1 -" الحمد لله فاطر السموات والأرض " مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه ، والإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي . " جاعل الملائكة رسلاً " وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه . " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ، ولعله لم يرد به خصوصية الإعداد ونفي ما زال عليها ، لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح " " يزيد في الخلق ما يشاء " استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم ، لأن اختلاف الأصناف ، والأنواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال ، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس . " إن الله على كل شيء قدير " وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض ، إنما هو من جهة الإرادة .
2 -" ما يفتح الله للناس " ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب . " من رحمة " كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة . " فلا ممسك لها " يحسبها . " وما يمسك فلا مرسل له " يطلقه ، واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب ، وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه . " من بعده " من بعد إمساكه . " وهو العزيز " الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه . " الحكيم " لا يفعل إلا بعلم وإتقان . ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال :
3 -" يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " احفظوا بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها ، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله : " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به ، ورفع " غير " للحمل على محل " من خالق " بأنه وصف أو بدل ، فإن الاستفهام بمعنى النفي ، أو لأنه فاعل " خالق " وجره حمزة و الكسائي حملاً على لفظه ، وقد نصب على الاستثناء ، و " يرزقكم " صفة لـ " خالق " أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ ، وعلى الأخير يكون إطلاق " هل من خالق " مانعاً من إطلاقه على غير الله .
4 -" وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك " أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم ، فوضع " فقد كذبت " موضعه استغناء بالسبب عن المسبب ، وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة . " وإلى الله ترجع الأمور " فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب .
5 -" يا أيها الناس إن وعد الله " بالحشر والجزاء . " حق " لا خلف فيه . " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها . " ولا يغرنكم بالله الغرور " الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية ، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة . وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود .
6 -" إن الشيطان لكم عدو " عداوة عامة قديمة . " فاتخذوه عدواً " في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم . " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا .
7 -" الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير " وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة وبناء للأمر كله على الإيمان والعمل الصالح وقوله :
8 -" أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً " تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقاً والقبيح حسناً ، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه ، فحذف الجواب لدلالة : " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه محسرة ، فحذف الجواب لدلالة : " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب ، والفاءات الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب ، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف ، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه . " إن الله عليم بما يصنعون " فيجازيهم عليه .
9 -" والله الذي أرسل الرياح " وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي الريح . " فتثير سحاباً " على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ، ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها ، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر . " فسقناه إلى بلد ميت " وقرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد . " فأحيينا به الأرض " بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره ، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً . " بعد موتها " بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع . " كذلك النشور " أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية ، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فينها . وقيل في كيفية الإحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق .
10 -" من كان يريد العزة " الشرف والمنعة . " فلله العزة جميعاً " أي فليطلبها من عنده فإن له كلها ، فاستغنى بالدليل عن المدلول . " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح ، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما ، أو صعود الكتبة بصحيفتهما ، والمستكن في " يرفعه " لـ " الكلم " فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب " العمل " ، أو لـ " العمل " فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة . وقرئ " يصعد " على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك . وقيل " الكلم الطيب " يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن . " وعنه عليه الصلاة والسلام : هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن ، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل " . " والذين يمكرون السيئات " المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه . " لهم عذاب شديد " لا يؤبه دونه بما يمكرون به . " ومكر أولئك هو يبور " يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله :
11 -" والله خلقكم من تراب " بخلق آدم عليه السلام منه . " ثم من نطفة " بخلق ذريته منها . " ثم جعلكم أزواجاً " ذكراناً وإناثاً . " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " إلا معلومة له . " وما يعمر من معمر " وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر . " ولا ينقص من عمره " من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره ، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصاً ، والضمير له وإن لم يذكر للدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم : لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق . وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل : أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون . وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوماً فيوماً ، وعن يعقوب (( ولا ينقص )) على البناء للفاعل . " إلا في كتاب " هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة . " إن ذلك على الله يسير " إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص .
12 -" وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " ضرب مثل للمؤمن والكافر ، والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره ، والأجاج الذي يحرق بملوحته . وقرئ (( سيغ )) بالتشديد و (( سيغ )) بالتخفيف و " ملح " على فعل . " ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حليةً تلبسونها " استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم ، أو تمام التمثيل والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء ، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته ، لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر ، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع . والمراد بـ " الحلية " اللآلئ واليواقيت . " وترى الفلك فيه " في كل . " مواخر " تشق الماء يجريها . " لتبتغوا من فضله " من فضل الله بالنقلة فيها ، واللام متعلقة بـ " مواخر " ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة . " ولعلكم تشكرون " على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال .
13 -" يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمىً " هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة . " ذلكم الله ربكم له الملك " الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء . وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ، ويحتمل أن يكون " له الملك " كلاماً مبتدأ في قرآن . " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية ، والقطمير لفاقة النواة .
14 -" إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم " لأنهم جامد . " ولو سمعوا " على سبيل الفرض . " ما استجابوا لكم " لعدم قدرتهم على الإنفاع ، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم . " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون " ما كنتم إيانا تعبدون " . " ولا ينبئك مثل خبير " ولا يخبرك بالأمر مخبر " مثل خبير " به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى ، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين . والمارد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم .
15 -" يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله " في أنفسكم وما يعن لكم ، وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء ، وأن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال : " وخلق الإنسان ضعيفاً " . " والله هو الغني الحميد " المستغني على الإطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد .
16 -" إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " بقوم آخرين أطوع منكم ، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه .
17 -" وما ذلك على الله بعزيز " بمتعذر أو متعسر .
18 -" ولا تزر وازرة وزر أخرى " ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وأما قوله : " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم ، وكل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم . " وإن تدع مثقلة " نفس أثقلها الأوزار . " إلى حملها " تحمل بعض أوزارها . " لا يحمل منه شيء " لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها . " ولو كان ذا قربى " ولو كان المدعو ذا قرابتها ، فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه . وقرئ (( ذو قربى )) على حذف الخبر وهو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام . " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب " غائبين عن عذابه ، أو عن الناس في خلواتهم ، أو غائباً عنهم عذابه . " وأقاموا الصلاة " فإنهم المنتفعون بالإنذار لا غير ، واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار . " ومن تزكى " ومن تطهر من دنس المعاصي . " فإنما يتزكى لنفسه " إذ نفعه لها ، وقرئ (( ومن أزكى فإنما يزكي )) وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي . " وإلى الله المصير " فيجازيهم على تزكيهم .
19 -" وما يستوي الأعمى والبصير " الكافر والمؤمن ، وقيل هما مثلان للصنم ولله عز وجل .
20 -" ولا الظلمات ولا النور " ولا الباطل ولا الحق .
21 -" ولا الظل ولا الحرور " ولا الثواب ولا العقاب ، ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد . و " الحرور " فعول من الحر غلب على السموم . وقيل السموم ما يهب نهاراً والحرور ما تهب ليلاً .
22 -" وما يستوي الأحياء ولا الأموات " تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل . وقيل للعلماء والجهلاء . " إن الله يسمع من يشاء " هدايته فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته . " وما أنت بمسمع من في القبور " ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في إقناطه عنهم .
23 -" إن أنت إلا نذير " فما عليك إلا الإنذار وأما الإسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم .
24 -" إنا أرسلناك بالحق " محقين أو محقاً ، أو إرسالاً مصحوباً بالحق ، ويجوز أن يكون صلة لقوله : " بشيراً ونذيراً " أي بشيراً بالوعد الحق ونذيراً بالوعيد الحق . " وإن من أمة " أهل عصر . " إلا خلا " مضى . " فيها نذير " من نبي أو عالم ينذر عنه ، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل ، أو لأن الإنذار هو الأهم المقصود من البعثة .
25 -" وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات " بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم . " وبالزبر " كصحف إبراهيم عليه والسلام . " وبالكتاب المنير " كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع ، ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين .
26 -" ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير " أي إنكار بالعقوبة .
27 -" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها " أجناسها وأصنافها على أن كلا منها ذو أصناف مختلفة ، أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما . " ومن الجبال جدد " أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقرئ (( جدد )) بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و (( جدد )) بفتحتين وهو الطريق الواضح . " بيض وحمر مختلف ألوانها " بالشدة والضعف . " وغرابيب سود " عطف على " بيض " أو على " جدد " كأنه قيل : ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها " غرابيب " متحدة اللون ، وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة : والمؤمن العائذات الطير يمسحها وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار والإظهار .
28 -" ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك " كاختلاف الثمار والجبال . " إنما يخشى الله من عباده العلماء " إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان أعلم به كان أخشى منه ولذلك " قال عليه الصلاة والسلام : إني أخشاكم لله وأتقاكم له " ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر . وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيباً . " إن الله عزيز غفور " تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه .
29 -" إن الذين يتلون كتاب الله " يداومون على قرائته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنواناً ، والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين . " وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية " كيف اتفق من غير قصد إليهما . وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة . " يرجون تجارةً " تحصيل ثواب الطاعة وهو خبر إن . " لن تبور " لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله :
30 -" ليوفيهم أجورهم " علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم ، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك " ليوفيهم " أو عاقبة لـ " يرجون " . " ويزيدهم من فضله " على ما يقابل أعمالهم . " إنه غفور " لفرطاتهم . " شكور " لطاعاتهم أي مجازيهم عليها ، وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر إن ويرجون حال من واو وأنفقوا .
31 -" والذي أوحينا إليك من الكتاب " يعني القرآن و " من " للتبيين أو الجنس و " من " للتبعيض . " هو الحق مصدقاً لما بين يديه " أحقه مصدقاً من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام . " إن الله بعباده لخبير بصير " عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية .
32 -" ثم أورثنا الكتاب " حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه ، أو أورثناه من الأمم السالفة ، والعطف على " إن الذين يتلون " " والذي أوحينا إليك " اعتراض لبيان كيفية التوريث . " الذين اصطفينا من عبادنا " يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ، أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم . " فمنهم ظالم لنفسه " بالتقصير في العمل به . " ومنهم مقتصد " يعمل له في غالب الأوقات . " ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " بضم التعليم والإرشاد إلى العمل ، وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم . وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيئ والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة ، وهو معنى " قوله عليه الصلاة والسلام : أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته " . وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد ، وتقديمه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان . " ذلك هو الفضل الكبير " إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق .
33 -" جنات عدن يدخلونها " مبتدأ وخبر الضمير للثلاثة أو لـ " الذين " أو للـ " مقتصد " والـ " سابق " ، فإن المارد بهما الجنس وقرئ (( جنة عدن )) و " جنات عدن " منصوب بفعل يفسره الظاهر ، وقرأ أبو عمرو (( يدخلونها )) على البناء للمفعول . " يحلون فيها " خبر ثان أو حال مقدرة ، وقرئ (( يحلون )) من حليت المرأة فهي حالية . " من أساور من ذهب " " من " الأولى للتبعيض والثانية للتبيين . " ولؤلؤاً " عطف على " ذهب " أي " من ذهب " مرصع باللؤلؤ ، أو " من ذهب " في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع و عاصم رحمهما الله تعالى عطفاً على محل " من أساور " . " ولباسهم فيها حرير " .
34 -" وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " همهم من خوف العاقبة ، أو همهم من أجل المعاش وآفاته أو من وسوسة إبليس وغيرها ، وقرئ " الحزن " . " إن ربنا لغفور " للمذنبين . " شكور " للمطيعين .
35 -" الذي أحلنا دار المقامة " دار الإقامة . " من فضله " من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه . " لا يمسنا فيها نصب " تعب . " ولا يمسنا فيها لغوب " كلا إذ لا تكليف فيا ولا كد ، أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة .
36 -" والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم " لا يحكم عليهم بموت ثان . " فيموتوا " فيستريحوا ، ونصبه بإضمار أن ، وقرئ (( فيموتون )) عطفاً على " يقضى " فقوله تعالى : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " . " ولا يخفف عنهم من عذابها " بل كلما خبت زيد إسعارها . " كذلك " مثل ذلك الجزاء . " نجزي كل كفور " مبالغ في الكفر أو الكفران ، وقرأ أبو عمرو (( يجزى )) على بناء المفعول وإسناده إلى " كل " ، وقرئ (( يجازي )) .
37 -" وهم يصطرخون فيها " يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته . " ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل " بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه . " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير " جواب من الله وتوبيخ لهم و " ما يتذكر " فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر ، وقيل ما بين العشرين إلى الستين . " وعنه عليه الصلاة والسلام (( العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة )) " . والعطف على معنى " أولم نعمركم " فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب . " فذوقوا فما للظالمين من نصير " يدفع العذاب عنهم .
38 -" إن الله عالم غيب السموات والأرض " لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم . " إنه عليم بذات الصدور " تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم لغيرها .
39 -" هو الذي جعلكم خلائف في الأرض " ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها ، وقيل خلفاً بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف . " فمن كفر فعليه كفره " جزاء كفره . " ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً " بيان له ، والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه ، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة .
40 -" قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " يعني آلهتهم والإضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء الله أو لأنفسهم فيما يملكونه . " أروني ماذا خلقوا من الأرض " بدل من " أرأيتم " بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه . " أم لهم شرك في السموات " أم لهم شركة مع الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية . " أم آتيناهم كتاباً " ينطق على أنا اتخذناهم شركاء . " فهم على بينة منه " على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ، ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله تعالى : " أم أنزلنا عليهم سلطاناً " وقرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و الكسائي (( على بينات )) فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل . " بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا " لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغريز الأسلاف الأخلاف ، أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه .
41 -" إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا " كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ ، أنو يمنعهما أن تزولا لأن الإمساك منع . " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد " ما أمسكهما . " من بعده " من بعد الله أو من بعد الزوال ، والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء . " إنه كان حليماً غفوراً " حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هداً كما قال تعالى : " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض " .
42 -" وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم " . وذلك أن قريشاً لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن " أهدى من إحدى الأمم " ، أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم ، أو من الأمة التي يقال فيها هي " إحدى الأمم " تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة . " فلما جاءهم نذير " يعني محمداً عليه الصلاة والسلام . " ما زادهم " أي النذير أو مجيئه على التسبب . " إلا نفوراً " تباعداً عن الحق .
43 -" استكباراً في الأرض " بدل من نفوراً أو مفعول له . " ومكر السيئ " أصله وإن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف . وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل . " ولا يحيق " ولا يحيط . " المكر السيئ إلا بأهله " وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر ، وقرئ " ولا يحيق المكر " أي ولا يحيق الله . " فهل ينظرون " ينتظرون . " إلا سنة الأولين " سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم . " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيباً ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم ، وقوله :
44 -" أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين . " وكانوا أشد منهم قوةً وما كان الله ليعجزه من شيء " ليسبقه ويفوته . " في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً " بالأشياء كلها . " قديراً " عليها .
45 -" ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا " من المعاصي . " ما ترك على ظهرها " ظهر الأرض " من دابة " من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم ، وقيل المراد بالدابة الإنس وحده لقوله : " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمىً " هو يوم القيامة . " فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً " فيجازيهم على أعمالهم . " عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة : أن أدخل من أي باب شئت )) " .