{ يسألونك عن الأنفال } الغنائم ، لمن هي ؟ نزلت حسن اختلفوا في غنائم بدر ، فقال الشبان : هي لنا ، لأنا باشرنا الحرب ، وقالت الأشياخ : كنا رداءا لكم ، لأنا وقفنا في المصاف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، فأنزل الله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها ، فقسمها بينهم على السواء { فاتقوا الله } بطاعته واجتناب معاصيه { وأصلحوا ذات بينكم } حقيقة وصلكم ، أي : لا تخالفوا { وأطيعوا الله ورسوله } سلموا لهما في الأنفال ، فإنهما يحكمان فيها ما أرادا { إن كنتم مؤمنين } ، ثم وصف المؤمنين فقال :
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي : المؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه ، وانقاد لأمره { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } تصديقا ويقينا { وعلى ربهم يتوكلون } بالله يثقون لا يرجون غيره .
{الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}.
{ أولئك هم المؤمنون حقا } صدقا من غير شك ، لا كإيمان المنافقين { لهم درجات عند ربهم } يعني : درجات الجنة { ومغفرة ورزق كريم } وهو رزق الجنة .
{ كما أخرجك } أي : امض لأمر الله في الغنائم وإن كره بعضهم ذلك ، لأن الشبان أرادوا أن يستبدوا به ، فقال الله تعالى : أعط من شئت وإن كرهوا ، كما مضيت لأمر الله في الخروج وهم له كارهون . ومعنى { كما أخرجك ربك من بيتك } أمرك بالخروج من المدينة لعير قريش { بالحق } بالوحي الذي أتاك به جبريل { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } الخروج معك كراهة الطبع لاحتمال المشقة ، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالعير دون القتال .
{ يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في القتال بعد ما أمرت به ، وذلك أنهم خرجوا للعير ، ولم يأخذوا أهبة الحرب ، فلما أمروا بحرب النفير شق عليهم ذلك ، فطلبوا الرخصة في ترك ذلك ، فهو جدالهم { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي : لشدة كراهيتهم للقاء القوم كأنهم يساقون إلى الموت عيانا .
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } العير أو النفير { أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي : العير التي لا سلاح فيها تكون لكم { ويريد الله أن يحق الحق } يظهره ويعليه { بكلماته } بعداته التي سبقت بظهور الإسلام { ويقطع دابر الكافرين } آخر من بقي منهم . يعني : إنه إنما أمركم بحرب قريش لهذا .
{ ليحق الحق } أي : ويقطع دابر الكافرين ليظهر الحق ويعليه { ويبطل الباطل } ويهلك الكفر ويفنيه { ولو كره المجرمون } ذلك .
{ إذ تستغيثون ربكم } تطلبون منه المغفرة بالنصر على العدو لقلتكم { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } متتابعين ، جاؤوا بعد المسلمين ، ومن فتح الدال أراد : بألف أردف الله المسلمين بهم .
{ وما جعله الله } أي : الإرداف { إلا بشرى } الآية ماضية في سورة آل عمران .
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } وذلك أن الله تعالى أمنهم أمنا غشيهم النعاس معه ، وهذا كما كان يوم أحد ، وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران . { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وذلك أنهم لما بايتوا المشركين ببدر أصابت جماعة منهم جنابات ، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء ، فوسوس إليهم الشيطان ، وقال لهم : كيف ترجون الظفر وقد غلبوكم على الماء ؟ وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين ، وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم نبيه ؟ فأنزل الله تعالى مطرا سال منه الوادي حتى اغتسلوا ، وزالت الوسوسة ، فذلك قوله : { ليطهركم به } أي : من الأحداث والجنابات { ويذهب عنكم رجز الشيطان } وسوسته التي تكسب عذاب الله { وليربط } به { على قلوبكم } باليقين والنصر { ويثبت به الأقدام } وذلك أنهم كانوا قد نزلوا على كثيب تغوص فيه أرجلهم ، فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام .
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة } الذين أمد بهم المسلمين { أني معكم } بالعون والنصرة { فثبتوا الذين آمنوا } بالتبشير بالنصر ، وكان الملك أمام الصف على صورة رجل ويقول : أبشروا ، فإن الله ناصركم { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } الخوف من أوليائي { فاضربوا فوق الأعناق } أي : الرؤوس { واضربوا منهم كل بنان } أي : الأطراف من اليدين والرجلين .
{ ذلك } الضرب { بأنهم شاقوا الله ورسوله } باينوهما وخالفوهما .
{ ذلكم } القتل والضرب ببدر { فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } بعدما نزل بهم من ضرب الأعناق .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } مجتمعين متدانين إليكم للقتال { فلا تولوهم الأدبار } لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم .
{ ومن يولهم يومئذ } أي : يوم لقاء الكفار { دبره إلا متحرفا لقتال } منعطفا مستطردا يطلب العودة { أو متحيزا } منضما { إلى فئة } لجماعة يريدون العود إلى القتال { فقد باء بغضب من الله } الآية . وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد ، إنما كان لمن فر يوم بدر ، وكان هذا خاصا للمنهزم يوم بدر .
{ فلم تقتلوهم } يعني : يوم بدر { ولكن الله قتلهم } بتسبيبه ذلك ، من المعونة عليهم وتشجيع القلب { وما رميت إذ رميت } وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي عليه السلام يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من حصى الوادي ، فرمى بها في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل عينيه منها شيء ، وكان ذلك شبب هزيمتهم ، فقال الله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } أي : إن كفا من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بشر ، ولكن الله تعالى تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } وينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة فعل ذلك { إن الله سميع } لدعائهم { عليم } بنياتهم .
{ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } يهنيء رسوله بإيهانه كيد عدوه ، حتى قتلت جبابرتهم ، وأسر أشرافهم .
{ إن تستفتحوا } هذا خطاب للمشركين ، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أفضل الدينين ، وأهدي الفئتين ، فقال الله تعالى : { إن تستفتحوا } تستنصروا لأهدى الفئتين { فقد جاءكم الفتح } النصر { وإن تنتهوا } عن الشرك بالله { فهو خير لكم وإن تعودوا } لقتال محمد { نعد } عليكم بالقتل والأسر { ولن تغني عنكم } تدفع عنكم { فئتكم } جماعتكم { شيئا ولو كثرت } في العدد { وأن الله مع المؤمنين } فالنصر لهم .
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه } لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره { وأنتم تسمعون } ما نزل من القرآن .
{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } سماع قابل ، وليسوا كذلك ، يعني : المنافقين ، وقيل : أراد المشركين ، لأنهم سمعوا ولم يتفكروا فيما سمعوا ، فكانوا بمنزلة من لم يسمع .
{ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } يريد نفرا من المشركين كانوا صما عن الحق ، فلا يسمعونه ، بكما عن التكلم به . بين الله تعالى أن هؤلاء شر ما دب على الأرض من الحيوان .
{ ولو علم الله فيهم خيرا } لو علم أنهم يصلحون بما يورده عليهم من حججه وآياته { لأسمعهم } إياها سماع تفهم { ولو أسمعهم } بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك و { لتولوا وهم معرضون } .
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } أجيبوا لهما بالطاعة { إذا دعاكم لما يحييكم } يعني : لأن به يحيا أمرهم ويقوى ، ولأنه سبب الشهادة ، والشهداء أحياء عند ربهم ، ولأنه سبب للحياة الدائمة في الجنة { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه ، ولا أن يكفر ، فالقلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء { وأنه إليه تحشرون } للجزاء على الأعمال .
{ واتقوا فتنة } الآية . أمر الله تعالى المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب ،والفتنة ها هنا : إقرار المنكر ، وترك التغيير له ، وقوله : { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي : تصيب الظالم والمظلوم ، ولا تكون للظلمة وحدهم خاصة ، ولكنها عامة ، والتقدير : واتقوا فتنة ، إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة ، أي : لا تقع بالظالمين دون غيرهم ، ولكنها تقع بالصالحين والطالحين { واعلموا أن الله شديد العقاب } حث على لزوم الاستقامة خوفا من الفتنة ، ومن عقاب الله بالمعصية فيها .
{ واذكروا } يعني : المهاجرين { إذ أنتم قليل } يعني : حين كانوا بمكة في عنفوان الإسلام قبل أن يكلموا أربعين { مستضعفون في الأرض } يعني : أرض مكة { تخافون أن يتخطفكم الناس } المشركون من العرب لو خرجتم منها { فآواكم } جعل لكم مأوى ترجعون إليه ، وضمكم إلى الأنصار { وأيدكم بنصره } يوم بدر بالملائكة { ورزقكم من الطيبات } يعني : الغنائم أحلها لكم { لعلكم تشكرون } كي تطيعوا .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله } بترك فرائضه { والرسول } بترك سنته { وتخونوا } أي : ولا تخونوا { أماناتكم } وهي كل ما ائتمن الله عليها العباد ، وكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه { وأنتم تعلمون } أنها أمانة من غير شبهة . وقيل : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لما حاصرهم ، وكان أهله وولده فيهم ، فقالوا له : ما ترى لنا ؟ أننزل على حكم سعد فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقة ، أنه الذبح ، فلا تفعلوا ، وكانت منه خيانة لله ورسوله .
{ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي : محنة يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه ، ولذلك مال أبو لبابة إلى قريظة في إطلاعهم على حكم سعد ، لأن ماله وولده كانت فيهم { وأن الله عنده أجر عظيم } لمن أدى الأمانة ولم يخن .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } باجتناب الخيانة فيما ذكر { يجعل لكم فرقانا } يفرق بينكم وبين ما تخافون ، فتنجون { ويكفر عنكم سيئاتكم } يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم { والله ذو الفضل العظيم } لا يمنعكم ما وعدكم على طاعته .
{ وإذ يمكر بك الذين كفروا } وذلك أن مشركي قريش تآمروا في دارة الندوة في شأن محمد عليه السلام ، فقال بعضهم : قيدوه نترص به ريب المنون ، وقال بعضهم : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل _ لعنه الله _ : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه ، بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك ، وأمره بالهجرة ، فذلك قوله : { ليثبتوك } أي : ليوثقوك ويشدوك { أو يقتلوك } بأجمعهم قتلة رجل واحد ، كما قال اللعين أبو جهل ، { أو يخرجوك } من مكة إلى طرف من أطراف الأرض { ويمكرون ويمكر الله } أي : يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم { والله خير الماكرين } أفضل المجازين بالسيئة العقوبة ، وذلك أنه أهلك هؤلاء الذين دبروا لنبيه الكيد ، وخلصه منهم .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } الآية . كان النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، فكان يقعد به مع المستهزئين ، فيقرأ عليهم ، فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النضر بن الحارث : لو شئت لقلت مثل هذا ، إن هذا إلا ما سطر الأولون في كتبهم ، وقال النضر أيضا :
{ اللهم إن كان هذا } الذي يقوله محمد حقا { من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } كما أمطرتا على قوم لوط { أو ائتنا بعذاب أليم } أي : ببعض ما عذبت به الأمم . حمله شدة عداوة النبي صلى الله عليه وسلم على إظهار مثل هذا القول ، ليوهم أنه على بصيرة من أمره ، وغاية الثقة في أمر محمد ، أنه ليس على حق .
{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } وما كان الله ليعذب المشركين وأنت مقيم بين أظهرهم ، لأنه لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه { وما كان الله } معذب هؤلاء الكفار وفيهم المؤمنون { يستغفرون } يعني : المسلمين ، ثم قال :
{ وما لهم أن لا يعذبهم الله } أ ي : ولم لا يعذبهم الله بالشيف بعد خروج من عنى بقوله : { وهم يستغفرون } من بينهم { وهم يصدون } يمنعون النبي والمؤمنين { عن المسجد الحرام } أن يطوفوا به { وما كانوا أولياءه } وذلك أنهم قالوا : نحن أولياء المسجد ، فرد الله عليهم بقوله : { إن أولياؤه إلا المتقون } يعني : المهاجرين والأنصار { ولكن أكثرهم لا يعلمون } غيب علمي وما سبق في قضائي .
{ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } أي : صفيرا وتصفيفا ، وكانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون ، جعلوا ذلك صلاة لهم ، فكان تقربهم إلى الله بالتصفير والصفيق { فذوقوا العذاب } ببدر { بما كنتم تكفرون } تجحدون توحيد الله تعالى .
{ إن الذين كفروا } نزلت في المنفقين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا ، قال تعالى : { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } بذهاب الأموال ، وفوات المراد .
{ ليميز الله الخبيث من الطيب } أ ي : إنما تحشرون إلى جهنم ليميز بين أهل الشقاوة ، وأهل السعادة { ويجعل الخبيث } أ ي : الكافر ، وهو اسم الجنس { بعضه على بعض } يلحق بعضهم ببعض { فيركمه جميعا } أي : يجمعه حتى يصير كالسحاب المركوم ثم { فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة .
{ قل للذين كفروا } أبي سفيان وأصحابه : { إن ينتهوا } عن الشرك وقتال المؤمنين { يغفر لهم ما قد سلف } تقدم من الزنا والشرك ، لأن الحربي إذا أسلم عاد كمثله يوم ولدته أمه { وإن يعودوا } للقتال { فقد مضت سنة الأولين } بنصر الله رسله ومن آمن على من كفر .
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } كفر { ويكون الدين كله لله } لا يكون مع دينكم كفر في جزيرة العرب { فإن انتهوا } عن الشرك { فإن الله بما يعملون بصير } يجازيهم مجازاة البصير بهم وبأعمالهم .
{ وإن تولوا } أبوا أن يدعوا الشرك وقتال محمد { فاعلموا أن الله مولاكم } ناصركم يا معشر المؤمنين .
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء } أخذتموه قسرا من الكفار { فأن لله خمسه } هذا تزيين لافتتاح الكلام ، ومصرف الخمس إلى حيث شكر ، وهو قوله : { وللرسول } كان له خمس الخمس يصنع فيه ما يشاء ، واليوم يصرف إلى مصالح المسلمين { ولذي القربى } وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين حرمت عليهم الصدقات المفروضة ، لهم خمس الخمس من الغنيمة { واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم ، ينفق عليهم من خمس الخمس { والمساكين } وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين ، لهم أيضا خمس الخمس { وابن السبيل } المنقطع به في سفره ، فخمس الغنيمة يقسم على خمسة أخماس كما ذكره الله تعالى ، وأربعة أخماسها تكون للغانمين ، وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } أي : فافعلوا ما أمرتم به في الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله { وما أنزلنا على عبدنا } يعني : هذه السورة { يوم الفرقان } اليوم الذي فرقت به بين الحق والباطل { يوم التقى الجمعان } حزب الله ، وحزب الشيطان { والله على كل شيء قدير } إذ نصركم الله وأنتم قلة أذلة .
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا } نزول بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، وعدوكم نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة { والركب } أبو سفيان وأصحابه ، وهم أصحاب الإبل . يعني : العير { أسفل منكم } إلى ساحل البحر { ولو تواعدتم } للقتال { لاختلفتم في الميعاد } لتأخرتم فنقضتم الميعاد لكثرتهم وقلتكم { ولكن } جمعكم الله من غير ميعاد { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } في علمه وحكمه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } أ ي : فعل ذلك ليضل ويكفر من كفر من بعد حجة قامت عليه ، وقطعت عذره ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، وأراد بالبينة نصرة المؤمنين مع قلتهم على ذلك الجمع الكثير مع كثرتهم وشوكتهم { وإن الله لسميع } لدعائكم { عليم } بنياتكم .
{ إذ يريكهم الله في منامك } عينك ، وهو موضع النوم { قليلا } لتحتقروهم وتجترؤوا عليهم { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } لجبنتم ولتأخرتم عن حربهم { ولتنازعتم في الأمر } واختلفت كلمتكم { ولكن الله سلم } عصمكم وسلمكم من المخالفة فيما بينكم { إنه عليم بذات الصدور } علم ما في صدوركم من اليقين ، ثم خاطب المؤمنين جميعا بهذا المعنى فقال :
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، وأسرنا رجلا فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . { ويقللكم في أعينهم } ليجترئوا عليكم ولا يرجعوا عن قتالكم { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } في علمه بنصر الإسلام وأهله ، وذل الشرك وأهله { وإلى الله ترجع الأمور } وبعد هذا إلي مصيركم ، فأكرم أوليائي ، وأعاقب أعدائي .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } جماعة كافرة { فاثبتوا } لقتالهم ولا تنهزموا { واذكروا الله كثيرا } ادعوه بالنصر عليهم { لعلكم تفلحون } كي تسعدوا وتبقوا في الجنة ، فإنهما خصلتان ، إما الغنيمة ، وإما الشهادة .
{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } ولا تختلفوا { فتفشلوا } تجبنوا { وتذهب ريحكم } جلدكم وجرأتكم ودولتكم .
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني : النفير { بطرا } طغيانا في النعمة ، للجميل مع إبطان القبيح { ويصدون عن سبيل الله } لمعاداة المؤمنين وقتالهم { والله بما يعملون محيط } عالم فيجازيهم به .
{ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الآية . وذلك أن قريشا لما اجتمعت المسير خافت كنانة وبني مدلج لطوائل كانت بينهم ، فتبدى لهم إبليس في جنده على صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي ، فقالوا له : نحن نريد قتال هذا الرجل ، ونخاف من قومك ، فقال لهم : أنا جار لكم ، أي : حافظ من قومي ، فلا غالب لكم اليوم من الناس { فلما تراءت الفئتان } التقى الجمعان { نكص على عقبيه } رجع موليا ، فقيل له : يا سراقة ، أفرارا من غير قتال ؟! فقال : { إني أرى ما لا ترون } وذلك أنه رأى جبريل مع الملائكة جاؤوا لنصر المؤمنين { إني أخاف الله } أن يهلكني فيمن يهلك { والله شديد العقاب } .
{ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } وهم قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فلما خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجوا معهم ، وقالوا : نكون مع أكثر الفئتين ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : { غر هؤلاء دينهم } إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير ، ثم قتلوا جميعا مع المشركين . قال الله تعالى : { ومن يتوكل على الله } يسلم أمره إلى الله { فإن الله عزيز } قوي منيع { حكيم } في خلقه .
{ ولو ترى } يا محمد { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } يأخذون أرواحهم . يعني : من قتلوا ببدر { يضربون وجوههم وأدبارهم } مقاديمهم إذا أقبلوا إلى المسلمين ، ومآخيرهم إذا ولوا { وذوقوا } أي : ويقولون لهم بعد الموت : ذوقوا بعد الموت { عذاب الحريق } .
{ ذلك } أي : هذا العذاب { بما قدمت أيديكم } بما كسبتم وجنيتم { وأن الله ليس بظلام للعبيد } لأنه حكم فيما يقضي .
{ كدأب آل فرعون } الآية . يريد : عادة هؤلاء في التكذيب كعادة آل فرعون ، فأنزل الله تعالى بهم عقوبته ، كما أنزل بآل فرعون { إن الله قوي } قادر لا يغلبه شيء { شديد العقاب } لمن كفر به وكذب رسله .
{ ذلك بأن الله } الآية . إن الله تعالى أطعم أهل مكة من جوع ، وآمنهم من خوف ، وبعث إليهم محمدا رسولا ، وكان هذا كله مما أنعم عليهم ، ولم يكن يغير عليهم لو لم يغيروا هم ، وتغييرهم كفرهم بها وتركهم شكرها ، فلما غيروا ذلك غير الله ما بهم ، فسلبهم النعمة وأخذهم ، ثم نزل في يهود قريظة :
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين}.
{ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون } .
{ الذين عاهدت منهم } الآية . وذلك أنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح ، ثم اعتذروا وقالوا : أخطأنا ، فعاهدهم ثانية فنقضوا العهد يوم الخندق ، وذلك قوله : { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } عقاب الله في ذلك .
{ فإما تثقفنهم في الحرب } فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم { فشرد بهم من خلفهم } فافعل بهم فعلا من التنكيل والعقوبة يفرق به جمع كل ناقض عهد ، فيعتبروا بما فعلت بهؤلاء ، فلا ينقضوا العهد ، فذلك قوله تعالى : { لعلهم يذكرون } .
{ وإما تخافن من قوم } تعلمن من قوم { خيانة } نقضا للعهد بدليل يظهر لك { فانبذ إليهم على سواء } أي : انبذ عهدهم الذي عاهدتهم عليه ، لتكون أنت وهم سواء في العداوة ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب ، أي : أعلمهم أنك نقضت عهدهم لئلا يتوهموا بك الغدر { إن الله لا يحب الخائنين } الذين يخونون في العهود وغيرها .
{ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } وذلك أن من أفلت من حرب بدر من الكفار خافوا أن ينزل بهم هلكة في الوقت ، فلما لم ينزل طغوا وبغوا ، فقال الله : لا تحسبنهم سبقونا بسلامتهم الآن فـ { إنهم لا يعجزون } ـنا ولا يفوتوننا فيما يستقبلون من الأوقات .
{ وأعدوا لهم } أي : خذوا العدة لعدوكم { ما استطعتم من قوة } مما تتقوون به على حربهم ، من السلاح والقسي وغيرهما { ومن رباط الخيل } مما يرتبط من الفرس في سبيل الله { ترهبون به } تخوفون به بما استطعتم { عدو الله وعدوكم } مشركي مكة وكفار العرب { وآخرين من دونهم } وهم المنافقون { لا تعلمونهم الله يعلمهم } لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله ، ويغزون معكم ، والمنافق يريبه عدد المسلمين { وما تنفقوا من شيء } من آلة ، وسلاح ، وصفراء ، وبيضاء { في سبيل الله } طاعة الله { يوف إليكم } يخلف لكم في العاجل ، ويوفر لكم أجره في الآخرة { وأنتم لا تظلمون } لا تنقصون من الثواب .
{ وإن جنحوا للسلم } مالوا إلى الصلح { فاجنح لها } فمل إليها . يعني : المشركين واليهود ، ثم نسخ هذا بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } . { وتوكل على الله } ثق به { إنه هو السميع } لقولكم { العليم } بما في قلوبكم .
{ وإن يريدوا أن يخدعوك } بالصلح لتكف عنهم { فإن حسبك الله } أي : فالذي يتولى كفايتك الله { هو الذي أيدك } قواك { بنصره } يوم بدر { وبالمؤمنين } يعني : الأنصار .
{ وألف بين قلوبهم } بين قلوب الأوس والحزرج ، وهم الأنصار { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } للعداوة التي كانت بينهم ، { ولكن الله ألف بينهم } لأن قلوبهم بيده يؤلفها كيف يشاء { إنه عزيز } لا يمتنع عليه شيء { حكيم } عليم بما يفعله .
{ يا أيها النبي حسبك الله } . الآية . أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا ، وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه ، فنزلت هذه الآية ، والمعنى : يكفيك الله ، ويكفي من اتبعك من المؤمنين .
{ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } حضهم على نصر دين الله { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } يريد : الرجل منكم بعشرة منهم في الحرب ، { وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } أي : هم على جهالة ، فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خلاف من يقاتل على بصيرة يرجو ثواب الله ، وكان الحكم على هذا زمانا ، يصابر الواحد من المسلمين العشرة من الكفار ، فتضرعوا وشكوا إلى الله عز وجل ضعفهم ، فنزل :
{ الآن خفف الله عنكم } هون عليكم { وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } . فصار الرجل من المسلمين برجلين من الكفار ، وقوله : { بإذن الله } أي : بإرادته ذلك .
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الآية . نزلت في فداء أسارى بدر ، فادوهم بأربعة آلاف ألف ، فأنكر الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : لم يكن لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء ، فلا يكون له أيضا حتى يثخن في الأرض : يبالغ في قتل أعدائه { تريدون عرض الدنيا } أي : الفداء { والله يريد الآخرة } يريد لكم الجنة بقتلهم ، وهذه الآية بيان عما يجب أن يجتنب من اتخاذ الأسرى للمن أو الفداء قبل الإثخان في الأرض بقتل الأعداء ، وكان هذا في يوم بدر ، ولم يكونوا قد أثخنوا ، فلذلك أنكر الله عليهم ، ثم نزل بعده : { فإما منا بعد وإما فداء } .
{ لولا كتاب من الله سبق } يا محمد أن الغنائم وفداء الأسرى لك ولأمتك حلال { لمسكم فيما أخذتم } من الفداء { عذاب عظيم } فلما نزل هذا أمسكوا أيديهم عما أخذوا من الغنائم ، فنزل :
{ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله } بطاعته { إن الله غفور } غفر لكم ما أخذتم من الفداء { رحيم } رحمكم لأنكم أولياؤه .
{ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } إرادة للإسلام { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } من الفداء . يعني : إن أسلمتم وعلم الله إسلام قلوبكم أخلف عليكم خيرا مما أخذ منكم { ويغفر لكم } ما كان من كفركم وقتالكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وإن يريدوا خيانتك } وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بك ، ونشهد أنك رسول الله ، فقال الله تعالى : إن خانوك وكان قولهم هذا خيانة { فقد خانوا الله من قبل } كفروا به { فأمكن منهم } المؤمنين ببدر ، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى القتال { والله عليم } بخيانة إن خانوها { حكيم } في تدبيره ومجازاته إياهم .
{ إن الذين آمنوا وهاجروا } الآية . نزلت في الميراث كانوا في ابتداء الإسلام يتوارثون بالهجرة والنصرة ، فكان الرجل يسلم ولا يهاجر ، فلا يرث أخاه فذلك قوله : { الذين آمنوا وهاجروا } هجروا قومهم وديارهم وأموالهم . { والذين آووا ونصروا } يعني : الأنصار ، أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم { أولئك بعضهم أولياء بعض } أي : هؤلاء الذين يتوارثون بعضهم من بعض . { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } أي : ليسوا بأولياء ، ولا يثبت التوارث بينكم وبينهم { حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين } يعني : هؤلاء الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم وانصروهم { إلا } أن يستنصروكم { على قوم بينكم وبينهم ميثاق } عهد فلا تغدروا ولا تعاونوهم .
{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } أي : لا توارث بينكم وبينهم ، ولا ولاية ، والكافر ولي الكافر دون المسلم { إلا تفعلوه } إلا تعاونوا وتناصروا وتأخذوا في الميراث بما أمرتكم به { تكن فتنة في الأرض } شرك { وفساد كبير } وذلك أن المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الإسلام ، فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره ، وقوله :
{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } أي : هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة خلاف من أقام بدار الشرك .
{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } يعني : الذين هاجروا بعد الحديبية ، وهي الهجرة الثانية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } نسخ الله الميراث بالهجرة والحلف بعد فتح مكة . رد الله المواريث إلى ذوي الأرحام : ابن الأخ والعم وغيرهما { في كتاب الله } في حكم الله { إن الله بكل شيء عليم } .