islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير البيضاوى
16917

4-النساء

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

1" يا أيها الناس " خطاب يعم بني آدم. " اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " هي آدم. " وخلق منها زوجها " عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة. " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " بيان لكيفية تولدهم منهما، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر، وذكر " كثيرا " حملاً على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها. وقرئ " خالق " " وبث " على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث. " واتقوا الله الذي تساءلون به " أي يسأل بعضكم بعضاً تقول أسألك بالله، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها. " والأرحام " بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيد وعمراً، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة. وقرئ بالرفع على انه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك، أي مما يتقى أو يتساءل به. وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه. وعنه عليه الصلاة والسلام "الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله". " إن الله كان عليكم رقيبا " حافظاً مطلعاً.

وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا

2" وآتوا اليتامى أموالهم " أي إذا بلغوا، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه، من اليتم وهو الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات. ثم جمع يتمي على يتامى كأسرى وأسارى، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر، حثاً على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد، ولذلك أمر بابتلائهم صغاراً أو لغير البلغ والحكم مقيد كأنه قال، وآتوهم إذا بلغوا. ويؤيد الأول ما روي: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله رسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير. " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها. وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها، وهذا تبديل وليس بتبدل. " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، أي لا تنفقوهما معاً ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى: " فليأكل بالمعروف " " إنه " الضمير للأكل. " كان حوبا كبيرا " ذنباً عظيماً. وقرئ حوباً وهو مصدر حاب " حوبا " وحابا كقال قولاً وقالاً.

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا

3" وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن، فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضناً بها، فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن. أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضاً أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقداراً يمكنكم الوفاء بحقه، لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي: أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى، فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى، فانكحوا ما حل لكم. وإنما عبر عنهن بما ذهاباً إلى إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن، ونظيره " أو ما ملكت أيمانكم " وقرئ " تقسطوا " بفتح التاء على أن " لا " مزيدة أي إن خفتم أن تجوروا. " مثنى وثلاث ورباع " معدولة عن أعداد مكررة وهي: ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها. وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها: الإذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك: اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد. " فإن خفتم أن لا تعدلوا " بين هذه الأعداد أيضاً. " فواحدة " فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع. وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة، أو فالمقنع واحدة. " أو ما ملكت أيمانكم " سوى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن " ذلك " أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري. " أدنى أن لا تعولوا " أقرب من أن لا تميلوا، يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار، وعول الفريضة إذا الميل عن حد السهام المسماة. وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤمن على الكناية. ويؤيده قراءة " فلا تميلوا " من أعال الرجل إذا كثر عياله، ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع.

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا

4" وآتوا النساء صدقاتهن " مهورهن. وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف، وبضم الصاد وسكون الدال، جمع صدقة كغرفة، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة. " نحلة " أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلاً إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة. وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلاً منه عليهن فتكون حالاً من الصدقات. وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له، أو حال من الصدقات أي ديناً من الله تعالى شرعه، والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم. " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " للصداق حملاً على المعنى أو جرى مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة: كأنه في الجلد توليع البهق إذ سئل فقال: أردت كأن ذاك. وقيل للإيتاء، ونفساً تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق عن طيب نفس، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز، وقال منه بعثاً لهن على تقليل الموهوب " فكلوه هنيئا مريئا "فخذوه وأنفقوه حلالاً بلا تبعة. والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالاً من الضمير. وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان، والمريء ما تحمد عاقبته. روي: أن ناساً كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئاً مما ساق إليها. فنزلت.

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا

5" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم، وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة. وقيل نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطي امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم. وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقولهم واستهجاناً لجعلهم قواماً على أنفسهم وهو أوفق لقوله: " التي جعل الله لكم قياما " أي تقومون بها وتنتعشون، وعلى الأول يؤول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً سمي ما به القيام قياماً للمبالغة. وقرأ نافع و ابن عامر " قيما " بمعناه كعوذ بمعنى عياذ. وقرئ " قواما " وهو ما يقام به. " وارزقوهم فيها واكسوهم " واجعلوها مكناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه. " وقولوا لهم قولا معروفا " عدة جميلة تطيب بها نفوسهم، والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل بالحسن، والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْ

6" وابتلوا اليتامى " اختبروهم قبل بلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف، بأن يكل إليه مقدمات العقد. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه. " حتى إذا بلغوا النكاح " حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمسة عشر سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود". وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ، لأنه يصلح للنكاح عنده. " فإن آنستم منهم رشدا " فإن أبصرتم منهم رشداً. وقرئ أحستم بمعنى أحسستم. " فادفعوا إليهم أموالهم " من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذاً المتضمنة معنى الشرط، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل، وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يأنس منهم الرشد. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة، دفع إليه المال وإن لم يأنس منه الرشد. " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. " ومن كان غنيا فليستعفف " من أكلها. " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " بقدر حاجته وأجرة سعيه، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي، وعنه عليه الصلاة والسلام: "أن رجلاً قال له إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله" وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى. " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى خلافاً لأبي حنيفة. " وكفى بالله حسيبا " محاسباً فلا تخالفوا ما أمرتكم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم.

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا

7" للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " يريد بهم المتوارثين بالقرابة. " مما قل منه أو كثر " بدل مما ترك بإعادة العامل. " نصيبا مفروضا " نصب عل أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى: " فريضة من الله " أو حال إذ المعنى: ثبت لهم مفروضاً نصيب، أو على الإختصاص بمعنى أعني نصيباً مقطوعاً واجباً لهم، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه. روي "أن أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة. أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث. من يحارب ويذب عن الحوزة، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله. فنزلت فبعث إليهما: لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين. فنزلت " يوصيكم الله " فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابن العم". وهو دليل عل جواز تأخير البيان عن وقف الخطاب.

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا

8" وإذا حضر القسمة أولو القربى " ممن لا يرث " واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " فأعطوهم شيئاً من المقسوم تطيباً لقلوبهم. وتصدقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة. وقيل أمر وجوب، ثم اختلف في نسخه والضمير لما ترك أو دل عليه القسمة " وقولوا لهم قولا معروفا " وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم.

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا

9" وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في مر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه، جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم الضياع، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديدي للمخالف بحال أولاده. " فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى، إذ لا ينفع الأول دون الثاني، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب، أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع حق الورثة، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة، أو لحاضري القسمة عذراً جميلاً ووعداً حسناً، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا

10" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " ظالمين، أو على زجه الظلم. " إنما يأكلون في بطونهم " ملء بطونهم. " نارا " ما يجر إلى النار، ويؤول إليها. وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الله قوماً من قبورهم تتأجج أفواههم ناراً. فقيل: من هم؟ فقال: ألم تر أن الله يقول: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " " وسيصلون سعيرا " وسيدخلون ناراً وأي نار". وقرأ ابن عامر و ابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففاً. وقرئ به مشدداً يقال صلى النار قاسى حرها، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها.

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إ

11" يوصيكم الله " يأمركم ويعهد إليكم. " في أولادكم " في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله. " للذكر مثل حظ الأنثيين " أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه، وتخصيص الذكر بالتنصيص عل حظه لأن القصد إلى بيان فضله، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به. " فإن كن نساء " أي إن كان الأولاد نساء خلصاً ليس معهن ذكر، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات. " فوق اثنتين " خبر ثان، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين. " فلهن ثلثا ما ترك " المتوفى منكم، ويدل عليه المعنى. " وإن كانت واحدة فلها النصف " أي وإن كانت المولودة واحدة. وقرأ نافع بالرفع على كان التامة، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان. ثم لما أوهم ذلك أن يزداد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله: " فإن كن نساء فوق اثنتين " ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها. وأن البنتين أمس رحماً من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى: " فلهما الثلثان مما ترك ". " ولأبويه " ولأبوي الميت. " لكل واحد منهما " بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس، والتفصيل بعد الإجمال تأكيداً. " السدس مما ترك إن كان له " أي الميت. " ولد " ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة، وما بقي من ذوي الفروض أيضاً بالعصوبة. " فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه " فحسب. " فلأمه الثلث " مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب، وكأنه قال: فلهما ما ترك أثلاثاً، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة القرب وهو خلاف وضع الشرع. " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " ب'طلاقه يدل على أن الأخوة يريدونها من الثلث إلى السدس، وإن كانوا لا يرثون مع الأب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم، والجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو من الأخوات، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذاً بالظاهر. وقرأ حمزة و الكسائي " فلأمه " بكسر الهمزة اتباعاً للكسرة التي قبلها. " من بعد وصية يوصي بها أو دين " متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية. أو دين، وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة للميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إما يكون على الندور. وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر بفتح الصاد. " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه. روي أن أحد المتوالدين كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته. أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته، أو من لم يوصي فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية. " فريضة من الله " مصدر مؤكد، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم. " إن الله كان عليما " بالمصالح والرتب. " حكيما " فيما قضى وقدر.

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ف

12" ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن " أي ولد وارث من بطنها، أو من صلب بنيها، أو بني بنيها وإن سفل ذكراً كان أو أنثى منكم أو من غيركم. " من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين " فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى من إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة، وتستوي الواحدة والعدد منهم في الربع والثمن. " وإن كان رجل " أي الميت. " يورث " أي يورث منه من ورث صفة رجل. " كلالة " خبر كان أو يورث خبره، وكلالة حال من الضمير فيه وهو من لم يخلف ولداً ولا والداً. أو مفعول له والمراد بها قرابة ليست من جهة الوالد والولد. ويجوز أن يكون الرجل الوارث ويورث من أورث، وكلالة من ليس له بوالد ولا ولد. وقرئ " يورث " عل البناء للفاعل فالرجل الميت وكلالة تحتمل المعني الثلاثة وعلى الأول خبر أم حال، وعلى الثاني مفعول له، وعلى الثالث مفعول به، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى: فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفا حتى ألاقي محمداً فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية، لأنها كالة بالإضافة إليها، ثم وصف بها المورث والوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي. " أو امرأة " عطف على رجل. " وله " أي وللرجل، واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. " أخ أو أخت " أي من الأم، ويدل عليه قراءة أبي و سعد بن مالك " وله أخ أو أخت "، وأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللأخوة الكل، وهو لا يليق بأولاد الأم وأن ما قدر ها هنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها. " فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " سوى بين الذكر والأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن فخص فيه الإجماع. " من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار " أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارة بالوصية دون القربة والإقرار بدين لا يلزمه، وهو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة والمدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير و ابن عامر و ابن عياش عن عاصم. " وصية من الله " مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به، ويؤيده أنه قرئ " غير مضار وصية " بالإضافة أي لا يضار وصية من الله، وهو الثلث فما دونه بالزيادة، أو وصية منه بالأولاد بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب. " والله عليم " بالمضار وغيره. " حليم " لا يعاجل بعقوبته.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

13" تلك " إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث. " حدود الله " شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها. " ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ".

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ

14" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " توحيد الضمير في يدخله، وجمع " خالدين " للفظ والمعنى. وقرأ نافع و ابن عامر " ندخله " بالنون و " خالدين " حال مقدرة كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، وكذلك خالداً وليستا صفتين لجنات وناراً وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له.

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا

15" واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " أي يفعلنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها، والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها. " فاستشهدوا عليهن أربعة منكم " فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن. " فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت " فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجناً عليهن. " حتى يتوفاهن الموت " يستوفي أرواحهن الموت، أو يتوفاهن ملائكة الموت. قيل: قيل كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد، ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى: " الزانية والزاني " " أو يجعل الله لهن سبيلا " كتعيين الحد المخلص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السفاح.

وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا

16" واللذان يأتيانها منكم " يعني الزانية والزاني. وقرأ ابن كثير " واللذان " بتشديد النون وتمكين مد الألف، والباقون بالتخفيف من غير تمكين. " فآذوهما " بالتوبيخ والتقريع، وقيل بالتعيير والجلد. " فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " فاقطعوا عنهما الإيذاء، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر. " إن الله كان توابا رحيما " علة الأمر بالإعراض وترك المذمة. قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد. وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين، والزانية والزاني في الزناة.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

17" إنما التوبة على الله " أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته. " للذين يعملون السوء بجهالة " متلبسين بها سفهاً فإن ارتكاب الذنب سفهاً وتجاهل، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. " ثم يتوبون من قريب " من زمان قريب، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى: " حتى إذا حضر أحدهم الموت " وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر" وسماه قريباً لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى: " قل متاع الدنيا قليل ". أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع، و" من " للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت، أو يزين السوء. " فأولئك يتوب الله عليهم " وعد بالفاء بما أوعد به وكتب على نفسه بقوله: " إنما التوبة على الله " " وكان الله عليما " فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة " حكيما " والحكيم لا يعاقب التائب.

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

18" وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار " سوى بين من يتوب إلى حضور الموت من الفسقة والكفار، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وكأنه قال وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل المراد بالذين يعملون السوء عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات المنافقون لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم، وبالذين يموتون الكفار. " أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " تأكيد لعدم قبول توبتهم، وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء، والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة، وقيل أصله أعددنا فأبدلت الدال الأولى تاء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَ

19" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال: أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها، فنهوا عن ذلك. وقيل: لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه. وقرأ حمزة و الكسائي " كرها " بالضم في مواضعه وهما لغتان. وقيل بالضم المشقة وبالضم ما يكره عليه. " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " عطف على " أن ترثوا "، ولا لتأكيد النفي أي ولا تمنعوهن من التزويج، وأصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها. وقيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن. وقيل تم الكلام بقوله كرهاً ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل. " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة. وقرأ ابن كثير و أبو بكر " مبينة " هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن. " وعاشروهن بالمعروف " بالإنصاف في الفعل والإجمال بالقول. " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح ديناً وأكثر خيراً، وقد تحب ما هو بخلافه. وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير، وعسى في الأصل علة فأقيم مقامه. والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

20" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " تطليق امرأة وتزوج أخرى. " وآتيتم إحداهن " أي إحدى الزوجات، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس. " قنطارا " مالاً كثيراً. " فلا تأخذوا منه شيئا " أي من القنطار. " أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " إستفهام إنكار وتوبيخ، أي تأخذونه باهتين وآثمين،و يحتمل النصب على العلة كما في قولك: قعدت عن الحرب جبناً، لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم. قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة، فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقد يستعمل في افعل الباطل ولذلك فسر ها هنا بالظلم.

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

21" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر. " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " عهداً وثيقاً، وهو حق الصحبة والممازحة، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهم بقوله: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله".

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا

22" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر " النساء" بيان ما نكح على الوجهين. " إلا ما قد سلف " استثناء من المعنى اللازم لنهي وكأنه قيل: وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو من للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب والمعنى ولا تنكحوا حلائل لابائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحهن وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر. " إنه كان فاحشة ومقتا " علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم، ممقوتاً عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي " وساء سبيلا " سبيل من يراه ويفعله.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّ

23" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت " ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد بهن، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله: " حرمت عليكم الميتة " ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة. وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكراً ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريباً أو بعيداً، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى. " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " نزل الله الضراعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أماً والمرضعة أختاً، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب. " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ذكر أولاً محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة، لأن لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج، والربائب جمع ربيبة. والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسماً من نسائكم متعلق بربائبكم، واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم، ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضاً لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بياناً لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل عل معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله: إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست مني على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها "إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها". وإليه ذهب عامة العلماء، غير أنه روي أن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما. ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لان عاملهما مختلف، وفائدة قوله " في حجوركم " تقوية العلة وتكميلها، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة، وإله ذهب جمهور العلماء. وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطاً، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة، أو ملك يمين. وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول. " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس. " وحلائل أبنائكم " زوجاتهم، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج. " الذين من أصلابكم " احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد " وأن تجمعوا بين الأختين " في موضع الرفع عطفاً على المحرمات، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي حرمة في ملك اليمين، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما: حرمتهما آية وأحلتهما آية، يعنيان هذه الآية. وقوله: " أو ما ملكت أيمانكم " فرجح علي كرم الله تعالى وجهه التحريم، وعثمان رضي الله تعالى عنه التحليل. وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غي ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام". " إلا ما قد سلف " استثناء من لازم المعنى، أو منقطع معناه ما قد سلف مغفور له لقوله: " إن الله كان غفورا رحيما ".

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُ

24" والمحصنات من النساء " ذوات الأزواج، أحصنهن التزويج أو الأزواج. وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن. " إلا ما ملكت أيمانكم " يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين، والنكاح مرتفع بالسبي "لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فاستحللناهن". وإياه عني الفرزدق بقوله: وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي. وإطلاق الآية والحديث حجة عليه. " كتاب الله عليكم " مصدر مؤكد، أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً. وقرئ " كتب " الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم " كتب الله " بلفظ الفعل. " وأحل لكم " عطف عل الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفاً على " حرمت ". " ما وراء ذلكم " ما سوى المحرمات الثمان المذكورة. وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع، والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. " أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين، ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن تصرفوا أموالكم محصنين غير مسافيحين أو بدل مما وراء ذلكم بدل الاشتمال. واحتج به الحنفية على أن المهر لابد وأن يكون مالاً. ولا حجة فيه. والإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه. " فما استمتعتم به منهن " فمن تمتعتم به من المنكوحات، أو فما استمتعتم به منهن من الجماع أو عقد عليهن. " فآتوهن أجورهن " مهورهن فإن المهر في مقابلة الإستمتاع. " فريضة " حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضاً أو مصدر مؤكد. " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به في نفقة أو مقام أو فراق. وقيل: نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول: "يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة". وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة، أو تمتيعها بما تعطي. وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه. " إن الله كان عليما " بالمصالح. " حكيما " فيما شرع من الأحكام.

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُ

25" ومن لم يستطع منكم طولا " عنى واعتلاء وأصله الفضل والزيادة. " أن ينكح المحصنات المؤمنات " في موضع النصب بطولاً. أو بفعل مقدر صفة له أي ومن لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر قوله لقوله: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " يعني الإماء المؤمنات، فظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة، ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً. وأول أبو حنيفة رحمه الله تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن، على أن النكاح هو الوطء وحمل قوله تعالى: " من فتياتكم المؤمنات " على الأفضل. كما حمل عليه في قوله: " المحصنات المؤمنات " ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذراً من مخالطة الكفار وموالاتهم، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد، وما فيه من المهانة ونقصان حق الزوج. " والله أعلم بإيمانكم " فاكتفوا بظاهر الإيمان فإنه العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه، ومن حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النسب، والمراد تأنيسهم بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منه ويؤيده. " بعضكم من بعض " أنت وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام. " فانكحوهن بإذن أهلهن " يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقاً لا إشعار له، على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية. " وآتوهن أجورهن " أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن! فحذف ذلك لتقدم ذكره، أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض عن حقه فيجب أن يؤدي إليه، وقال مالك رضي الله عنه: المهر للأمة ذهاباً إلى الظاهر " بالمعروف " بغير مطل وإضرار ونقصان. " محصنات " عفائف. " غير مسافحات " غير مجاهرات بالسفاح. " ولا متخذات أخدان " أخلاء في السر " فإذا أحصن " بالتزويج. قرأ أبو بكر وحمزة بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد. " فإن أتين بفاحشة " زنى. " فعليهن نصف ما على المحصنات " يعني الحرائر. " من العذاب " من الحد لقوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " وهو يدل على أن حد العبد نصف حد الحر، وأن لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف. " ذلك " أي نكاح الإماء. " لمن خشي العنت منكم " لمن خاف الوقوع في الزنا، وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، مستعار لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعه الإثم بأفحش القبائح. وقيل: المراد به الحد وهذا شرط آخر لنكاح الإماء. " وأن تصبروا خير لكم " أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم. قال عليه الصلاة والسلام "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه". " والله غفور " لمن لم يصبر. " رحيم " بأن رخص له.

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

26" يريد الله ليبين لكم " ما تعبدكم به من الحلال والحرام، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم، وليبين مفعول يريد واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة كما في قول قيس بن سعد: أردت لكي ما يعلم الناس أنه سراويل قيس والوفود شهود وقيل المفعول محذوف، وليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله. " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم. " ويتوب عليكم " ويغفر لكم ذنوبكم، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم من المعاصي ويحثكم على التوبة، أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم. " والله عليم " بها " حكيم " في وضعها.

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا

27" والله يريد أن يتوب عليكم " كرره للتأكيد والمبالغة. " ويريد الذين يتبعون الشهوات " يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها. وقيل: المجوس. وقيل: اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. " أن تميلوا " عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات. " ميلا عظيما " بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل له.

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا

28" يريد الله أن يخفف عنكم " فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة. " وخلق الإنسان ضعيفا " لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " ، " إن الله لا يغفر أن يشرك به " ، " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " ، " من يعمل سوءا يجز به "، " ما يفعل الله بعذابكم ".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

29" يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار. " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " استثناء منقطع أي، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه، أو اقصدوا كون تجارة. وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتقاعدين، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقاً. وقيل: المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله. وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. وقرأ الكوفيون " تجارة " بالنصب على كان الناقصة وإضمار الإسم أي إلا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة. " ولا تقتلوا أنفسكم " بالبخع كما تفعله جهلة الهند، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة. ويؤيده ما روي:أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها. أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس. وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم، فإن المؤمنين كنفس واحدة. جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كمال أشار إليه بقوله: " إن الله كان بكم رحيما " أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم. وقيل: معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

30" ومن يفعل ذلك " إشارة إلى القتل، أو ما سبق من المحرمات . " عدوانا وظلما " إفراطاً في التجاوز عن الحق وإتياناً بما لا يستحقه. وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. " فسوف نصليه نارا " ندخله إياها. وقرئ بالتشديد من صلى، وبفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث أنه سبب الصلي. " وكان ذلك على الله يسيرا " لا عسر فيه ولا صارف عنه.

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا

31" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها، وقرئ كبير على إرادة الجنس. " نكفر عنكم سيئاتكم " نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم. واختلف في الكبائر، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع علي حداً أو صرح بالوعيد فيه. وقيل ما علم حرمته بقاطع. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "أنها سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين". وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر. ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلاً عن أن يؤاخذه عليها. " وندخلكم مدخلا كريما " الجنة وما وعد من الثواب، أو إدخالاً مع كرامة. وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكان والمصدر.

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا

32" ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " من الأمور الدنيوية كالجاه والمال، فلعل عدمه خير والمقتضى للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنه تشه لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم، لأنه تمنى ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال. " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله، فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد، والتمني كما قال عليه الصلاة والسلام "ليس الإيمان بالتمني". وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه، وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له. " واسألوا الله من فضله " أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم. وقرأ ابن كثير و الكسائي " واسألوا الله من فضله " وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمراً موجهاً به، وقبل السين واو أو فاء بغير همزة و حمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز. " إن الله كان بكل شيء عليما " فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان. روي "أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالاً فنزلت."

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا

33" ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون " أي ولكل تركة جعلنا وراثاً يلونها ويحرزونها، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل. أو لكل ميت جعلنا وراثاً مما ترك على أن من صلة موالي. لأنه في معنى الوارث، وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي، وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون، على إن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر. " والذين عقدت أيمانكم " موالى الموالاة، كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره. " فآتوهم نصيبهم " أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك: زيداً فاضربه أو معطوف على الوالدان، وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها، والضمير للموالي. وقرأ الكوفيون " عقدت " بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى. " إن الله كان على كل شيء شهيدا " تهديد على منع نصيبهم.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُ

34" الرجال قوامون على النساء " يقومون عليهم قيام الولاة على الرعية، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال: " بما فضل الله بعضهم على بعض " بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل حسن التدبير، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق. " وبما أنفقوا من أموالهم " في نكاحهن كالمهر والنفقة. روي "أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقتص منه، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير". " فالصالحات قانتات " مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج. " حافظات للغيب " لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وعنه عليه الصلاة والسلام: "خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها". وتلا الآية. وقيل لأسرارهم. " بما حفظ الله " بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له، أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن. وقرئ " بما حفظ الله " بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدري لم يكن لحفظ فاعل، والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال. " واللاتي تخافون نشوزهن " عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز. " فعظوهن واهجروهن في المضاجع " في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع. وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن " واضربوهن " يعني ضرباً غير مبرح ولا شائن، والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي التدرج فيها. " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " بالتوبيخ والإيذاء، والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له " إن الله كان عليا كبيرا " فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم، أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم، أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحداً أو ينقص حقه.

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا

35" وإن خفتم شقاق بينهما " خلافاً بين المرأة وزوجها، أضمرها وإن لم يجر ذكرهما لجرى ما يدل عليهما وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار أو لفاعل كقوله نهارك صائم. " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر أو إصلاح ذات البين، رجلاً وسطاً يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز. وقيل الخطاب للأزواج والزوجات واستدل به على جواز التحكيم، والأظهر أن النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ولا يليان الجمع والتفريق إلا بإذن الزوجين، وقال مالك لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه. " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين، أي إن قصدا الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين،. وقيل كلاهما للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما. وقيل للزوجين أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. " إن الله كان عليما خبيرا " بالظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ

36" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " صنماً أو غيره، أو شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً " وبالوالدين إحسانا " وأحسنوا بهما إحساناً. " وبذي القربى " وبصاحب القرابة، " واليتامى والمساكين والجار ذي القربى " أي الذي قرب جواره. وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين. وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحقه. " والجار الجنب " البعيد، أو الذي لا قرابة له. وعنه عليه الصلاة والسلام: "الجيران ثلاثة. فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب". " والصاحب بالجنب " الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك وحصل بجنبك. وقيل المرأة. " وابن السبيل " المسافر أو الضعيف. " وما ملكت أيمانكم " العبيد والإماء. " إن الله لا يحب من كان مختالا " متكبراً بأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم. " فخورا " يتفاخر عليهم.

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

37- "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" بدل من قوله من كان، أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به. وقرأ حمزة و الكسائي ههنا وفي الحديد "بالبخل" بفتح الحرفين وهي لغة. "ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة. "وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً" وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعاراً بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله، وما كان كافراً لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحاً: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر. وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا

38- "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس" عطف على الذين يبخلون، أو الكافرين. وإنما شاركهم في الذم والزهيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم، أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: "ومن يكن الشيطان له قريناً". "ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" ليتحروا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركو مكة. وقيل هم المنافقون. "ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً" تنبيه على أن الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينة لهم كقوله تعالى: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين". والمراد إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار.

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا

39- "وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " أي وما الذي عليهم، أو أي تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان والإنفاق في سبيل الله، وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريض على الفكر لطلب الجواب لعلة يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة، والعوائد الجميلة. وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان ها هنا وأخره في الآية لأخرى لأن القصد بذكره إلى التخصيص ها هنا والتعليل ثم "وكان الله بهم عليماً" وعيد لهم.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا

40"إن الله لا يظلم مثقال ذرة" لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة. وهي النملة الصغيرة. ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء، والمثقال مفعال من الثقل، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. "وإن تك حسنةً" وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث. وحذف النون من غير قياس تشبيهاً بحروف العلة. وقرأ ابن كثير و نافع "حسنة" بالرفع على كان التامة. "يضاعفها" يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير و ابن عامر ويعقوب يضعفها وكلا هما بمعنى. "ويؤت من لدنه" ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل "أجراً عظيماً" عطاء جزيلاً، وإنما سماه أجراً لأنه تابع للأجر مزيداً عليه.

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا

41- " فكيف " أي فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم؟. " إذا جئنا من كل أمة بشهيد " يعني نبيهم يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم، والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وتعظيم الشأن. " وجئنا بك " يا محمد. " على هؤلاء شهيدا " تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لعلمك بعقائدهم، واستجماع شرعك مجامع قواعدهم. وقيل هؤلاء إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم. وقيل إلى المؤمنين كقوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ".

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا

42- "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض" بيان لحالهم حينئذ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء. "ولا يكتمون الله حديثاً" ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثاً ولا يكذبونه بقولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " إذ روي: أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض. وقرأ نافع و ابن عامر "تسوى بهم" على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين. وقرأ حمزة و الكسائي "تسوى" على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أ

43"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم. روي (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مأدبة ودعا نفراً من الصحابة -حين كانت الخمر مباحاً- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون). فنزلت. وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر، من السكر وهو السد. وقرىء "سكارى" بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى. أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة. "ولا جنباً" عطف على قوله "وأنتم سكارى" إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأنه يجرى مجرى المصدر. "إلا عابري سبيل" متعلق بقوله "ولا جنباً"، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنباً في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم، أو صفة لقوله "جنباً" أي جنباً غير عابري سبيل. وفي دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث. ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها، وجوز الجنب عبور المسجد. وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق. "حتى تغتسلوا" غاية النهي عن القربان حال الجنابة، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه. "وإن كنتم مرضى" مرضاً يخاف معه من استعمال الماء، فإن الواجد كالفاقد. أو مرضاً يمنعه من الوصول إليه. "أو على سفر" لا تجدونه فيه. " أو جاء أحد منكم من الغائط " فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين،وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض. "أو لامستم النساء" أو مسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء. وقيل: أو جامعتموهن. وقرأ حمزة و الكسائي هنا وفي المائدة لمستم ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة. "فلم تجدوا ماءً" فلم تتمكنوا من استعماله، إذ الممنوع عنه كالمفقود. ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر. والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملاً فكأنه قيل: وإن كنتم جنباً مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو فلم تجدوا ماء "فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم". أي فتعمدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً. ولذلك قالت الحنفية: لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه. وقال أصحابنا لابد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" أي بعضه، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض، واليد اسم للعضو إلى المنكب، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا "وأيديكم إلى المرافق". "إن الله كان عفواً غفوراً" فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ

44"ألم تر إلى الذين أوتوا" من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم، أو القلب، وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء. "نصيباً من الكتاب" حظاً يسيراً من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود. "يشترون الضلالة" يختارونها على الهدى، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه، أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يأخذون الرشى ويحرفون التوراة. "ويريدون أن تضلوا" أيها المؤمنون. "السبيل" سبيل الحق.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا

45"والله أعلم" منكم. "بأعدائكم" وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وما يريدون بكم فاحذروهم. "وكفى بالله ولياً" يلي أمركم. "وكفى بالله نصيراً" يعينكم فثقوا عليه واكتفوا به عن غيره. والباء تزاد في فاعل كفى لتوكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي.

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَك

46"من الذين هادوا يحرفون" بيان للذين أوتوا نصيباً فإنه يحتملهم وغيرهم، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيراً. أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم، أو خبر محذوف صفته يحرفون. "الكلم عن مواضعه" أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه. وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة. "ويقولون سمعنا" قولك. "وعصينا" أمرك. "واسمع غير مسمع" أي مدعوا إليك بلا سمعت لصمم أو موت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، أو اسمع كلاماً غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولاً به، أو اسمع غير مسمع مكروهاً من قولهم أسمعه فلان إذا سبه، وإنما قالوه نفاقاً. "وراعنا" انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك. "لياً بألسنتهم" فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروهاً، أو فتلا بها وضماً لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقاً. "وطعناً في الدين" استهزاء به وسخرية. " ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا " ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه. "لكان خيراً لهم وأقوم" لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأعدل، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه. "لكن لعنهم الله بكفرهم" ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم. "فلا يؤمنون إلا قليلاً" أي إلا إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للمهم يصيبه أو إلا قليلاً منهم آمنوا أو سيؤمنون

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا

47"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها" من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها، يعني الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، أو في الآخرة. وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوهاً فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار، أو نردها إلى حيث جاءت منه، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء، أو من قبل أن نطمس وجوهاً بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة. "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت" أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت، أو نمسخهم مسخاً مثل مسخهم، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود. والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الإلتفات، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطاً بعد إيمانهم وقد آمن منهم طائفة. "وكان أمر الله" بإيقاع شيء أو وعيده، أو ما حكم به أو قضاه. "مفعولاً" نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا

48"إن الله لا يغفر أن يشرك به" لأنه بت الحكم على خلود عذابه وأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره. "ويغفر ما دون ذلك" أي ما دون الشرك صغيراً كان أو كبيراً. "لمن يشاء" تفضلاً عليه وإحساناً. والمعتزلة علقوه بالفعلين على معنى إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء. وهو من لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب. وفيه تقييد بلا دليل إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ونقض لمذهبهم فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها، فالآية كما هي حجة عليهم فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار. "ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً" ارتكب ما يستحقر دونه الآثام، وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذلك الاختلاق.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا

49"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" يعني أهل الكتاب قالوا "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقيل: "ناس من اليهود جاؤوا بأطفالهم إلى رسول الله فقالوا: هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار". وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها. "بل الله يزكي من يشاء" تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين. وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً. "ولا يظلمون" بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق. "فتيلاً" أدنى ظلم وأصغره، وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة.

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا

50"انظر كيف يفترون على الله الكذب" في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده. "وكفى به" بزعمهم هذا أو بالافتراء. "إثماً مبيناً" لا يخفى كونه مأثماً من بين آثامهم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا

51"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" نزلت في اليهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد. وقيل في حيي ابن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا. والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله. وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء. والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره. "ويقولون للذين كفروا" لأجلهم وفيهم. "هؤلاء" إشارة إليهم. "أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" أقوم ديناً وأرشد طريقاً.

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا

52"أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً" يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا

53" أم لهم نصيب من الملك " أم منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم. " فإذا لا يؤتون الناس نقيرا " أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً ما يوازي نقيراً، وهو النقرة في ظهر النواة. وهذا هو الإغراق في بيان شحهم فإنهم إن بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إن كانوا فقراء أذلاء متفاقرين، ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أتوا نصيباً من الملك على الكناية، وأنهم لا يؤتون الناس شيئاً وإذا وقع بعد الواو والفاء لا لتشريك مفرد جاز فيه الإلغاء والإعمال، ولذلك قرئ فإذاً لا يؤتوا الناس على النصب.

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا

54"أم يحسدون الناس" بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو العرب، أو الناس جميعاً لأن من حسد على النبوة فكأنما حيد الناس كلهم كمالهم. ورشدهم وبخعهم وأنكر عليهم الحسد كما ذمهم على البخل وهما شر الرذائل وكأ، بينهما تلازماً وتجاذباً. "على ما آتاهم الله من فضله" يعني النبوة والكتاب والنصرة والإعزاز وجعل النبي الموعود منهم. "فقد آتينا آل إبراهيم" الذي هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء عمه. "الكتاب والحكمة" النبوة. "وآتيناهم ملكاً عظيماً" فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم.

فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا

55"فمنهم" من اليهود. "من آمن به" بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم. "ومنهم من صد عنه"أعرض عنه ولم يؤمن به وقيل معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فلذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك. "وكفى بجهنم سعيراً" ناراً مسعورة يعذبون بها أي إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا

56"إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً" كالبيان والتقرير لذلك. "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك: بدلت الخاتم قرطاً، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال: "ليذوقوا العذاب" أي ليدوم لهم ذوقه. وقيل يخلق مكانه لهم جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور. "إن الله كان عزيزاً" لا يمتنع عليه ما يريده. "حكيماً" يعاقب على وفق حكمته.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا

57"والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً" قدم ذكر الكفار ووعيدهم على ذكر المؤمنين ووعدهم لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. "لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً" فينانا لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس، وهو إشارة إلى النعمة التامة الدائمة. والظليل صفة مشتقة من الظل لتأكيده كقولهم: شمس شامس وليل أليل ويوم أيوم.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا

58"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" خطاب يعم المكلفين والأمانات، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت فأمره الله أن يرده إليه، فأمر علياً رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه، وصار ذلك سبباً لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبداً "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم، أو يرضى بحكمكم ولأن احكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم. "إن الله نعما يعظكم به" أي نعم شيئاً بيعظكم به، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به. أو مرفوعة موصولة به. والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات. "إن الله كان سميعاً بصيراً" بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ت

59"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبهده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية. أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيهاً على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. وقيل علماء الشرع لقوله تعالى: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ". "فإن تنازعتم" أنت وأولي الأمر منكم. "في شيء" من أمور الدين، وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات. "فردوه" فراجعوا فيه. "إلى الله" إلى كتابه. "والرسول" بالسؤال عنه في زمانه، والمراجعة إلى سنته بعده. واستدل به منكروا القياس وقالوا: إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس. وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس، ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس. "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" فإن الإيمان يوجب ذلك. "ذلك" أي الرد. "خير" لكم. "وأحسن تأويلاً" عاقبة أو أحسن تأويلاً من تأويلكم بلا رد.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

60"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" عن ابن عباس رضي الله عنهما. (أن منافقاً خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه وقال: نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر رضي الله تعالى عنه للمنافق: أكذلك. فقال نعم. مكانكم حتى أخرج إليكم، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضي لمن يرضى بقضاء الله ورسوله) فنزلت. وقال جبريل إن عمر قد فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف وفي معناه من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه كما قال: "وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" وقرئ أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع لقوله تعالى "أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا

61"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول" وقرئ "تعالوا" بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطاً ثم ضم اللام لواو الضمير. "رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً" هو مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصد، والفرق بينه وبين السد أنه غير محسوس والسد محسوس ويصدون في موضع الحال.

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا

62"فكيف" يكون حالهم. "إذا أصابتهم مصيبة" كقتل عمر المنافق أو النقمة من الله تعالى. "بما قدمت أيديهم" من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضى بحكمك. "ثم جاؤوك" حين يصابون للإعتذار، عطف على إصابتهم. وقيل على يصدون وما بينهما اعتراض. "يحلفون بالله" حال. "إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً" ما أردنا بذلك إلا الفصل بالوجه الأحسن والتوفيق بين الخصمين، ولم نرد مخالفتك. وقيل جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا

63"أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم" من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب. "فأعرض عنهم" أي من عقابهم لمصلحة في استبقائهم أو عن قبول معذرتهم. "وعظهم" بلسانك وكفهم عما هم عليه. "وقل لهم في أنفسهم" أي في معنى أنفسهم أو خالياً بهم فإن النصح في السر أنجع. "قولاً بليغاً" يبلغ منهم ويؤثر فيهم، أمرهم التجافي عن ذنوبهم والنصح لهم والمبالغة فيه بالترغيب والترهيب، وذلك مقتضى شفقة الأنبياء عليهم السلام، وتعليق الظرف ببليغاً على معنى بليغاً في أنفسهم مؤثراً فيها ضعيف لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف، والقول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا

64"وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" بسبب إذنه في طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه، وكأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافراً مستوجب القتل، وتقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافراً مستوجب القتل. "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم" بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت. "جاؤوك" تائبين من ذلك وهو خبر أن وإذ متعلق به. "فاستغفروا الله" بالتوبة والإخلاص. "واستغفر لهم الرسول" واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً، وإنما عدل الخطاب تفخيماً لشأنه وتنبيهاً على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب. "لوجدوا الله تواباً رحيماً" لعلموه قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة، وإن فسر وجد بصادف كان تواباً حالاً ورحيماً بدلاً منه أو حالاً من الضمير فيه.

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

65"فلا وربك" أي فوربك، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله: "لا يؤمنون" لأنها تزاد أيضاً في الإثبات كقوله تعالى: "لا أقسم بهذا البلد". "حتى يحكموك فيما شجر بينهم" فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه. "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" ضيقاً مما حكمت به، أو من حكمك أو شكاً من أجله، فإن الشك في ضيق من أمره. "ويسلموا تسليماً" وينقادوا إليك انقياداً بظاهرهم وباطنهم.

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا

66"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" تعرضوا بها للقتل في الجهاد، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا. "أو اخرجوا من دياركم" خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل، وقرأ أبو عمرو و يعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى: "ولا تنسوا الفضل" وقرأ حمزة و عاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل. "ما فعلوه إلا قليل منهم" إلا أناس قليل وهم المخلصون. لما بين إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلاً قليلاً. "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به" من مطاوعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعاً ورغبة. "لكان خيراً لهم" في عاجلهم وآجلهم. "وأشد تثبيتاً" في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتاً لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز. والآية أيضاً مما نزلت في شأن المنافق اليهودي. وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيراً في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل، فقال عليه الصلاة والسلام: " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام : اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك، ثم أرسله إلى جارك ".

وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا

67"وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً" جواب لسؤال مقدر كأنه قيل، وما يكون لهم بعد التثبيت فقال وإذا لو تثبتوا لآتيناهم لأن "إذا" جواب وجزاء.

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

68"ولهديناهم صراطاً مستقيماً" يصلون بسلوكه جناب القدس ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا

69"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق وأعظمهم قدراً. "من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" بيان للذين أو حال منه، أو من ضميره قسمهم أربعة بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، وهم: الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله تعالى. ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته. ولك أن تقول المنع عليهم هم العارفون بالله وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان. والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونوا كمن يرى الشيء قريباً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولاً فيكونون كمن يرى الشيء بعيداً وهم الصديقون، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة وهم العلماء الراسخون في العلم الذين هم شهداء الله في أرضه، وإما أن يكون بأمارات و إقناعات تطمئن إليها نفوسهم وهم الصالحون. "وحسن أولئك رفيقاً" في معنى التعجب، "رفيقاً" في معنى التعجب، ورفيقاً على التمييز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق، أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقاً. روي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يوماً وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله عن حاله فقال: ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترتفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبداً، فنزلت.

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا

70"ذلك" مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم. "الفضل" صفته. "من الله" خبره أو الفضل خبره ومن الله حال والعامل فيه معنى الإشارة. "وكفى بالله عليماً" بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا

71"يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم" تيقظوا واستعدوا للأعداء، والحذر والحذر كالأثر والأثر. وقيل ما يحذر به كالحزم والسلاح. "فانفروا" فاخرجوا إلى الجهاد. "ثبات" جماعات متفرقة، جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه ويجمع أيضاً على ثبين جبراً لما حذف من عجزه. "أو انفروا جميعاً" مجتمعين كوكبة واحدة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن ينبغي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمك قبل الفوات.

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا

72"وإن منكم لمن ليبطئن" الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم تثاقلوا وتخلفوا عن الجاه، من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناساً يوم أحد، من بطأ منقولاً من بطؤ كثقل من ثقل واللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر، والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن. "فإن أصابتكم مصيبة" كقتل وهزيمة. "قال" المبطئ. "قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً" حاضراً فيصيبني ما أصابهم.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا

73"ولئن أصابكم فضل من الله" كفتح وغنيمة. "ليقولن" أكده تنبيهاً على فرط تحسره، وقرئ بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى "من". "كأن لم تكن بينكم وبينه مودة" اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو. "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً" للتنبيه على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه، وإنما أريد أن يكون معكم لمجرد المال، أو حال من الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ لمن يبطئه من المنافقين، وضعفه المسلمين تضريباً وحسداً، كأن لم يكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم مودة حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فازيا ليتني كنت معهم. وقيل إنه متصل بالجملة الأولى وهو ضعيف، إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظاً ومعنى وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف. وقرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب "تكن" بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والمنادى في يا ليتني محذوف أي: يا قوم وقيل يا أطلق للتنبيه على الإتساع فأفوز نصب على جواب التمني وقرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على كنت.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

74"فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة" أي الذين يبيعونها بها، والمعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة، أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون، والمعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم. "ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب، ترغيباً في القتال وتكذيباً لقولهم "قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً" وإنما قال "فيقتل أو يغلب" تنبيهاً على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين، بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء كلمة الحق وإعزاز الدين.

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا

75"وما لكم" مبتدأ وخبر. "لا تقاتلون في سبيل الله" حال والعامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل. "والمستضعفين" عطف على إسم الله تعالى أي وفي سبيل المستضعفين، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم من العدو، أو على سبيل بحذف المضاف أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير، وتخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها وأخصها، "من الرجال والنساء والولدان" بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين، أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين، وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. وقيل المراد به العبيد والإماء وهو جمع وليد. "الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً" فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولي وناصر بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولاهم نصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، والقرية مكة والظالم صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه.

الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا

76"الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله" فيما يصلون به إلى الله سبحانه وتعالى. "الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت" فيما يبلغ بهم إلى الشيطان. "فقاتلوا أولياء الشيطان" لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله: "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله سبحانه وتعالى للكافرين. ضعيف فلا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه، فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَ

77"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم" أي عن القتال. "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" واشتغلوا بما أمرتم به. "فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله" يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه، وإذا جواب للمفاجأة جواب لما وفريق مبتدأ منهم صفته ويخشون على معنى، يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه. "أو أشد خشيةً" عطف عليه إن جعلته حالاً وإن جعلته مصدراً فلا، أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم الله تعالى أي: وكخشية الله تعالى أو كخشية أشد خشية منه، على فرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم: جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله تعالى، أو خشية أشد خشية من خشية الله تعالى. "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" استزادة في مدة الكف عن القتال حذراً من الموت، ويحتمل أنهم ما تفوهوا به ولكن قالوه في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم. "قل متاع الدنيا قليل" سريع التقضي "والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً" أي ولا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه، أو من آجالكم المقدرة. وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي "ولا يظلمون" لتقدم الغيبة.

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ

78"أينما تكونوا يدرككم الموت" قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها. أو على أنه كلام مبتدأ، وأينما متصل بـ"لا تظلمون". "ولو كنتم في بروج مشيدة" في قصور أو حصون مرتفعة، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور، من تبرجت المرأة إذا ظهرت. وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بوصف فاعلها كقولهم: قصيدة شاعرة، ومشيدة من شيد القصر إذا رفعه. "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية، وهما المراد في الآية أي: وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها. "قل كل من عند الله" أي يبسط ويقبض حسب إرادته. "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً" يوعظون به، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى، أو حديثاً ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثاً من صروف الزمان فيفتكرون في فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى.

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا

79"ما أصابك" يا إنسان. "من حسنة" من نعمة. "فمن الله" أي تفضلاً منه، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل ولا أنت قال: ولا أنا". "وما أصابك من سيئة" من بلية. "فمن نفسك" لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي، وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى: "قل كل من عند الله" فإن الكل منه إيجاداً وإيصالاً غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كم قالت عائشة رضي الله عنها ما من مسلم يصيبه من وصب ولا نصب ولا الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر. والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة. "وأرسلناك للناس رسولاً" حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل والتعميم إن علق بها أي رسولاً للناس جميعاً كقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس" ويجوز نصبه على المصدر كقوله: ولا خارجا من في زور الكلام. "وكفى بالله شهيداً" على رسالتك بنصب المعجزات.

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا

80"من يطع الرسول فقد أطاع الله" لأنه عليه الصلاة والسلام في الحقيقة مبلغ، والأمر هو الله سبحانه وتعالى. روي "أنه عليه الصلاة والسلام قال: من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله. فقال: (المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه، ما يريد إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً) فنزلت". "ومن تولى" عن طاعته. "فما أرسلناك عليهم حفيظاً" تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وهو حال من الكاف.

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

81"ويقولون" إذا أمرتهم بأمر. "طاعة" أي أمرنا أو منا الطاعة، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات. "فإذا برزوا من عندك" خرجوا. "بيت طائفة منهم غير الذي تقول" أي زورت خلاف ما قلت لها، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل، أو من بيت الشعر، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر. وقرأ أبو عمرو و حمزة "بيت طائفة" بالإدغام لقربهما في المخرج. "والله يكتب ما يبيتون" يثبته في صحائفهم للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم. "فأعرض عنهم" قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم. "وتوكل على الله" في الأمور كلها سيما شأنهم. "وكفى بالله وكيلاً" يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا

82"أفلا يتدبرون القرآن" يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء. "ولو كان من عند غير الله" أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار. "لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" من تناقض المعنى وتفاوت النظم، وكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية. ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح.

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّي

83"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف" مما يوجب الأمن أو الخوف. "أذاعوا به" أفشوه كما كان يفعل قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة. والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث. "ولو ردوه" أي ولو ردوا ذلك الخبر. " إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم " إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البصراء بالأمور، أو الأمراء. "لعلمه" لعلموا ما أخبروا به على أي وجه يذكر. "الذين يستنبطونه منهم" يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم. وقيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالاً على المسلمين، ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وترفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر أي: يستخرجون علمه من جهتهم، وأصل الاستنباط إخراج النبط: وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر. "ولولا فضل الله عليكم ورحمته" بإرسال الرسول. وإنزال الكتب. "لاتبعتم الشيطان" والكفر والضلال. "إلا قليلاً" أي إلا قليلاً منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه من متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل. أو إلا اتباعاً قليلاً على الندور.

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا

84"فقاتل في سبيل الله" أن تثبطوا وتركوك وحدك. "لا تكلف إلا نفسك"إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود. روي "أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت. فخرج عليه الصلاة والسلام وما معه إلا سبعون لا يلو على أحد". وقرئ لا "تكلف" بالجزم، و "لا نكلف" بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك، لا أنا لا نكلف أحداً إلا نفسك لقوله: "وحرض المؤمنين" على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض "عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا" يعني قريشاً، وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا. "والله أشد بأساً" من قريش. "وأشد تنكيلاً" تعذيباً منهم، وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه.

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا

85"من يشفع شفاعة حسنةً" راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة والسلام: "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك". "يكن له نصيب منها" وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها. "ومن يشفع شفاعةً سيئةً" يريد بها محرماً. "يكن له كفل منها" نصيب من وزرها مساو لها في القدر. " وكان الله على كل شيء مقيتا " مقتدراً من أقات الشيء إذا قدر قال: وذي ضغن كففت الضغن عنه وكنت على مساءته مقيتاً أو شهيداً حافظاً، واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه.

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا

86" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " الجمهور على أنه في السلام، ويدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه وهو أن يزيد عليه ورحمة الله، فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي النهاية وإما برد مثله لما روي "أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك. فقال: وعليك السلام ورحمة الله. وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك. فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية. فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لم تترك لي فضلاً فردت عليك مثله". وذلك لاستجماعه أقسام المطالب السالمة عن المضار وحصول المنافع وثباتها ومنه قيل، أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية وبين أن يحيى بتمامها، وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، وفي الحمام، وعند قضاء الحاجة ونحوها. والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام. وقيل المراد بالتحية العطية وواجب الثواب أو الرد على المتهب، وهو قول قديم للـشافعي رضي الله تعالى عنه. " إن الله كان على كل شيء حسيبا " يحاسبكم على التحية وغيرها.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا

87"الله لا إله إلا هو" مبتدأ وخبر، أو "الله" مبتدأ والخبر " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " أي الله، والله ليحشرنكم من القبور إلى يوم القيامة، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة، ولا إله إلى هو، اعتراض. والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيام الناس من القبور أو للحساب. "لا ريب فيه" في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم، أو صفة للمصدر "ومن أصدق من الله حديثاً" إنكار أن يكون أحد أصدق منه، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا

88"فما لكم في المنافقين" فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين. "فئتين" أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم، وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم. وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. و"فئتين" حال عاملها لكم كقولك: مالك قائماً. و"في المنافقين" حال من "فئتين" أي متفرقتين فيهم، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم، ومعنى الافتراق مستفاد من "فئتين". "والله أركسهم بما كسبوا" ردهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيرهم إلى للنار. وأصل الركس رد الشيء مقلوباً. " أتريدون أن تهدوا من أضل الله " أن تجعلوه من المهتدين. "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" إلى الهدى.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِير

89" ودوا لو تكفرون كما كفروا " تمنوا أن تكفروا ككفرهم. "فتكونون سواءً" فتكونون معهم سواء في الضلال، وهو عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز. " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " فلا توالوهم حتى يؤمنوا وتتحققوا إيمانهم بهجرة هي إلى الله ورسوله لا لأغراض الدنيا، وسبيل الله ما أمر بسلوكه. " فإن تولوا " عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان. " فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم " كسائر الكفرة. " ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " أي جانبوهم رأساً ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَا

90" إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي: إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم، ويفارقون محاربتكم. والقوم هم خزاعة. وقيل: هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خرجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل مال. وقيل بنو بكر بن زيد مناة. "أو جاؤوكم" عطف على الصلة، أي أو الذين جاؤوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم، استثنى من المامور باخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وكف عن قتال الفريقين، أو على صفة وكأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم كافين عن القتال لكم وعليكم. والأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم. وقرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف. "حصرت صدورهم" حال بإضمار قد ويدل عليه أنه قرئ "حصرت صدورهم" وحصرات صدورهم، أو بيان لجاءوكم وقيل صفة محذوف أي جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض. "أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم" أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم. " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم. "فلقاتلوكم" ولم يكفوا عنكم. "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم" فإن لم يتعرضوا لكم. " وألقوا إليكم السلم " الاستسلام والانقياد. "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم.

سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْ

91" ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " هم أسد وغطفان، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا. " كل ما ردوا إلى الفتنة " دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين. " أركسوا فيها " عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب. " فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم " وينبذوا إليكم العهد. " ويكفوا أيديهم " عن قتالكم. " فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم " حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض. " وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا " حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم، أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا[*1] لكم في قتلهم. في الكتاب أذناً (بالتنوين) وأعتقد خطأ

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَ

92" وما كان لمؤمن " وما صح له وليس من شأنه. " أن يقتل مؤمنا " بغير حق. " إلا خطأ " فإنه على عرضته، ونصبه على الحال أو المفعول له أي: لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ. وقيل " ما كان " نفي معنى النهي، والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، والخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً، أو لا يقصد به محذور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، أ, يكون فعل غير مكلف. وقرئ " خطأ " بالمد و " خطا " كعصا بتخفيف الهمزة، والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم، لقي حارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم ولم يشعر به عياش فقتله. " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة " أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة، والتحرير الإعتاق، والحر كالعتيق للكريم من الشيء ومنه حر الوجه لأكرم موضع منه، سمي به لأن الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد، والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس. " مؤمنة " محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة. " ودية مسلمة إلى أهله " مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث، لقول ضحاك بن سفيان الكلابي،: (كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها). وهي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله. " إلا أن يصدقوا " إلا أن يصدقوا عليه بالدية. سمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة" وهو متعلق بعليه، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه. أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف. " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين، أو في تضاعيفهم ولم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية إلى أله إذ لا وراثة بينه وبينهم ولأنهم محاربون. " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " أي وإن كان من قوم كفرة معاهدين، أو أ÷ل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة والدية ولعله فيما إذا كان المقتول معاهداً، أو كان له وارث مسلم. " فمن لم يجد " رقبة بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها. " فصيام شهرين متتابعين " فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين. " توبة " نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة، من تاب الله عليه إذا قبل توبته. أو على المصدر أي وتاب الله عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف أي فعليه صيام شهرين ذا توبة. " من الله " صفتها. " وكان الله عليما " بحاله. " حكيما " فيما أمر في شأنه.

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا

93" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " لما فيه من التهديد العظيم. قال ابن عباس رضي الله عنهم. لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً. ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه. والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب " ونحوه وهو من عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتداً، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ ق

94" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله " سافرتم وذهبتم للغزو. " فتبينوا " فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فبه. وقرأ حمزة و الكسائي " فثبتوا " في الموضعين هنا، وفي الحجرات من التثبت. " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضاً. " لست مؤمنا " وإنما فعلت ذلك متعوذاً. وقرئ " مؤمنا " بالفتح أي مبذولاً له الأمان. " تبتغون عرض الحياة الدنيا " تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ، وهو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت. " فعند الله مغانم " لكم. " كثيرة " نغنيكم عن قتل أمثاله لماله. " كذلك كنتم من قبل " أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم. " فمن الله عليكم " بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين. " فتبينوا " وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفاً، فإن بقاء كافر أهون على الله من قتل امرئ مسلم. وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم. " إن الله كان بما تعملون خبيرا " عالماً به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه. روي "أن سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه" وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال: لا إله إلا الله. فقتله وقال: ود لو فر بأهله وماله. وفيه ذليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر.

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّه

95" لا يستوي القاعدون " عن الحرب. " من المؤمنين " في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه. " غير أولي الضرر " بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه. وقرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو أنه بدل منه. وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم: وكيف وأن أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " " والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " أي لا مساواة بينهم وبين قعد عن الجهاد من غير علة. وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته. " فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه، أو الحال بمعنى ذوي الدرجة. " وكلا " من القاعدين والمجاهدين. " وعد الله الحسنى " المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم، وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب. " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل: وأعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً.

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

96" درجات منه ومغفرة ورحمة " كل واحد منها بدل من أجراً، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك ضربته أسواطاً، وأجراً على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة، ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه. وقيل: الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر، والثاني ما جعل لهم في الآخرة. وقيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى، وبالدرجات منازلهم في الجنة. وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم. وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه الصلاة والسلام "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". " وكان الله غفورا " لما عسى أن يفرط منهم. " رحيما " بما وعد لهم.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا

97" إن الذين توفاهم الملائكة " يحتمل الماضي والمضارع، وقرئ " توفتهم " و " توفاهم " على المضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. " ظالمي أنفسهم " في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة. " قالوا " الملائكة توبيخاً لهم. " فيم كنتم " أي في أي شيء كنتم من أمر دنياكم. " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله. " قالوا " أي الملائكة تكذيباً لهم وتبكيتاً. " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة. " فأولئك مأواهم جهنم " لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار. وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط، وقالوا فيما كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم، وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها. " وساءت مصيرا " مصيرهم نار جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه،وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة،وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام".

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا

98" إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضمير الإشارة إليه، وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر، وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت. " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه، أو حال منه أو من المستكن فيه. واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه، واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.

فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا

99" فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه. " وكان الله عفوا غفورا ".

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

100" ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا " متحولاً من الرغام وهو التراب. وقيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضاً من الرغام. " وسعة " في الرزق وإظهار الدين. " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت " وقرئ " يدركه " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه و بالنصب على إضمار أن كقوله: سأترك منزلي ببني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا " فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما " الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى: ثبت أجره عند الله تعالى ثبوت الأمر الواجب. والآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال: الهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلى الله عليه وسلم فمات.

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا

101" وإذا ضربتم في الأرض " سافرتم. " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر. وأن عائشة رضي الله تعالى عنها "اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة". وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية. بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان، فسمي الإتيان بهما قصراً على ظنهم. ونفي الجنام فيه لتطبيب[*1] به نفوسهم، وأقل سفر تقتصر فيه أربعة برد عندنا وستة عن أبي حنيفة. وقرئ " تقصروا " من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش . " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا " شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى: " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن. وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم: وهو القتال والتعرض بما يكره. [*1]مكتوبة كما هي في الكتاب وأعتقد خطأ. والصحيح (لتطييب) بدون باء.

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُ

102" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضل الجماعة، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره. " فلتقم طائفة منهم معك " فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم. " فإذا سجدوا " يعني المصلين. " فليكونوا " أي غير المصلين. " من ورائكم " يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي، فغلب المخاطب على الغالب. " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا " لاشتغالهم بالحراسة. " فليصلوا معك " ظاهره يدل على أن الإمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائماً حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية. ثم ينتظر قاعداً حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " " ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة " تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم " رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب. " وخذوا حذركم " أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو. " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى.

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا

103" فإذا قضيتم الصلاة " أديتم وفرغتم منها. " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " فداوموا على الذكر في جميع الأحوال، أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن، قياما مسايفين ومقارعين، وقعوداً مرامين وعلى جنوبكم مثخنين." فإذا اطمأننتم " سكنت قلوبكم من الخوف. " فأقيموا الصلاة " فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة. " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " فرضا محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال، وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة، وتعليل للأمر بالإيتاء بها كيفما أمكن. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن.

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

104" ولا تهنوا " ولا تضعفوا. " في ابتغاء القوم " في طلب الكفار بالقتال. " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " إلزام لهم وتقريع على التواني فيه، بأن ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بهم، وهم يرجون من الله بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثروات ما لا يرجو عدوهم، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها. وقرئ " إن تكونوا " بالفتح بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون، ويكون قوله فإنهم يألمون علة للنهي عن الوهن لأجله. والآية نزلت في بدر الصغرى. " وكان الله عليما " بأعمالكم وضمائركم. " حكيما " فيما يأمر وينهى.

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا

105" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس " نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر، سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبكم وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل " بما أراك الله " بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. " ولا تكن للخائنين " أي لأجلهم والذب عنهم " خصيما " للبرآء.

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

106" واستغفر الله " مما همت به. " إن الله كان غفورا رحيما " لمن يستغفر.

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا

107" ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه. " إن الله لا يحب من كان خوانا " مبالغا في الخيانة مصرا عليها. " أثيما " منهمكا فيها. روي: أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا

108" يستخفون من الناس " يستترون منهم حياء وخوفا. " ولا يستخفون من الله " ولا يستحيون منه وهو أحق بأن يستحيا ويخاف منه. " وهو معهم " لا يخفى عليه سرهم فلا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه. " إذ يبيتون " يدبرون ويزورون. " ما لا يرضى من القول " من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور. " وكان الله بما يعملون محيطا " لا يفوت عنه شيء.

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

109" ها أنتم هؤلاء " مبتدأ وخبر. " جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " جملة مبينة لوقوع أولاء خبراً أو صلة عند من يجعله موصولاً. " فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " محامياً يحميهم من العذاب.

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا

110" ومن يعمل سوءا " قبيحاً يسوء به غيره. " أو يظلم نفسه " بما يختص به ولا يتعداه. وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك، وبالظلم الشرك. وقيل: الصغيرة والكبيرة. " ثم يستغفر الله "بالتوبة. " يجد الله غفورا " لذنوبه. " رحيما " متفضلاً عليه، وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار.

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

111" ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " فلا يتعداه وباله كقوله تعالى: " وإن أسأتم فلها ". " وكان الله عليما حكيما " فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته.

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

112" ومن يكسب خطيئة " صغيرة أو ما لا عمد فيه. " أو إثما " كبيرة أو ما كان على عمد. " ثم يرم به بريئا " كما رمى طعمة زيداً، ووحد الضمير لمكان أو. " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة، ولذلك سوى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَا

113" ولولا فضل الله عليك ورحمته " بإعلام ما هم عليه بالوحي، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. " لهمت طائفة منهم " أي من بني ظفر. " أن يضلوك " عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال، والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره فيه. " وما يضلون إلا أنفسهم " لأنه ما أزلك عن الحق وعاد وباله عليهم. " وما يضرونك من شيء " فإن الله سبحانه وتعالى عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم، ومن شيء في موضع النصب على المصدر أي شيء من الضرر " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم " من خفيات الأمور، أو من أمور الدين والأحكام. " وكان فضل الله عليك عظيما " إذ لا فضل أعظم من النبوة.

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

114" لا خير في كثير من نجواهم " من متناجيهم كقوله تعالى: " وإذ هم نجوى " أو من تناجيهم فقوله: " إلا من أمر بصدقة أو معروف " على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل. وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به. " أو إصلاح بين الناس " أو إصلاح ذات البين. " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل واعتبار الأمر من حيث أنه وصلة إليه، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيراً رياء وسمعة لم يستحق به م الله أجراً. ووصف الأجر بالعظم تنبيهاً على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا. وقرأ حمزة و أبو عمرو " يؤتيه " بالياء.

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا

115" ومن يشاقق الرسول " يخالفه، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر. " من بعد ما تبين له الهدى " ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات. " ويتبع غير سبيل المؤمنين " غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل. " نوله ما تولى " نجعله ولياً لما تولى من الضلال، ونخل بينه وبين ما اختاره. " ونصله جهنم " وندخله فيها. وقرئ بفتح النون من صلاة. " وساءت مصيرا " جهنم، والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهم أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً كان اتباع سبيلهم واجباً، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا

116" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " كرره للتأكيد، أو لقصة طعمة. وقيل" جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني شيخ منهك في الذنوب ألا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً، وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى. فنزلت " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا "" عن الحق فإن الشرك اعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى. [*1]في الكتاب كما هي مكتوبة (بالتشديد) اعتقد الصواب بدون (تشديد)

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا

117" إن يدعون من دونه إلا إناثا " يعني اللات والعزى ومناة ونحوها، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال: وما ذكر فإن يسمن فأنثى شديد الأزم ليس له ضروس فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيراً سمي قراداً فإذا كبر سمي حلمة، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث أنها ضاهت الإناث لا نفعاً لها، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الإسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً على لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم. وقيل المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى، وهو جمع أنثى كرباب وربى، وقرئ " أنثى " على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث، ووثنا بالتخفيف ووثناً بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا وأثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة. " وإن يدعون " وإن يعبدون بعبادتها. " إلا شيطانا مريدا " لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها، فكأن في طاعته في ذلك عبادة له، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير. وأصل التركيب للملابسة. ومنه " صرح ممرد " وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها.

لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا

118" لعنه الله " صفة ثانية للشيطان. " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " عطف عليه أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله، وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس. وقد برهن سبحانه وتعالى أولاً على أن الشرك ضلال في الغاية على سبيل التعليل، بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، فإن الإله ينبغي أن يكون فاعلاً غير منفعل،ثم استدل عليه أنه عبادة الشيطان وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه. الأول: أنه مريد منهمك في الضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالاً بعيداً عن الهدى. والثاني: أنه ملعون لضلاله فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن. والثالث: أنه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلاً عن عبادته. والمفروض المقطوع أي نصيباً قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء.

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا

119" ولأضلنهم " عن الحق. " ولأمنينهم " الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب. " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملاً بالفعل أو القوة. " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " عن وجهه وصورته أو صفته. ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم، والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك وعبادة الشمس، والقمر، وتغيير فطرة الله سبحانه وتعالى التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء خصوا في خصاء البهائم للحاجة. والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقاً أو أتاه فعلاً. " ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله " بإيثاره ما يدعوا إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته. " فقد خسر خسرانا مبينا " إذا ضيع رأس ماله وبدله مكانه من الجنة بمكان من النار.

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا

120" يعدهم " ما لا ينجزه. " ويمنيهم " ما لا ينالون. " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه.

أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا

121" أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا " معدلاً ومهرباً من حاص يحيص إذا عدل وعنها حال منه، وليس صلة له لأنه اسم مكان وإن جعل مصدراً فلا يعمل أيضاً فيما قبله.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا

122" والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ". أي وعده وعداً وحق ذلك حقاً، فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الإسمية التي قبله وعد، والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينصب الموصول بفعل يفسره ما بعده، ووعد الله بقوله " سندخلهم " لأنه بمعنى نعدهم إدخالهم وحقاً على أنه حال من المصدر. " ومن أصدق من الله قيلا " جملة مؤكدة بليغة، والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده ترغيباً للعباد في تحصيله.

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا

123" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. روي (أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة) فنزلت. وقيل: الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي: ليس الأمر بأماني المشركين، وهو قولهم لا جنة ولا نار، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وقولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " ثم قرر ذلك وقال: " من يعمل سوءا يجز به " عاجلاً أو آجلاً لما روي "أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فمن ينجوا مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك". " ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه.

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا

124" ومن يعمل من الصالحات " بعضها أو شيئاً منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها. " من ذكر أو أنثى " في موضع الحال من المستكن في يعمل، و " من " للبيان أو من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء. " وهو مؤمن " حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور وتنبيهاً على أنه لا اعتداد به دونه فيه. " فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " بنقص شيء من الثواب وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي، لأن المجازي أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر " يدخلون الجنة " هنا وفي غافر و مريم بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

125" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله " أخلص نفسه لله لا يعرف لها رباً سواه. وقيل بذل وجهه له في السجود وفي هذا الاستفهام تنبيه على أن ذلك منتهى ما تبلغه القوة البشرية. " وهو محسن " آت بالحسنات تارك للسيئات. " واتبع ملة إبراهيم " الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها " حنيفا " مائلاً عن سائر الأديان، وهو حال من المتبع أو من الملة أو إبراهيم. " واتخذ الله إبراهيم خليلا " اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيماً لشأنه وتنصيصاً على أنه الممدوح. والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها. قيل من الخلل فإن كان واحد من الخليلين يسد خلل الآخر، أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يترافقان في الطريقة، أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال. والجملة استئناف جيء بها للترغيب في اتباع ملته صلى الله عليه وسلم والإيذان بأنه نهاية في الحسن وغاية كمال البشر. روي (أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتاز منه فقال خليله: لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت، ولكن يريد للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر، فغلبته عيناه فنام وقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت حوارى واختبزت، فاستيقظ إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: من خليلك المصري، بل هو من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله خليلاً).

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا

126" ولله ما في السموات وما في الأرض " خلقاً وملكاً يختار منهما من يشاء وما يشاء. وقيل هو متصل بذكر العمال مقرر لوجوب طاعته على أهل السموات والأرض، وكمال قدرته مجازاتهم على الأعمال. " وكان الله بكل شيء محيطا " إحاطة علم وقدرة فكان عالماً بأعمالهم فيجازيهم على خيرها وشرها.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأ

127" ويستفتونك في النساء " في ميراثهن إذ سبب نزوله "أن عيينة بن حصن أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أمرت" " قل الله يفتيكم فيهن " يبين لكم حكمه فيهن والافتاء تبيين المبهم. " وما يتلى عليكم في الكتاب " عطف على اسم الله تعالى، أو ضميره المستكن في يفتيكم وساغ للفصل فيكون الإفتاء مسنداً إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما في القرآن من قوله تعالى: " يوصيكم الله " ونحوه، والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين مختلفين باعتبارين مختلفين، ونظيره أغناني زيد وعطاؤهن أو استئناف لتعظيم المتلو عليهم على أن ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره. والمراد به اللوح المحفوظ، ويجوز أن ينصب على معنى ويبين لكم ما يملي عليكم أو يخفض على القسم كأنه قيل: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، ولا يجوز عطفه على المجرور في فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى " في يتامى النساء " صلة يتلى إن عطف الموصول على ما قبله أي يتلى عليكم في شأنهن وإلا فبدل من فيهن، أو صلة أخرى ليفتيكم على معنى الله يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كم تقول: كلمتك اليوم في زيد، وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه. وقرئ ييامى بياءين على أنه أيامى فقلبت همزته ياء. " اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " أي فرض لهن من الميراث. " وترغبون أن تنكحوهن " في أن تنكحوهن أو عن أن تنكحوهن، فإن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون مالهن، وإلا كانوا يعضلونهن طمعاً في ميراثهن والوا تحتمل الحال والعطف، وليس فيه دليل على جواز تزويج اليتيمة إذ لا يلزم من الرغبة في نكاحها جريان العقد في صغرها. " والمستضعفين من الولدان " عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء. " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " أيضاً عطف عليه أي ويفتيكم أو ما يتلى في أن تقوموا، هذا إذا جعلت في يتامى صلة لأحدهما فإن جعلته بدلاً فالوجه نصبهما عطفاً على موضع فيهن، ويجوز أن ينصب وأن تقوموا بإضمار فعل أي: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للقوام بالنصفة في شأنهم " وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " وعد لمن آثر الخير في ذلك.

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير

128" وإن امرأة خافت من بعلها " توقعت منه لما ظهر لها من المخايل، وامرأة فاعل فعل يفسره الظاهر. " نشوزا " تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها. " أو إعراضا " بأن يقل مجالستها ومحادثتها. " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " أن يتصالحا بأن تحط له بعض المهر، أ, القسم، أو تهب له شيئاً تستميله به. وقرأ الكوفيون " أن يصلحا " من أصلح بين المتنازعين، وعلى هذا جاز أن ينتصب صالحاً على المفعول به، وبينهما ظرف أو حال منه أو على المصدر كما في القراءة الأولى والمفعول بينهما أو هو محذوف. وقرئ " يصلحا " من أصلح بمعنى أصطلح. " والصلح خير " من الفرقة أو سوء العشرة أو من الخصومة. ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور، وهو اعتراض وكذا قوله: " وأحضرت الأنفس الشح " ولذلك اغتفر عدم مجانستهما، والأول للترغيب في المصالحة، والثاني لتمهيد العذر في المماكسة. ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة عليه مطبوعة عليه، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها. " وإن تحسنوا " في العشرة. " وتتقوا " النشوز والإعراض ونقص الحق. " فإن الله كان بما تعملون " من الإحسان والخصومة. " خبيرا " عليماً به وبالغرض فيه فيجازيكم عليه، أقام كونه عالماً بأعمالهم مقام إثباته إياهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة للسبب مقام المسبب.

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

129" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " لأن العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". " ولو حرصتم " أي على تحري ذلك وبالغتم فيه. " فلا تميلوا كل الميل " بترك المستطاع والجور على المرغوب عنها، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله. " فتذروها كالمعلقة " التي ليست ذات بعل ولا مطلقة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل". " وإن تصلحوا " ما كنتم تفسدون من أمورهن. " وتتقوا " فيم يستقبل من الزمان. " فإن الله كان غفورا رحيما " يغفر لكم ما مضى من ميلكم.

وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا

130" وإن يتفرقا " وقرئ وأن يفارق كل منهما صاحبه. " يغن الله كلا " منهما عن الآخر ببدل أو سلوة. " من سعته " غناه وقدرته. " وكان الله واسعا حكيما " مقتدراً متقناً في أفعاله وأحكامه.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَ

131" ولله ما في السماوات وما في الأرض " تنبيه على كمال سعته وقدرته. " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني اليهود والنصارى، ومن قبلهم، و " الكتاب " للجنس و" من " متعلقة بـ" وصينا " أو بـ" أوتوا " ومساق الآية لتأكيد الأمر بالإخلاص. " وإياكم " عطف على الذين. " أن اتقوا الله " بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معني القول. " وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض " على إرادة القول أي: وقلنا لهم ولكم أن تكفروا فإن الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم، وإنما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله: " وكان الله غنيا " عن الخلق وعبادتهم. " حميدا " في ذاته حمد وإن لم يحمد.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

132" ولله ما في السموات وما في الأرض " ذكره ثالثاً للدلالة على كونه غنياً حميداً، فإن جميع المخلوقات تدلي بحاجتها على غناه وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميداً. " وكفى بالله وكيلا " راجع إلى قوله " يغن الله كلا من سعته "، فإنه توكل بكفايتهما وما بينهما تقرير لذلك.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا

133" إن يشأ يذهبكم أيها الناس " يفنكم، ومفعول يشأ محذوف دل عليه الجواب. " ويأت بآخرين " ويوجد قوماً آخرين أو خلقاً آخرين مكان الأنس. " وكان الله على ذلك " من الإعدام والإيجاد. " قديرا " بليغ القدرة لا يعجزه مراد، وهذا أيضاً تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به وخالف أمره. وقيل: هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ومعناه معنى قوله تعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " لما روي: "أنه لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا".

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

134" من كان يريد ثواب الدنيا " كالمجاهد يجاهد للغنيمة. " فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة "، أو ليطلب الأشرف منهما، فإن من جاهد خالصاً لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة، ما هي جنبه كلا شيء، أو فعند الله دارين فيعطي كلاً ما يريده كقوله تعالى: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الآية " وكان الله سميعا بصيرا " عالماً بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ

135" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته. " شهداء لله " بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله سبحانه وتعالى، وهو خبر ثاني أو حال. " ولو على أنفسكم " ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها، لأن الشهادة بيان للحق سواء كان عليه أو على غيره. " أو الوالدين والأقربين " ولو على والديكم وأقاربكم. " إن يكن " أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له. " غنيا أو فقيرا " فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة، أو لا تجوروا فيها ميلاً أو ترحماً. " فالله أولى بهما " بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحاً لما شرعها، وهو علة الجواب أقيمت مقامه والضمير في بهما راجع لما دل عليه المذكور، وهو جنساً الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد، ويشهد عليه أنه قرئ " فالله أولى بهم ". " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا من العدل. " وإن تلووا " ألسنتكم عن شهادة الحق، أو حكومة العدل. قرأ÷ نافع و ابن كثير و أبو بكر و أبو عمرو و عاصم و الكسائي بإسكان اللام وبعدها واوان الأولى مضمومة،والثانية ساكنة. وقرأ حمزة و ابن عامر " وإن تولوا " بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها. " أو تعرضوا " عن أدائها. " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " فيجازيكم عليه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَال

136" يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمسلمين، أو للمنافقين، أو لمؤمني أهل الكتاب إذ روي: أن ابن سلام وأصحابه قالوا يا رسول الله: إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه. فنزلت. " آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل " اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، أو آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم، أو آمنوا إيماناً عاماً يعم الكتب والرسل، فإن الإيمان بالعض كلا إيمان والكتاب الأول القرآن والثاني الجنس. وقرأ نافع والكوفيون: " الذي نزل " و" الذي أنزل " بفتح النون والهمزة والزاي، والباقون بضم النون والهمزة وكسر الزاي. " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " أي ومن يكفر بشيء من ذلك. " فقد ضل ضلالا بعيدا " عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا

137" إن الذين آمنوا " يعني اليهود آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام. " ثم كفروا " حين عبدوا العجل. " ثم آمنوا " بعد عوده إليهم. " ثم كفروا " بعيسى عليه الصلاة والسلام. " ثم ازدادوا كفرا " بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو قوماً تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي. " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " إذ يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان، فإن قلوبهم ضربت بالكفر وبصائرهم عميت عن الحق لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، وخبر كان في أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام مثل: لم يكن الله مريداً ليغفر لهم.

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

138" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " يدل على أن الآية في المنافقين وهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا بالإصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين، ووضع " بشر " مكان أنذر تهكم بهم.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا

139" الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " في محل النصب، أو الرفع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين. " أيبتغون عندهم العزة " أيتعززون بموالاتهم. " فإن العزة لله جميعا " لا يتعزز إلا من أعزه الله، وقد كتب العزة لأوليائه فقال: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" ولا يؤبه بعزة غيرهم بالإضافة إليهم.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِر

140" وقد نزل عليكم في الكتاب " يعني القرآن. وقرأ عاصم "نزل" وقرأ الباقون "نزل" على البناء للمفعول والقائم مقام فاعله. "أن إذا سمعتم آيات الله" وهي المخففة والمعنى أنه إذا سمعتم. "يكفر بها ويستهزأ بها" حالان من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله: " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئاً معانداً غير مرجو، ويؤيده الغاية. وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكة من قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم" الآية. والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها. " إنكم إذا مثلهم " في الإثم لأنكم قادرون على الاعراض عنهم والانكار عليهم، أو الكفر إن رضيتم بذلك، أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين، ويدل عليه: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " يعني القاعدين والمقعود معهم، وإذاً ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل وإفراد مثلهم، لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع. وقرئ بالفتح على البناء لإضافته إلى مبني كقوله تعالى: "مثل ما أنكم تنطقون".

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِ

141" الذين يتربصون بكم " ينتظرون وقوع أمر بكم، وهو بدل من الذين يتخذون، أو صفة للمنافقين و الكافرين أو ذم مرفوع أو منصوب أو مبتدأ خبره. " فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم " مظاهرين لكم فأسهموا لنا مما غنمتم. " وإن كان للكافرين نصيب " من الحرب فإنها سجال " قالوا ألم نستحوذ عليكم " أي قالوا للكفرة: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم، والاستحواذ الاستيلاء وكان القياس أن يقال استحاذ يستحيذ استحاذة فجاءت على الأصل. " ونمنعكم من المؤمنين " بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم فأشركونا فيما أصبتم، وإنما سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً لخسة حظهم، لأنه مقصور على أمر دنيوي سريع الزوال. " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " حينئذ أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجة، واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم. والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد وهو ضعيف لأنه لا ينفي كونه أن يكون إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

142" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " سبق الكلام فيه أول سورة البقرة. " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " متثاقلين كالمكره على الفعل، وقرئ " كسالى " بالفتح وهما جمعا كسلان. " يراؤون الناس " ليخالوهم مؤمنين المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرائي يري من يرائيه عمله وهو يريه استحسانه. " ولا يذكرون الله إلا قليلا " إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه، وهو أقل أحواله أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى ذكر القلب. وقيل المراد بالذكر الصلاة. وقيل الذكر فيها فإنهم لا يذكرون فيها غير التكبير والتسليم.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا

143" مذبذبين بين ذلك " حال من واو " يراؤون " كقوله: " ولا يذكرون " أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين أو واو يذكرون أو منصوب على الذم، والمعنى: مرددين بين الإيمان والكفر من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطرباً، وأصله الذي بمعنى الطرد. وقرئ بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو يتذبذبون كقولهم: صلصل بمعنى تصلصل. وقرئ بالدال غير المعجمة بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة وهي الطريقة. " لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلية. " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " إلى الحق والصواب، ونظيره قوله تعالى: " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا

144" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فإنه صنيع المنافقين ودينه فلا تتشبهوا بهم، " أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " حجة بينة فإن موالاتهم دليل على النفاق أو سلطاناً يسلط عليكم عقابه.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا

145" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وهو الطبقة التي في قعر جهنم، وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعاً للمسلمين، وأم قوله عليه الصلاة والسلام "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" ونحوه فمن باب التشبيه والتغليظ، وإنما سميت طبقاتها السبع دركات لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. وقرأ الكوفيون بسكون الراء وهي لغة وكالسطر والسطر والتحريك أوجه لأنه يجمع على إدراك. " ولن تجد لهم نصيرا " يخرجهم منه.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا

146" إلا الذين تابوا " عن النفاق. " وأصلحوا " ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق. " واعتصموا بالله " وثقوا به أو تمسكوا بدينه. " وأخلصوا دينهم لله " لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه الكريم سبحانه وتعالى. " فأولئك مع المؤمنين " ومن عدادهم في الدارين. " وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " فيساهمونهم فيه.

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا

147" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " أيتشفى به غيظاً أو يدفع به ضرراً أو يستجلب به نفعاً وهو الغني المتعالي عن النفع والضرر، وإنما يعاقب المصر بكفره لأن إصراره عليه كسوء مزاج يؤدي إلى مرض فإذا أزاله بالإيمان والشكر -ونفى نفسه عنه- تخلص من تبعته، وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولاً فيشكر شكراً مبهماً، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. " وكان الله شاكرا " مثيباً يقبل اليسير ويعطي الجزيل. " عليما " بحق شكركم وإيمانكم.

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا

148" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " إلا من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه. وروي أن رجلاً ضاف قوماً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه. فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعاً أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله. " وكان الله سميعا " لكلام المظلوم. " عليما " بالظالم.

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا

149" إن تبدوا خيرا " طاعة وبراً. " أو تخفوه " أو تفعلوه سراً. " أو تعفوا عن سوء " لكم المؤاخذة عليه، وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له، ولذلك رتب عليه قوله. " فإن الله كان عفوا قديرا " أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو بعدما رخص له في الانتظار حملاً على مكارم الأخلاق.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا

150" إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله. " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم. " ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " طريقاً وسطاً بين الإيمان والكفر، لا واسطة: إذ الحق لا يختلف فإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يتم إلا بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال كما قال الله تعالى: " فماذا بعد الحق إلا الضلال ".

أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

151" أولئك هم الكافرون " هم الكاملون في الكفر لا عبرة بإيمانهم هذا. " حقا " مصدر مؤكد لغيره أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى: هم الذين كفروا كفراً حقاً أي يقيناً محققاً. " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ".

وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

152" والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم " أضدادهم ومقابلوهم، وإنما دخل بين على أحد وهو يقتضي متعدداً لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي. " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر. وقرأ حفص عن عاصم و قالون عن يعقوب بالياء على تلوين الخطاب. " وكان الله غفورا " لما فرط منهم. " رحيما " عليهم بتضعيف حسناتهم.

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ

153" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " نزلت في أحبار اليهود قالوا: إن كنت صادقاً فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام، وقيل: كتاباً محرراً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة، أو كتابا نعاينه حين ينزل، أو كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسول الله. " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " جواب شرط مقدر أي: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه، وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم. والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم. " فقالوا أرنا الله جهرة " عياناً أرناه نره جهرة، أو مجاهرين معاينين له. " فأخذتهم الصاعقة " نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم. " بظلمهم " بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً." ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات" هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم والبينات المعجزات ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " تسلطاً ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم.

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

154" ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " بسبب ميثاقهم ليقبلوه. " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " على لسان موسى والطور مظل عليهم. " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " على لسان داود عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يراد على لسان موسى حين ظلل الجبل عليهم، فإنه شرع السبت ولكن كان الاعتداء فيه والمسخ به في زمن داود عليه الصلاة والسلام، وقرأ ورش عن نافع " لا تعدوا " على أن أصله لا تتعدوا فأدغمت التاء في الدال، وقرأ قالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال والنص عنه بالإسكان. " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " على ذلك وهو قولهم سمعنا وأطعنا.

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا

155" فبما نقضهم ميثاقهم " أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم، وما مزيدة للتأكيد والياء متعلقة بالفعل المحذوف، ويجوز أن تتعلق بحرمنا عليهم طيبات فيكون التحريم بسبب النقص، وما عطف عليه إلى قوله فبظلم لا بما دل عليه قوله: " بل طبع الله عليها " مثل لا يؤمنون لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة وقولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره. " وكفرهم بآيات الله " بالقرآن أو بما جاء في كتابهم. " وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف " أوعية للعلوم، أو في أكنة مما تدعونا إليه،. " بل طبع الله عليها بكفرهم " فجعلها محجوبة عن العلم، أو خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر في المواعظ. " فلا يؤمنون إلا قليلا " منهم كعبد الله بن سلام، أو إيماناً قليلاً إذ لا عبر به لنقصانه.

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا

156" وبكفرهم " بعيسى عليه الصلاة والسلام، وهو معطوف على وبكفرهم لأنه من أسباب الطبع، أو على قوله: " فبما نقضهم " ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ويكون تكرير ذكر الكفر إيذاناً بتكرر كفرهم، فإنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام. " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " يعني نسبتها إلى الزنا.

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَل

157" وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله " أي بزعمهم ويحتمل أنهم قالوه استهزاء، ونظيره أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وأن يكون استئنافاً من الله سبحانه وتعالى بمدحه، أو وضعاً للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح. " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " روي (أن رهطاً من اليهود سبوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة، فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب). وقيل (كان رجلاً ينافقه فخرج ليدل عليه، فألقى الله عليه شبهه فأخذ وصلب وقتل) وقيل: (دخل طيطانوس اليهودي بيتاً كان هو فيه فلم يجده، وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب). وأمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة، وإنما ذمهم الله سبحانه وتعالى بما دل عليه الكلام من جراءتهم على الله سبحانه وتعالى، وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات الباهرة، وتبجحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم، و" شبه " مسند إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول أو في الأمر على قول من قال: لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس، أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم قتيلاً. " وإن الذين اختلفوا فيه " في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام،فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود: إنه كان كذباً فقتلناه حقاً، وتردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وقال من سمع منه أن الله سبحانه وتعالى يرفعني إلى السماء: أنه رفع إلى السماء. وقال قوم: صلب الناسوت وصعد اللاهوت. " لفي شك منه " لفي تردد، والشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد، وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكده بقوله: " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن، ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزماً كان أو غيره فيتصل الاستثناء. " وما قتلوه يقينا " قتلاً يقيناً كما زعموه بقولهم " إنا قتلنا المسيح "، أو متيقنين. وقيل معناه ما علموه يقينا ًكقول الشاعر: كذاك تخبر العالمات بها وقد قتلت بعلمي ذلكم يقيناً من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علماً إذا أردت أن تبالغ في علمك.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

158" بل رفعه الله إليه " وإنكار لقتله وإثبات لرفعه. " وكان الله عزيزا " لا يغلب على ما يريده. " حكيما " فيما دبره لعيسى عليه الصلاة والسلام.

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا

159" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أي وما من أهل الكتاب من أحد إلا ليؤمنن به، فقوله " ليؤمنن به " جملة قسمية وقعت صفة لأحد ويعود إليه الضمير الثاني، والأول لعيسى عليه الصلاة والسلام. والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن بأن عيسى عبد الله ورسوله قبل أن يموت ولو حين أن تزهق روحه ولا ينفعه إيمانه ويؤيد ذلك أنه قرئ. " إلا ليؤمنن به قبل موته " بضم النون لأن أحداً في معنى الجمع، وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معالجة الإيمان به قبل أن يضطروا إليه ولم ينفعهم إيمانهم. وقيل الضميران لعيسى عليه أفضل الصلاة والسلام، والمعنى: أنه إذا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعاً. روي: أنه عليه الصلاة والسلام ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان بالحيات. ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه، " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا

160" فبظلم من الذين هادوا " أي فبأي ظلم منهم. " حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " يعني ما ذكره في قوله و على الذين هادوا حرمنا. " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ناساً كثيراً أو صداً.

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

161" وأخذهم الربا وقد نهوا عنه " كان الربا محرماً عليهم كما هو محرم علينا، وفيه دليل على دلالة النهي للتحريم. " وأكلهم أموال الناس بالباطل " بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة. " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " دون من تاب وآمن.

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَج

162" لكن الراسخون في العلم منهم " كعبد الله بن سلام وأصحابه. " والمؤمنون " أي منهم أو من المهاجرين أو الأنصار. " يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " خبر المبتدأ. " والمقيمين الصلاة " نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لولئك، أو عطف على ما أنزل إليك والمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي: يؤمنون بالكتب والأنبياء. وقرئ بالرفع عطفاً على " الراسخون " أو على الضمير في " يؤمنون " أو على أنه مبتدأ والخبر " أولئك سنؤتيهم ". " والمؤتون الزكاة " رفعه لأحد الأوجه المذكورة. " والمؤمنون بالله واليوم الآخر " قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية. " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " على جمعه بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح وقرأ حمزة " سنؤتيهم " بالياء.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُ

163" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان " خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيماً لهم، فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم وعيسى آخرهم، والباقين أشرف الأنبياء ومشاهيرهم. " وآتينا داود زبورا " وقرأ حمزة " زبورا " بالضم وهو جمع زبر. بمعنى مزبور.

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

164" ورسلا " نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك كأرسلنا أو فسره: " قد قصصناهم عليك من قبل " أي من قبل هذه السورة أو اليوم. " ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما " وهو منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم، وقد فضلال محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم.

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

165" رسلا مبشرين ومنذرين " نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال ويكون رسلاً موطئاً لما بعده كقولك مررت بزيد رجلاً صالحاً. " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " فيقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فينبهنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم، وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح والأكثر عن إدراك كلياتها، واللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله " مبشرين ومنذرين "، و" حجة " إسم كان وخبره " للناس " أو " على الله " والآخر حال، ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة. " وكان الله عزيزا " لا يغلب فيما يريد. " حكيما " فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز.

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا

166" لكن الله يشهد " استدراك عن مفوهم ما قبله فكأنه لما تعنتوا علي بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، واحتج عليهم بقوله " إنا أوحينا إليك " قال: إنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد، أو أنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرره. " بما أنزل إليك " من القرآن المعجز الدال على نبوتك. روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت. " أنزله بعلمه " أنزله متلبساً بعلمه الخاص به، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ، أو بحال منه يستعد للنبوة ويستاهل نزول الكتاب عليه، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعاهدهم، فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث حال من المفعول، والجملة كالتفسير لما قبلها " والملائكة يشهدون " أيضاً بنبوتك. وفيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر والتأمل، وهذا النوع من خواص الملك ولا سبيل للإنسان إلا العلم بأمثال ذلك سوى الفكر والنظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا. " وكفى بالله شهيدا " أي وكفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا

167" إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا

168" إن الذين كفروا وظلموا " محمداً عليه الصلاة والسلام بإنكار نبوته، أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم أو بأعم من ذلك. والآية تدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر والظلم. " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ".

إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

169" إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا " لجرى حكمه السابق ووعده المحتوم على أن من مات على كفره فهو خالد في النار وخالدين حال مقدرة. "وكان ذلك على الله يسيراً" لا يصعب عليه ولا يستعظمه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

170" يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم " لما قرر أمر النبوة وبين طريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد. "فآمنوا خيراً لكم" أي إيمانا خيراً لكم أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم عليه. وقيل تقديره يكن الإيمان خيراً لكم ومنعه البصريون لأن كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لابد من ولأنه يؤدي إلى الشرط وجوابه. " وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض " يعني وإن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، ونبه على غناه بقوله: " لله ما في السموات والأرض " وهو يعم ما اشتملتا عليه وما ركبتاه منه. "وكان الله عليماً" بأحوالهم. "حكيماً" فيما دبر لهم.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا

171" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " الخطاب للفريقين، غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة والسلام حتى رموه بأن ولد من رشدة، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً. وقيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله: " ولا تقولوا على الله إلا الحق " يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد. " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم " أوصلها إليها وخصلها فيها. " وروح منه " وذو روح صدر منه بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب " فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة " أي الألهة ثلاثة الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله ثلاثة أقانيم[*1] الأب والابن وروح القدس، ويريدون الأب بالذات، والابن العلم، وبروح القدس الحياة. " انتهوا " عن التثليث. " خيرا لكم " نصبه كما سبق. " إنما الله إله واحد " أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما. " له ما في السموات وما في الأرض " ملكاً وخلقاً لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولداً. " وكفى بالله وكيلا " تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه. [*1]أعتقد خطأ والمطلوب التحري لأني لم أخمن الصحيح...

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا

172" لن يستنكف المسيح " لن يأنف، من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كيلا يرى أثره عليك. " أن يكون عبدا لله " من أن يكون عبداً له فإن عبوديته شرف يتباهى به، وإنما لمذلة والاستنكاف في عبودية غيره. روي "أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال عليه السلام: وأي شيء أقول. قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله، قال: إنه ليس بعار أن يكون عبد الله، قالوا: بلى فنزلت" " ولا الملائكة المقربون " عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، واحتج به من زعم أنه فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام لعبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة فلا يتجه ذلك وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من على منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " ومن يرتفع عنها، والاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وإنما يستعمل من حيث الاستحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق. " فسيحشرهم إليه جميعا " فيجازيهم.

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرً

173" فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " تفصيل للمجازاة العامة المدلول عليها من فحوى الكلام، وكأنه قال فسيحشرهم إليه جميعاً يوم يحشر العباد للمجازاة، أو لمجازاتهم فإن إثابة مقابلهم والإحسان إليهم تعذيب لهم بالغم والحسرة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا

174" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن، أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة، وقيل: البرهان الدين أو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن.

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

175" فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه " في ثواب قدره بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب " وفضل " إحسان زائد عليه " ويهديهم إليه " إلى الله سب. وقيل إلى الموعود. " صراطا مستقيما " هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة.

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ

176" يستفتونك " أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه. روي "أن جابر بن عبد الله كان مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كلالة فكيف أصنع في مالي فنزلت" وهي آخر ما نزل من الأحكام. " قل الله يفتيكم في الكلالة " سبق تفسيرها في أول السورة. " إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ارتفع " امرؤ " بفعل يفسره الظاهر، وليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك، والواو في " وله " يحتمل الحال والعطف، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة، والولد على ظاهره فان الأخت وإن ورثت مع البنت عند عامة العلماء -غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لكنها لا ترث النصف. " وهو يرثها " أي والمرء يرث إن كان الأمر بالعكس. " إن لم يكن لها ولد " ذكراً كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها، وإلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ، والآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب وكذا مفهوم قوله: " قل الله يفتيكم في الكلالة " إن فسرت بالميت. " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى، وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما. " وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين " أصله وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر. " يبين الله لكم أن تضلوا " أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا. وقيل لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين. " والله بكل شيء عليم " فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات. عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، وورث ميراثاً وأعطي من الأجر كمن اشترى محرراً، وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم".


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس