني الآيات والنذر } جمع نذير { عن قوم لا يؤمنون } يقول : الإنذار غير نافع لهؤلاء .
{ فهل ينتظرون } أي : يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك { إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } إلا مثل وقائع الله سبحانه فيمن سلف قبلهم من الكفار .
{ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } هذا إخبار عن ما كان الله سبحانه يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرسل والمصدقين لهم عما يعذب به من كفر { كذلك } أي : مثل هذا الإنجاء { ننج المؤمنين } بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذابي .
{ قل يا أيها الناس } يريد : أهل مكة { إن كنتم في شك من ديني } الذي جئت به { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } أي : بشككم في ديني لا أعبد غير الله { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } يأخذ أرواحكم ، وفي هذا تهديد لهم ، لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم . وقوله :
{ وأن أقم وجهك للدين حنيفا } استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك .
{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } أي : شيئا ما ، لأنه لا يتحقق النفع والضر إلا من الله ، فكأنه قال : ولا تدع من دون الله شيئا .
{ وإن يمسسك الله بضر } بمرض وفقر { فلا كاشف له } لا مزيل له { إلا هو } ، { وإن يردك بخير } يرد بك الخير { فلا راد لفضله } لا مانع لما تفضل به عليك من رخاء ونعمة { يصيب به } بكل واحد مما ذكر { من يشاء من عباده } .
{ قل يا أيها الناس } يعني : أهل مكة { قد جاءكم الحق } القرآن { من ربكم } وفيه البيان والشفاء { فمن اهتدى } من الضلالة { فإنما يهتدي لنفسه } يريد : من صدق محمدا عليه السلام فإنما يحتاط لنفسه { ومن ضل } بتكذيبه { فإنما يضل عليها } إنما يكون وبال ضلاله على نفسه { وما أنا عليكم بوكيل } بحفيظ من الهلاك حتى لا تهلكوا .
{ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله } نسخته آية السيف ، لأن الله سبحانه حكم بقتل المشركين ، والجزية على أهل الكتاب .