1-" حم " أماله ابن عامر و الكسائي و أبو بكر صريحاً ، و نافع برواية ورش و أبو عمرو بين بين ، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين ، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث ، أو لأنها عل زنة أعجمي كقابيل وهابيل .
2-" تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة .
3-" غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه ، والإضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص ، وأريد بـ" شديد العقاب " مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس ، أو إبدال وجعله وحده بدلاً مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة ، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له . والتوب مصدر كالتوبة . وقيل جمعاً والطول الفضل بترك العقاب المستحق ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها . " لا إله إلا هو " فيجب الإقبال الكلي على عبادته . " إليه المصير " فيجازي المطيع والعاصي .
4-" ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وإدحاض الحق لقوله : " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " وأما الجدال في لحل عقده واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ به وقطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " إن جدالاً في القرآن كفر " بالتنكير مع أنه ليس جدالاً فيه على الحقيقة ." فلا يغررك تقلبهم في البلاد " فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال :
5-" كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم " والذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود . " وهمت كل أمة " من هؤلاء " برسولهم " وقرئ برسولها " ليأخذوه " ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل من الأخذ بمعنى الأسر . " وجادلوا بالباطل " بما لا حقيقة له " ليدحضوا به الحق " ليزيلوه به " فأخذتهم " بالإهلاك جزاء لهم . " فكيف كان عقاب " فأنكم تمرون على ديارهم وترون أثره . وهو تقرير فيه تعجيب .
6-" وكذلك حقت كلمة ربك " وعيده أو قضاؤه بالعذاب " على الذين كفروا " بكفرهم . " أنهم أصحاب النار " بدل من كلمة " ربك " بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى .
7-" الذين يحملون العرش ومن حوله " الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجوداً وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسطهم في نفاذ أمره ." يسبحون بحمد ربهم " يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام ،وجعل التسبيح أصلاً والحمد حالاً لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح أصلاً . " ويؤمنون به " أخبر عنهم بالإيمان إظهاراً لفضله وتعظيماً لأهله ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله " ويستغفرون للذين آمنوا " وإشعاراً بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء رداً على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة ، وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى : " إنما المؤمنون إخوة " . " ربنا " أي يقولون " ربنا " وهو بيان لـ" يستغفرون " أو حال . " وسعت كل شيء رحمةً وعلماً " أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومها ، وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا ." فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق . " وقهم عذاب الجحيم " واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد والدلالة على شدة العذاب .
8-" ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " وعدتهم إياها " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " عطف على هم الأول أي أدخلهم ومعهم هؤلاء ليتم سرورهم ، أو الثاني لبيان عموم الوعد ، وقرئ جنة عدن و صلح بالضم و ذريتهم بالتوحيد . " إنك أنت العزيز " الذي لا يمتنع عليه مقدور ." الحكيم " الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد .
9-" وقهم السيئات " العقوبات أو جزاء السيئات ، وهو تعميم بعد تخصيص ، أو تخصيص بمن " صلح " أو المعاصي في الدنيا لقوله : " ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته " أي ومن تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب . " وذلك هو الفوز العظيم " يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما .
10-" إن الذين كفروا ينادون " يوم القيامة فيقال لهم :" لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم " أي لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء . " إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه ، ولا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو : بالصيف ضيعت اللبن . أو تعليل للحكم و زمان المقتين واحد .
11-" قالوا ربنا أمتنا اثنتين " إماتتين بأن خلقتنا ثم صيرتنا أمواتاً عند انقضاء آجالنا ، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير ، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر . " وأحييتنا اثنتين " الأولى وإحياءة البعث . وقيل الإماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال والإحياءان ما في القبر والبعث ، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله : " فاعترفنا بذنوبنا " فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث . " فهل إلى خروج " نوع خروج من النار " من سبيل " طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللاً وتحيراً ولذلك أجيبوا بقوله :
12-" ذلكم " الذي أنتم فيه " بأنه " بسبب أنه" إذا دعي الله وحده " متحداً أو توحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحالية . " كفرتم " بالتوحيد " وإن يشرك به تؤمنوا " بالإشراك " فالحكم لله " المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم . " العلي " عن أن يشرك به ويسوي بغيره " الكبير " حيث حكم على من أشرك وسوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد .
13-" هو الذي يريكم آياته " الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلاً لنفوسكم " وينزل لكم من السماء رزقاً " أسباب كالمطر مراعاة لمعاشكم . " وما يتذكر " بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى " إلا من ينيب " يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكير فيها ،فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه .
14-" فادعوا الله مخلصين له الدين " من الشرك " ولو كره الكافرون " إخلاصكم وشق عليهم .
15-" رفيع الدرجات ذو العرش " خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية ،فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به ، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب . وقرئ رفيع أيضاً بالنصب على المدح ." يلقي الروح من أمره " خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي ، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ " على من يشاء من عباده " يختار للنبوة ، وفيه دليل على أنها عطائية " لينذر " غاية الإلقاء والمستكن فيه لله ، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني " يوم التلاق " يوم القيامة ، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال .
16-" يوم هم بارزون " خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان ، أو أعمالهم وسرائرهم . " لا يخفى على الله منهم شيء " من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم ، وهو تقرير لقوله " هم بارزون " وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به ، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأما حقيقة الحال فناطقه بذلك دائماً .
16-" اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " كأنه لما سبق ، و تحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذاتها وأملها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغيلها ،فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذاتها وألمها . " لا ظلم اليوم " ينقص الثواب وزيادة العقاب " إن الله سريع الحساب " إذ لا يشغله شأن عن شأن فيصل إليهم ما يستحقونه سريعاً .
18-" وأنذرهم يوم الآزفة " أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها ، أو الخطة الآزفة وهي مشارفتها النار وقيل الموت . " إذ القلوب لدى الحناجر " فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا . " كاظمين " على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإضافة ، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله " فظلت أعناقهم لها خاضعين " أو من مفعول " أنذرهم " على أنه حال مقدر " ما للظالمين من حميم " قريب مشفق . " ولا شفيع يطاع " ولا شفيع مشفع ، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم .
19-" يعلم خائنة الأعين " النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه ، أو خيانة الأعين " وما تخفي الصدور " من الضمائر والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلق العلم والجزاء
20-" والله يقضي بالحق " لأنه المالك الحاكم على الإطلاق فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه " والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء " تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فيه إنه يقضي أو لا يقضي . وقرأ نافع و هشام بالتاء على الالتفات أو إضمار قل " إن الله هو السميع البصير " تقرير لعلمه بـ" خائنة الأعين " وقضائه بالحق ووعيد لهم ما يقولون ويفعلون ، وتعريض بحال ما " يدعون من دونه " .
21-" أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " مآل حال الذين كذبوا بالفصل وحقه أن يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه . وقرأ ابن عامر أشد منكم بالكاف . " وآثاراً في الأرض " مثل القلاع والمدائن الحصينة . وقيل المعنى وأكثر آثاراً كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً " فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق " يمنع العذاب عنهم .
22-" ذلك " الأخذ ." بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " بالمعجزات أو الأحكام الواضحة " فكفروا فأخذهم الله إنه قوي " متمكن مما يريده غاية التمكن . " شديد العقاب " لا يؤبه بعقاب دون عقابه .
23-" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " يعني المعجزات . " وسلطان مبين " وحجة قاهرة ظاهرة ، والعطف لتغاير الوصفين أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا تفخيماً لشأنه .
24-" إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب " يعنون موسى عليه الصلاة والسلام ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبلهم بطشاً وأقرتهم زماناً .
25-" فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه ، واستحيوا نساءهم " أ ي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولاً كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلام . " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " في ضياع ، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة .
26-" وقال فرعون ذروني أقتل موسى " كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر ، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكاً في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله ، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله " وليدع ربه " فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه . " إني أخاف " إن لم أقتله " أن يبدل دينكم " أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله تعالى : " ويذرك وآلهتك " . " أو أن يظهر في الأرض الفساد " ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية . وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر بالواو على معنى الجمع ، و ابن كثير و ابن عامر و الكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع الفساد .
27-" وقال موسى " أي لقومه لما سمع بكلامه . " إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " صدر الكلام بأن تأكيداً وإشعاراً على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله ، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وإضافته إليه وإليهم حثاً لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة ، ولم يسم فرعون وذكر وصفاً يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول . وقرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي " عذت " فيه وفي سورة الدخان بالإدغام وعن نافع مثله .
28-" وقال رجل مؤمن من آل فرعون " من أقاربه . وقيل " من " متعلق بقوله " يكتم إيمانه " والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم " أتقتلون رجلاً " أتقصدون قتله . " أن يقول " لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره . " ربي الله " وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد ." وقد جاءكم بالبينات " المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات . " من ربكم " أضافة إليهم بعد البينات احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : " وإن يك كاذباً فعليه كذبه " لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله ." وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم " فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذباً أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم وتفسير الـ" بعض " بالكل كقول لبيد : تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط النفوس حمامها مروج لأنه أراد بالـ" بعض " نفسه . " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " احتجاج ثالث ذو وجهين . أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات . وثانيهما : أن من خلق الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله . ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه " مسرف كذاب " لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة .
29-" يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين " غالبين عالين . " في الأرض " أرض مصر . " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم . " قال فرعون ما أريكم " ما أشير عليكم . " إلا ما أرى " وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه . " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " طريق الصواب ، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام ، أو من رشد كعبادلا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو بالنسبة إلى الرشد كعواج وبتات .
30-" وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم " في تكذيبه والتعرض له . " مثل يوم الأحزاب " مثل أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم ، وجمع " الأحزاب " مع التفسير أغنى عن جمع " اليوم " .
31-" مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود " مثل جزاء ما كانوا عليه دائباً من الكفر وإيذاء الرسل " والذين من بعدهم " كقوم لوط " وما الله يريد ظلماً للعباد " فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام ، وهو أبلغ من قوله تعالى : " وما ربك بظلام للعبيد " من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم .
32-" ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد " يوم القيامة ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة ، أو يتصايحون بالويل والثبور ، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار كما حكي في الأعراف . وقرئ بالتشديد وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله تعالى : " يوم يفر المرء من أخيه " .
33-" يوم تولون " عن الموقف . " مدبرين " منصرفين عنه إلى النار . وقيل فارين عنها . " ما لكم من الله من عاصم " يعصمكم من عذابه . " ومن يضلل الله فما له من هاد " .
34-" ولقد جاءكم يوسف " يوسف بن يعقوب على أن فرعونه فرعون موسى ، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف ." من قبل " من قبل موسى " بالبينات " بالمعجزات " فما زلتم في شك مما جاءكم به " من الدين " حتى إذا هلك " مات . " قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً " ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده ، أو جزماً بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشك في رسالته ، وقرئ ألن يبعث الله على أن يعضهم يقرر بعضاً بنفي البعث . " كذلك " مثل الضلال " يضل الله " في العصيان . " من هو مسرف مرتاب " شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم ولانهماك في التقليد .
35-" الذين يجادلون في آيات الله " بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع . " بغير سلطان أتاهم " بغير حجة بل إما بتقليد أو بشبهة داحضة . " كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا " فيه ضمير من وإفراده للفظ ، ويجوز أن يكون الذين آمنوا مبتدأ وخبره " كبر " على حذف مضاف أي : وجدال الذين يجادلون كبر مقتاً أو بغير سلطان وفاعل " كبر " " كذلك " أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال فيكون قوله : " يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " استئنافاً للدلالة على الموجب لجدالهم . وقرأ أبو عمرو و ابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم . رأت عيني وسمعت أذني ، أو على حذف مضاف أي عل كل ذي قلب متكبر .
36-" وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً " بناء مكشوفاً عالياً من صرح الشيء إذا ظهر . " لعلي أبلغ الأسباب " الطرق .
37-" أسباب السموات " بيان لها أو في إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها . " فأطلع إلى إله موسى " عطف على " أبلغ " . وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصداً في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، أو إن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على إطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه . " وإني لأظنه كاذباً " في دعوى الرسالة . " وكذلك " ومثل التزيين ، " زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " سبيل الرشاد ، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان . وقرأ الحجازيان و الشامي و أبو عمرو "و صد" الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده : " وما كيد فرعون إلا في تباب " أي خسار .
38-" وقال الذي آمن " يعني مؤمن آل فرعون . وقيل موسى عليه الصلاة والسلام . " يا قوم اتبعون أهدكم " بالدلالة . " سبيل الرشاد " سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود ، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي .
39-" يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع " تمتع يسير لسرعة زوالها . " وإن الآخرة هي دار القرار " لخلودها .
40-" من عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها " عدلاً من الله ، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها . " ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافاً فضلاً منه ورحمة ، ولعل تقسيم العمال وجعل الجزاء جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة ، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة ، وجعل عمدة والإيمان حالاً للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل وأن ثوابه أعلى من ذلك .
41-" ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار " كرر ندائهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واهتماماً بالمنادى له ، ومبالغة في توبيخهم على ما يقولون به نصحه ، وعطفه على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله ولذلك لم يعطف على الأول ، فإن ما بعده أيضاً تفسير لما أجمل فيه تصريحاً أو على الأول .
42-" تدعونني لأكفر بالله " بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام . " وأشرك به ما ليس لي به " بربوبيته . " علم " والمراد نفي المعلوم والإشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان فاعتقادها لا يصح إلا عن إيقان . " وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار " المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة ، والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران .
43-" لا جرم " لا رد لما دعوه إليه ، و " جرم " فعل بمعنى حق وفاعله : " أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة " أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلاً لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها . وقيل " جرم " بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما إن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق ، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقاً ، ويؤيده قولهم لا جرم إنه لغة فيه كالرشد والرشد . " وأن مردنا إلى الله " بالموت " وأن المسرفين " في الضلالة والطغيان كالإشراك وسفك الدماء . " هم أصحاب النار " ملازموها .
44-" فستذكرون " وقرئ " فستذكرون " أي فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب . " ما أقول لكم " من النصيحة " وأفوض أمري إلى الله " ليعصمني من كل سوء " إن الله بصير بالعباد " فيحرسهم وكأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله :
45-" فوقاه الله سيئات ما مكروا " شدائد مكرهم . وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام . " وحاق بآل فرعون " بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك . وقيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي والوحوش حوله صفوفاً فرجعوا رعباً فقتلهم . " سوء العذاب " الغرق أو القتل أو النار .
46-" النار يعرضون عليها غدواً وعشياً " جملة مستأنفة أو " النار " خبر محذوف و " يعرضون " استئناف للبيان ، أو بدل و " يعرضون " حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره " يعرضون " مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأساري على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روي ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشياً إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأييد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر . " ويوم تقوم الساعة " أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : " أدخلوا آل فرعون " يا آل فرعون ." أشد العذاب " عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم . وقرأ حمزة و الكسائي و نافع و يعقوب و حفص " أدخلوا " على أمر الملائكة بإدخالهم النار .
47-" وإذ يتحاجون في النار " واذكر وقت تخاصمهم فيها ويحتمل العطف على غدوا . " فيقول الضعفاء للذين استكبروا " تفصيل له . " إنا كنا لكم تبعاً " تباعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإضمار أو التجوز . " فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار " بالدفع أو الحمل ، و " نصيباً " مفعول به لما دل عليه " مغنون " أله بالتضمين أو مصدر كشيئاً في قوله تعالى : " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ". فيكون من صلة لـ" مغنون " .
48-" قال الذين استكبروا إنا كل فيها " نحن فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا ،وقرئ كلا على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنويه عوض عن المضاف إليه ، ولا يجوز جعله حالاً من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب . " إن الله قد حكم بين العباد " بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، و " لا معقب لحكمه " .
49-" وقال الذين في النار لخزنة جهنم " أي لخزنتها ، ووضع " جهنم " موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها ، إذ يحتمل أن تكون " جهنم " أبعد دركاتها من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر . " ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً " قدر يوم " من العذاب " شيئاً من العذاب ، ويجوز أن يكون المفعول يوم بحذف المضاف و " من العذاب " بيانه .
50-" قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة . " قالوا بلى قالوا فادعوا " فإنا لا تجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة . " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " ضياع لا يجاب ، وفيه اقناط لهم على الإجابة .
51-" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة " في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحياناً إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر ، و " الأشهاد " جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .
52-" يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة ، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا . وقرأ غير الكوفيون و نافع بالتاء . " ولهم اللعنة " البعد عن الرحمة . " ولهم سوء الدار " جهنم .
53-" ولقد آتينا موسى الهدى " ما يهتدي به في الدين من المعجزات والصحف والشرائع . " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب " وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة .
54-" هدى وذكرى " هداية وتذكرة أو هادياً ومذكراً . " لأولي الألباب " لذوي العقول السليمة .
55-" فاصبر " على أذى المشركين . " إن وعد الله حق " بالنصر لا يخلفه ، واستشهد بحال موسى وفرعون . " واستغفر لذنبك " وأقبل على أمر دينك وتدارك فرطاتك بترك الأولى والاهتمام بأمر العدا بالاستغفار ، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر . " وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار " ودم على التسبيح والتحميد لربك . وقيل صل لهذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشياً .
56-" إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة واليهود حين قالوا : لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار . " إن في صدورهم إلا كبر " إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم ، أو إرادة الرياسة أو إن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم . " ما هم ببالغيه " ببالغي دفع الآيات أو المراد . " فاستعذ بالله " فالتجئ إليه . " إنه هو السميع البصير " لأقوالكم وأفعالكم .
57-" لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " فمن قدر على خلقها مع عظمها أولاً من غير أصل قدر على خلق الإنسان ثانياً من أصل ، وهو بيان لا شكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم وإتباعهم أهواءهم .
58-" وما يستوي الأعمى والبصير " الغافل والمستبصر . " والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء " والمحسن والمسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت ، وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة ، والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على " الأعمى والبصير " لتغاير الوصفين في المقصود ، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل . " قليلاً ما تتذكرون " أي تذكراً ما قليلاً يتذكرون ، والضمير للناس أو الكفار . وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب ، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة .
59-" إن الساعة لآتية لا ريب فيها " في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها . " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به .
60-" وقال ربكم ادعوني " اعبدوني " أستجب لكم " أثبكم لقوله : " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " صاغرين ، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة ، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها . وقرأ ابن كثير و أبو بكر سيدخلون بضم الياء وفتح الخاء .
61-" الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه " لتستريحوا فيه بأن خلقه بارداً مظلماً ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس . " والنهار مبصراً " يبصر فيه أو به ، وإسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال : " إن الله لذو فضل على الناس " لا يوازيه فضل ، وللإشعار به لم يقل لمفضل . " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم ، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم .
62-" ذلكم " المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية . " الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو " أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها ، وقرئ خالق بالنصب على الاختصاص فيكون " لا إله إلا هو " استئنافاً بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة . " فأنى تؤفكون " فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره .
63-" كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها .
64-" الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً " استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة . " وصوركم فأحسن صوركم " بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات . " ورزقكم من الطيبات " اللذائذ . " ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال .
65-" هو الحي " المتفرد بالحياة الذاتية . " لا إله إلا هو " إذ لا يوجد سواه ولا موجد يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته . " فادعوه " فاعبدوه " مخلصين له الدين " أي الطاعة من الشرك والرياء " الحمد لله رب العالمين " قائلين له .
66-" قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي " من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها . " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " بأن أنقاد له أو أخلص له ديني .
67-" هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً " أطفالاً ، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم . " ثم لتبلغوا أشدكم " اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله : " ثم لتكونوا شيوخاً " ويجوز عطفه على " لتبلغوا " وقرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام شيوخاً بضم الشين ، وقرئ شيخاً كقوله طفلاً . " ومنكم من يتوفى من قبل " من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد " ولتبلغوا " ويفعل ذلك لتبلغوا : " أجلاً مسمى " هو وقت الموت أو يوم القيامة . " ولعلكم تعقلون " ما في ذلك من الحجج والعبر .
68-" هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمراً " فإذا أراده . " فإنما يقول له كن فيكون " فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة ، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد .
69-" ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون " عن التصديق به وتكريم ذم المجادلة لتعدد المجادل ، أو المجادل فيه أ و للتأكيد .
70-" الذين كذبوا بالكتاب " بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية . " وبما أرسلنا به رسلنا " من سائر الكتب أو الوحي والشرائع . " فسوف يعلمون " جزاء تكذيبهم .
71-" إذ الأغلال في أعناقهم " ظرف لـ" يعلمون " إذ المعنى على الاستقبال ، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه . " والسلاسل " عطف على " الأغلال " أو مبتدأ خبره " يسحبون " .
72-" في الحميم " والعائد محذوف أي يسحبون بها ، وهو على الأول حال . وقرئ " والسلاسل يسحبون " بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية ، " والسلاسل " بالجر حملاً على المعنى " إذ الأغلال في أعناقهم " بمعنى أعناقهم في الأغلال ، أو إضمار للباء ويدل عليه القراءة به . " ثم في النار يسجرون " يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ . والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض .
73-" ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون " .
74-" من دون الله قالوا ضلوا عنا " غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم ، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم . " بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " أي بل تبين لنا لم نكن نعبد شيئاً بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئاً يعتد به كقولك : حسبته شيئاً فلم يكن . " كذلك " مثل ذلك الضلال . " يضل الله الكافرين " حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يتصادقوا .
75-" ذلكم " الإضلال . " بما كنتم تفرحون في الأرض " تبطرون وتتكبرون . " بغير الحق " وهو الشرك والطغيان . " وبما كنتم تمرحون " تتوسعون في الفرح ، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ .
76-" ادخلوا أبواب جهنم " الأبواب السبعة المقسومة لكم . " خالدين فيها " مقدرين الخلود . " فبئس مثوى المتكبرين " عن الحق جهنم ، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى .
77-" فاصبر إن وعد الله " بهلاك الكافرين . " حق " كائن لا محالة . " فإما نرينك " فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع أن وحدها . " بعض الذي نعدهم " وهو القتل والأسر . " أو نتوفينك " قبل أن تراه . " فإلينا يرجعون " يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم ، وهو جواب " نتوفينك " ، وجواب " نرينك " محذوف مثل فذاك ، ويجوز أن يكون جواباً لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض .
78-" ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة . " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم ، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها . " فإذا جاء أمر الله " بالعذاب في الدنيا أو الآخرة . " قضي بالحق " بإنجاء المحق وتعذيب المبطل . " وخسر هنالك المبطلون " المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها .
79-" الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون " فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل والبقر .
80-" ولكم فيها منافع " كالألبان والجلود و الأوبار . " ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم " بالمسافرة عليها . " وعليها " في البر . " وعلى الفلك " في البحر . " تحملون " وإنما قال " وعلى الفلك " ولم يقل في الفلك للمزاوجة ، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة . وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة ، أو للفرق بين العين والمنفعة .
81-" ويريكم آياته " دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته . " فأي آيات الله " أي فأي آية من تلك الآيات . " تنكرون " فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار ،وهو ناصب أي إذا لو قدرته متعلقاً بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه .
82-" أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوةً وآثاراً في الأرض " ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما ، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم . " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " ما الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى ، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به .
83-" فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " بالمعجزات أو الآيات الواضحات . " فرحوا بما عندهم من العلم " واستحقروا علم الرسل ، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله : " بل ادارك علمهم في الآخرة " وهو قولهم : لا نبعث ولا نعذب ، وما أظن الساعة قائمة ونحوها ، وسماها علماً على زعمهم تهكماً بهم ، أو علم الطبائع والتنجيم و الصنائع ونحو ذلك ، أو علم الأنبياء ، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده : " وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " وقيل الفرح أيضاً للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فزحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم .
84-" فلما رأوا بأسنا " شدة عذابنا . " قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " يعنون الأصنام .
85-" فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال : " لم يك " بمعنى لم يصح ولم يستقم ، والفاء الأولى لأن قوله : " فما أغنى " كالنتيجة لقوله : " كانوا أكثر منهم " ، والثانية لأن قوله : " فلما جاءتهم رسلهم " كالتفسير لقوله : " فما أغنى " والباقيتان لأن البأس مسببة عن مجيء الرسل نفي الإيمان مسبب عن الرؤية . " سنة الله التي قد خلت في عباده " أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة . " وخسر هنالك الكافرون " أي وقت رؤيتهم البأس ، اسم مكان استعير للزمان . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له " .