1-" تنزيل الكتاب " خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره " من الله العزيز الحكيم " وهو على الأول صلة لـ" تنزيل " ، أو خبر ثان أو حال عمل فيها الإشارة أو لـ" تنزيل " ، والظاهر أن " الكتاب " على الأول السورة وعلى الثاني القرآن ، وقرئ تنزيل بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أ و الزم .
2-" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله . " فاعبد الله مخلصاً له الدين " ممحصاً له الدين من الشرك والرياء ، وقرئ برفع الدين عن الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال :
3-" ألا لله الدين الخالص " أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة ، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر . " والذين اتخذوا من دونه أولياء " يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم ، وهو مبتدأ خبره على الأول " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " بإضمار القول " إن الله يحكم بينهم " وهو متعين على الثاني ، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة و " زلفى " مصدر أو حال ، وقرئ قالوا ما نعبدهم و ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و " نعبدهم " بضم النون اتباعاً . " في ما هم فيه يختلفون " من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابلتهم ، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها . " إن الله لا يهدي " لا يوفق للاهتداء إلى الحق " من هو كاذب كفار " فإنهما فاقدا البصيرة .
4-" لو أراد الله أن يتخذ ولداً " كما زعموا " لاصطفى مما يخلق ما يشاء " إذ لا موجود سواه إلا هو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه ، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله : " سبحانه هو الله الواحد القهار " فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحدة الذاتية ، وهي تنافي المماثلة فضلاً عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة ن والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد ،ثم استدل على ذلك بقوله :
5-" خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس ، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة "وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى " هو منتهى دوره أو منقطع حركته " ألا هو العزيز " القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء . " الغفار " حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة .
6-" خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب ، وفيه ما ذكره ثلاث دلالات : خلق آدم أولاً من غير أب و أم ، ثم خلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما . و " ثم " للعطف على محذوف هو صفة " نفس " مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها ، أو على " خلقكم " لتفاوت ما بين الآيتين ، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية . وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء . " وأنزل لكم " وقضى أو قسم لكم ، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار . " من الأنعام ثمانية أزواج " ذكر و أنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز . " يخلقكم في بطون أمهاتكم " بيان لكيفية ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة ، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون . " خلقاً من بعد خلق " حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف . " في ظلمات ثلاث " ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن . " ذلكم " الذي هذه أفعاله " الله ربكم " هو المستحق لعبادتكم والمالك " له الملك لا إله إلا هو " إذ لا يشاركه في الخلق غيره " فأنى تصرفون " يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك .
7-" إن تكفروا فإن الله غني عنكم " عن إيمانكم " ولا يرضى لعباده الكفر " لاستضرارهم به رحمة عليهم " وإن تشكروا يرضه لكم " لأنه سبب فلا حكم ، وقرأ ابن كثير و نافع في رواية و أبو عمرو و الكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك ، وعن أبي عمرو و يعقوب إسكانها وهو لغة فيها " ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون " بالمحاسبة والمجازاة " إنه عليم بذات الصدور " فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم .
8-" وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه " لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه . " ثم إذا خوله " أعطاه من الخول وهو التعهد ، أو الخول وهو الافتخار. " نعمةً منه " من الله " نسي ما كان يدعو إليه " أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو ربه الذي كان يتضرع إليه و " ما " ، مثل الذي في قوله : " وما خلق الذكر والأنثى " "من قبل " من قبل النعمة " وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله " وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس بفتح الياء ، والضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين " قل تمتع بكفرك قليلاً " أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له ، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله : " إنك من أصحاب النار " على سبيل الاستئناف للمبالغة .
9-" أمن هو قانت " قائم بوظائف الطاعات " آناء الليل " ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير أم من هو قانت ، أو منقطعة والمعنى بل " أمن هو قانت " كمن هو بضده ، وقرأ الحجازيان و حمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداداً . " ساجداً وقائماً " حالان من ضمير " قانت " ، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين " يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم . وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون " إنما يتذكر أولو الألباب " بأمثال هذه البيانات ، وقرئ يذكر بالإدغام .
10-" قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم " بلزوم طاعته " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية ، وفي هذه بيان لمكان " حسنة " " وأرض الله واسعةً " فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه " إنما يوفى الصابرون " على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها ." أجرهم بغير حساب " أجراً لا يهتدي إليه حساب الحساب ، وفي الحديث إنه " ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم ، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " .
11-" قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين " موحداً له .
12-" أمرت وأنا أول المسلمين " وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ،لأن قصب السبق في الدين بالإخلاص أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم ، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة ، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضاً تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين ، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به .
13-" قل إني أخاف إن عصيت ربي " بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء " عذاب يوم عظيم " لعظمة ما فيه .
14-" قل الله أعبد مخلصاً له ديني " أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصاً له دينه بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأموراً بالعبادة والإخلاص خائفاً عن المخالفة من العقاب قطعاً لأطماعهم ، ولذلك رتب عليه قوله :
15-" فاعبدوا ما شئتم من دونه " تهديداً وخذلاناً لهم " قل إن الخاسرين " الكاملين في الخسران " الذين خسروا أنفسهم " بالضلال " وأهليهم " بالإضلال . " يوم القيامة " حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران .وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده " ألا ذلك هو الخسران المبين " مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير بـ" ألا " ، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه بـ" المبين " .
61-" لهم من فوقهم ظلل من النار " شرح لخسرانهم " ومن تحتهم ظلل " أطباق من النار هي ظلل للآخرين " ذلك يخوف الله به عباده " ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليتجنبوا ما يوقعهم فيه " يا عباد فاتقون " ولا تتعرضوا لا يوجب سخطي .
17-" والذين اجتنبوا الطاغوت " البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت ، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان " أن يعبدوها " بدل اشتمال منه " وأنابوا إلى الله " وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه " لهم البشرى " بالثواب على ألسنة الرسل ، أو الملائكة عند حضور الموت " فبشر عباد " .
18-" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " وضع فيه الظاهر موضع ضمير " الذين اجتنبوا " للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل . " أولئك الذين هداهم الله " لدينه " وأولئك هم أولو الألباب " العقول السلمية عن منازعة الوهم والعادة ، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها .
19-" أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار " جملة شرطية معطوفة على محذوف دل عليه الكلام تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، فكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار والاستبعاد ووضع " من في النار " موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه ، وأن اجتهاد الرسل في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ، ويجوز أن يكون " أفأنت " تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإشعار بالجزاء المحذوف .
20-" لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف " علالي بعضها فوق بعض . " مبنية " بنيت بناء النازل على الأرض " تجري من تحتها الأنهار " أي من تحت تلك الغرف " وعد الله " مصدر مؤكد لأن قوله " لهم غرف " في معنى الوعد " لا يخلف الله الميعاد " ولأن الخلف نقص وهو على الله محال .
21-" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً " هو المطر " فسلكه " فأدخله " ينابيع في الأرض " هي عيون ومجاري كائنة فيه ، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال " ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه " أصنافه من بر وشعير وغيرهما ، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما " ثم يهيج " يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته " فتراه مصفراً " من يبسه " ثم يجعله حطاماً " فتاتاً " إن في ذلك لذكرى " لتذكيراً بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه ، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها " لأولي الألباب " إذ لا يتذكر به غيرهم .
22-" أفمن شرح الله صدره للإسلام " حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث إن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإسلام " فهو على نور من ربه " يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق . وعنه عليه الصلاة والسلام " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، فقيل فما علامة ذلك قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله " .وخبر " من " محذوف دل عيه " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من ، لأن القاسي من أجل الشيء تأبياً عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر ، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابلة بقساوة القلب وأسنده إليه ، " أولئك في ضلال مبين " يظهر للناظر بأدنى نظر ، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده .
23-" الله نزل أحسن الحديث " يعني القرآن ، روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت . وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه " كتاباً متشابهاً " بدل من " أحسن " أو حال منه وتشابهه تشابه أبعاضه في الإعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة . " مثاني " جمع مثنى أو مثنى أومثن على ما مر في الحجر ، وصف به كتاباً باعتبار تفاصيله كقولك : القرآن سور وآيات ، والإنسان : عظام وعروق وأعصاب ، أو جعل تمييزاً من " متشابهاً " كقولك : رأيت رجلاً حسناً شمائله " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " تشمئز خوفاً مما فيه من الوعيد وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعياً كتركيب اقمطر من القمط وهو الشد " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " بالرحمة وعموم المغفرة ، والإطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه ، والتعدية بـ" إلى " لتضمن معنى السكون والاطمئنان ، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها " ذلك " أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء " هدى الله يهدي به من يشاء " هدايته " ومن يضلل الله " ومن يخذله " فما له من هاد " يخرجهم من الضلال .
24-" أفمن يتقي بوجهه " يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه " سوء العذاب يوم القيامة " كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره . " وقيل للظالمين " أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالموجب لما يقال لهم وهو : " ذوقوا ما كنتم تكسبون " أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة .
25-" كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها .
26-" فأذاقهم الله الخزي " الذل " في الحياة الدنيا " كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء " ولعذاب الآخرة " المعد لهم " أكبر " لشدنه ودوامه " لو كانوا يعلمون " لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به .
27-" ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " يحتاج إليه الناظر في أمر دينه " لعلهم يتذكرون " يتعظون به .
28-" قرآناً عربيا" حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً ، أو مدح له " غير ذي عوج " لا اختلال فيه بوجه ما وهو أبلغ من المستقيم و أخصر بالمعاني . وقيل بالشك استشهاداً بقوله : وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب وهو تخصيص له ببعض مدلوله " لعلهم يتقون " عله أخرى مرتبة على الأول .
29-" ضرب الله مثلاً " للمشرك والموحد " رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل " مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته ، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه ، جمع يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه ، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و " رجلاً " بدل من مثل وفيه صلة " شركاء " ، والتشاكس والتشاخص الاختلاف . وقرأ نافع و ابن عامر و الكوفيون سلماً بفتحتين وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها ، أو حذف مها ذا و رجل سالم أي وهناك رجل سالم ، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع " هل يستويان مثلاً " صفة وحالاً ونصبه على التمييز ولذلك وحده ، وقرئ مثلين للإشعار باختلاف النوع ، أو لأن المراد على " يستويان " في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل " الحمد لله " كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه ، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق . " بل أكثرهم لا يعلمون " فيشركون به غيره من فرط جهلهم .
30-" إنك ميت وإنهم ميتون " فإن الكل بصدد الموت في عداد الموتى ، وقرئ مائت و مائتون لأنه مما سيحدث .
31-" ثم إنكم " على تغليب المخاطب على الغيب " يوم القيامة عند ربكم تختصمون " فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا في الباطل في التشريك ، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد ، ويعتذرون بالأباطيل مثل " أطعنا سادتنا " و " وجدنا آباءنا " . وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضاً فما دار بينهم في الدنيا .
32-" فمن أظلم ممن كذب على الله " بإضافة الولد والشريك إليه " وكذب بالصدق " وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ." إذ جاءه " من غير توقف وتفكر في أمره " أليس في جهنم مثوى للكافرين " وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم ، واللام تحتمل العهد والجنس ، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب .
33-" والذي جاء بالصدق وصدق به " اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله : " أولئك هم المتقون " وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو من تبعه كما في قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون " وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وذلك يقتضي إضمار الذي هو غير جائز وقرئ وصدق به بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف ، أو صار صادقاً بسببه لأنه معجز يدل على صدقه وصدق به على البناء للمفعول .
34-" لهم ما يشاؤون عند ربهم " في الجنة " ذلك جزاء المحسنين " على إحسانهم .
35-" ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا " خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك ، أو للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم ، ويجوز أن يكون بمعنى السيئ كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان ،وقرئ أسوأ جمع سوء " ويجزيهم أجرهم " ويعطيهم ثوابهم ." بأحسن الذي كانوا يعملون " فتعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها .
36-" أليس الله بكاف عبده " استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات ، والعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة و الكسائي عباده وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم . " ويخوفونك بالذين من دونه " يعني قريشاً فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها .وقيل إنه بعث خالداً ليكسر العزى فقال له سادنها أحذركها فإن لها شدة ، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه " ومن يضلل الله " حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر " فما له من هاد " يهديه إلى الرشاد .
37-" ومن يهد الله فما له من مضل " إذ لا راد لفعله كما قال : " أليس الله بعزيز " غالب منيع " ذي انتقام " ينتقم من أعدائه .
38-" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " لوضوح البرهان على تفرده الخالقية " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره " أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه . " أو أرادني برحمة " بنفع " هل هن ممسكات رحمته " فيمسكنها عني ، وقرأ أبو عمرو كاشفات ضره ممسكات رحمته بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته " قل حسبي الله " كافياً في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر . روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك " ، وإنما قال " كاشفات " و "ممسكات " على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها " عليه يتوكل المتوكلون " لعلمهم بأن الكل منه تعالى .
39-" قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " على حالكم ، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان ،وقرئ مكاناتكم " إني عامل " أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين فقال " فسوف تعلمون " .
40-" من يأتيه عذاب يخزيه " فإن خزي أعدائه دليل غلبته ، وقد أخزاهم الله يوم بدر " ويحل عليه عذاب مقيم " دائم وهو عذاب النار .
41-" إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس " لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم . " بالحق " متلبساً به " فمن اهتدى فلنفسه " إذ نفع به نفسه . " ومن ضل فإنما يضل عليها " فإن وبالها لا يتخطاها " وما أنت عليهم بوكيل " وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت .
42-" الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهراً أو باطناً وذلك عند الموت ، أو ظاهراً لا باطناً وهو في النوم " فيمسك التي قضى عليها الموت " ولا يردها إلى البدن ، وقرأ حمزة و الكسائي قضي بضم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع " ويرسل الأخرى " أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة . " إلى أجل مسمى " هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال . وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، الروح التي بها النفس والحياة ، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم قريب مما ذكرناه " إن في ذلك " من التوفي والإمساك والإرسال " لآيات " دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته " لقوم يتفكرون " في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت ، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها ، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حيناً بعد حين إلى توفي آجالها .
43-" أم اتخذوا " بل اتخذت قريش " من دون الله شفعاء " تشفع لهم عند الله " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم .
44-" قل لله الشفاعة جميعاً " لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم ، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه ولا يستقل بها ثم قرر ذلك : " له ملك السموات والأرض " فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه " ثم إليه ترجعون " يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ .
45-" وإذا ذكر الله وحده " دون آلهتهم " اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة " انقبضت ونفرت " وإذا ذكر الذين من دونه " يعني الأوثان " إذا هم يستبشرون " لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله ، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه ، والعامل في " إذا ذكر " العامل في إذ المفاجأة .
46-" قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة " التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم ، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها ." أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون " فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم .
47-" ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة " وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم " في الوعد .
48-" وبدا لهم سيئات ما كسبوا " سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم ." وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " وأحاط بهم جزاؤه .
49-" فإذا مس الإنسان ضر دعانا " إخبار عن الجنس بما يغلب فيه ، والعطف على قوله " و إذا ذكر الله وحده " بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره ، وما بينهم اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم " ثم إذا خولناه نعمةً منا " أعطيناه إياه تفضلاً فإن التخويل مختص به . " قال إنما أوتيته على علم " مني بوجوه كسبه ، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه ، أو من الله بي واستحقاقي ، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها " بل هي فتنة " امتحان له أيشكر أم يكفر ،وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ الـ" نعمة " ، وقرئ بالتذكير " ولكن أكثرهم لا يعلمون " ذلك ، وهو دليل على أن الإنسان للجنس .
50-" قد قالها الذين من قبلهم " الهاء لقوله " إنما أوتيته على علم " لأنها كلمة أو جملة ، وقرئ بالتذكير " والذين من قبلهم " قارون وقومه فإنه قاله ورضي به قومه " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " من متاع الدنيا .
51-" فأصابهم سيئات ما كسبوا " جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم ، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزاً إلى أن جميع أعمالهم كذلك " والذين ظلموا " بالعتو " من هؤلاء " المشركين و " من " للبيان أو للتبعيض " سيصيبهم سيئات ما كسبوا " كما أصاب أولئك ، وقد أصابهم فأنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم " وما هم بمعجزين " بفائتين .
52-" أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " بأن الحوادث كلها ما الله بوسط أو غيره .
53-" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن " لا تقنطوا من رحمة الله " لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتغضيله ثانياً . " إن الله يغفر الذنوب جميعاً " عفواً ولو بعد بعد ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " والتعليل بقوله : " إنه هو الغفور الرحيم " على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في " عبادي " من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعاً ، ووضع اسم " الله " موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع . وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات " .وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت . وقيل عياش والوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله :
54-" وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون " فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب .
55-" واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه ، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة . " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون " بمجيئه فتتداركوا .
56-" أن تقول نفس " كراهة أن تقول وتنكير " نفس " لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى : ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا " يا حسرتى " وقرئ بالياء على الأصل " على ما فرطت " بما قصرت " في جنب الله " في جانبه أي في حقه وهو طاعته . قال سابق البربري : أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع وهو كناية فيها مبالغة كقوله : إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج وقيل في ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى : " والصاحب بالجنب " وقرئ في ذكر الله " وإن كنت لمن الساخرين " المستهزئين بأهله ومحل " إن كنت " نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر .
57-" أو تقول لو أن الله هداني " بالإرشاد إلى الحق " لكنت من المتقين " الشرك والمعاصي .
58-" أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرةً فأكون من المحسنين " في العقيدة والعمل ، وأو للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته .
59-" بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين " رد من الله عليه لما تضمنه قوله " لو أن الله هداني " من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل يفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة ، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله في فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى ، وقرئ بالتأنيث للنفس .
60-" ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله " بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد . " وجوههم مسودة " بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل ، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو . " أليس في جهنم مثوى " مقام " للمتكبرين " عن الإيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك .
61-" وينجي الله الذين اتقوا " وقرئ وينجي " بمفازتهم " بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب ، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقاً لهم بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو قوله : " لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون " وهو حال أو استئناف لبيان المفازة .
62-" الله خالق كل شيء " من خير وشر وإيمان وكفر " وهو على كل شيء وكيل " يتولى التصرف .
63-" له مقاليد السموات والأرض " لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها ، وهو جمع مقليد أو مقلادة من قلدته إذا ألزمته ، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير . وعن عثمان رضي الله عنه : "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها آصابه " والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون " متصل بقوله " وينجي الله الذين اتقوا " وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها ، وتغيير النظم للإشعار بأن المعنى العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم ، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه ، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض ، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب .
64-" قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " أي أفغير أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد ، و " تأمروني " اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض ألهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه " تأمروني أعبد " لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف إن ورفع كقوله : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ويؤيده قراءة " أعبد " بالنصب ، وقرأ ابن عامر تأمرونني بإظهار النونين على الأصل و نافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيراً .
65-" ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك " أي من الرسل " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة ، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخرين للجواب ، وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح ، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب .
66-" بل الله فاعبد " رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك : " وكن من الشاكرين " إنعامه عليك وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص .
67-" وما قدروا الله حق قدره " ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به ، وقرئ بالتشديد " والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه " تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته ، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازاً كقولهم : شابت لمة الليل ، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة . وقرئ بالنصب على الظرف تشبيهاً للمؤقت بالمبهم ، وتأكيد " الأرض " بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة . وقرئ " مطويات " على أنها حال و " السموات " معطوفة على " الأرض " منظومة في حكمها . " سبحانه وتعالى عما يشركون " ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ، أو ما يضاف إليه من الشركاء .
68-" ونفخ في الصور " يعني المرة الأولى " فصعق من في السموات ومن في الأرض " خر ميتاً أو مغشياً عليه " إلا من شاء الله " قيل جبريل ومكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد .وقيل حملة العرش . " ثم نفخ فيه أخرى " نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأولى ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع ،وأخرى تحتمل النصب الرفع " فإذا هم قيام " قائمون من قبورهم أو متوقفون ، وقرئ بالنصب على أن الخبر " ينظرون " وهو حال من ضميره والمعنى : يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم .
69-" وأشرقت الأرض بنور ربها " بما أقام فيها من العدل ، سماه نور لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة . وفي الحديث " الظلم ظلمات يوم القيامة " . ولذلك أضاف اسمه إلى " الأرض " أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه إلى نفسه . " ووضع الكتاب " للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع . وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف " وجيء بالنبيين والشهداء " الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون " وقضي بينهم " بين العباد . " بالحق وهم لا يظلمون " بنقص ثواب أو زيادة عقاب علىما جرى به الوعد .
70-" ووفيت كل نفس ما عملت " جزاءه " وهو أعلم بما يفعلون " فلا يفوته شيء من أفعالهم ،ثم فصل التوفية فقال :
71-" وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً " أفواجاً متفرقة بعضهم في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة ، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه ، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل . " حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها " ليدخلوا و " حتى " وهي التي تحكي بعدها الجملة ، وقرأ الكوفيون فتحت بتخفيف التاء . " وقال لهم خزنتها " تقريعاً وتوبيخاً . " ألم يأتكم رسل منكم " من جنسكم " يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا " وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار ،وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب " قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة ، وقيل هو قوله " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " .
72-" قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم . " فبئس مثوى " مكان " المتكبرين " اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره ، ولا ينافي إشعار بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم ،فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة . وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار " .
73-" وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة " إسراعاً بهم إلى دار الكرامة ، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين . " زمراً " على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة . " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين ، وقرأ الكوفيون فتحت بالتخفيف . " قال لهم خزنتها سلام عليكم " لا يعتريكم بعد مكروه " طبتم " طهرتم من دنس المعاصي " فادخلوها خالدين " مقدرين الخلود فيها ، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوة لأنه مطهره .
74-" وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده " بالبعث والثواب " وأورثنا الأرض " يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه . " نتبوأ من الجنة حيث نشاء " أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة ، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردها " فنعم أجر العاملين " الجنة .
75-" وترى الملائكة حافين " محدقين " من حول العرش " أي حوله و " من " مزيدة أو لابتداء الحفوف . " يسبحون بحمد ربهم " ملتبسين بحمده . والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به ، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق " وقضي بينهم بالحق " أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم . " وقيل الحمد لله رب العالمين " أي على ما قضي بيننا بالحق . والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم . عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين " . عن عائشة رضي الله عنها : " أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر " والله أعلم .