{ الم } .
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم }
{ نزل عليك الكتاب } أي : القرآن { بالحق } بالصدق في إخباره { مصدقا لما بين يديه } موافقا لما تقدم الخبر به في سائر الكتب { وأنزل التوراة والإنجيل } .
{من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } ما فرق به بين الحق والباطل . يعني : جميع الكتب التي أنزلها . { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام } ذو عقوبة .
قال تعالى{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}.
{ هو الذي يصوركم } يجعلكم على صور في أرحام الأمهات { كيف يشاء } ذكرا وأنثى ، قصيرا وطويلا ، وأسود وأبيض .
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } وهن الثلاث الآيات في آخر سورة الأنعام : { قل تعالوا أتل } إلى آخر الآيات الثلاث . { هن أم الكتاب } هن أم كل كتاب أنزله الله تعالى على كل نبي ، فيهن كل ما أحل وحرم ، ومعناه : أنهن أصل الكتاب الذي يعمل عليه { وأخر } أي : آيات أخر { متشابهات } يريد : التي تشابهت على اليهود ، وهي حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل ، وطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة ، فاختلط عليهم واشتبه . { فأما الذين في قلوبهم زيغ } وهم اليهود الذين طلبوا علم أجل هذه الأمة من الحروف المقطعة { فيتبعون ما تشابه منه } من الكتاب . يعني : حروف التهجي { ابتغاء الفتنة } طلب اللبس ليضلوا به جهالهم { وابتغاء تأويله } طلب أجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم . { وما يعلم تأويله إلا الله } يريد : ما يعلم انقضاء ملك أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا الله لأن انقضاء ملكهم مع قيام الساعة ، ولا يعلم ذلك أحد إلا الله ، ثم ابتدأ فقال : { والراسخون في العلم } أي : الثابتون فيه . يعني : علماء مؤمني أهل الكتاب { يقولون آمنا به } أي : بالمتشابه { كل من عند ربنا } المحكم والمتشابه ، وما علمناه ، وما لم نعلمه { وما يذكر إلا أولو الألباب } ما يتعظ بالقرآن إلا ذوو العقول .
{ ربنا } أي : ويقول الراسخون في العلم { ربنا لا تزغ قلوبنا } لا تملها عن الهدى والقصد كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ { بعد إذ هديتنا } للإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك .
{ ربنا إنك جامع الناس } حاشرهم { ليوم } الجزاء في يوم { لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد } للبعث والجزاء .
{ إن الذين كفروا } يعني : يهود قريظة والنضير { لن تغني عنهم } أي : لن تنفع ولن تدفع عنهم { أموالهم } { ولا أولادهم } يعني : التي يتفاخرون بها { من الله } من عذاب الله { شيئا وأولئك هم وقود النار } هم الذين توقد بهم النار .
{ كدأب آل فرعون } كصنيع آل فرعون وفعلهم في الكفر والتكذيب كفرت اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ قل للذين كفروا } يعني : يهود المدينة ومشركي مكة { ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } بئس ما مهد لكم .
{ قد كان لكم آية } علامة تدل على صدق محمد عليه السلام { في فئتين } يعني : المسلمين والمشركين { التقتا } اجتمعتا يوم بدر للقتال { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم المسلمون { وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ، ولكن الله تعالى قللهم في أعينهم ، وأراهم على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم ، وذلك أن الله عز وجل كان قد أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار { رأي العين } أي : من حيث يقع عليهم البصر { والله يؤيد } يقوي { بنصره } بالغلبة والحجة من يشاء { إن في ذلك لعبرة } وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم { لأولي الأبصار } لذوي العقول .
{ زين للناس حب الشهوات } جمع الشهوة ، وهي توقان النفس إلى الشيء { والقناطير المقنطرة } الأموال الكثيرة المجموعة { والخيل المسومة } الراعية ، وقيل : المعلمة كالبلق وذوات الشيات ، وقيل : الحسان . والخيل : الأفراس { والأنعام } الإبل والبقر والغنم { والحرث } وهو ما يزرع ويغرس ، ثم بين أن هذه الأشياء متاع الدنيا ، وهي فانية زائلة { والله عنده حسن المآب } المرجع ، ثم أعلم أن خيرا من ذلك كله ما أعده لأوليائه فقال .
{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } الذي ذكرت { للذين اتقوا } الشرك { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد } .
قال تعالى{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}.
{ الصابرين } على دينهم وعلى ما أصابهم { والصادقين } في نياتهم { والقانتين } المطيعين لله { والمنفقين } من الحلال في طاعة الله { والمستغفرين بالأسحار } المصلين صلاة الصبح . قيل : نزلت في المهاجرين والأنصار .
{ شهد الله } بين وأظهر بما نصب من الأدلة على توحيده { أنه لا إله إلا هو والملائكة } أي : وشهدت الملائكة ، بمعنى : أقرت بتوحيد الله { وأولو العلم } هم الأنبياء والعلماء من مؤمني أهل الكتاب والمسلمين { قائما بالقسط } أي : قائما بالعدل ، يجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور .
{ إن الدين عند الله الإسلام } افتخر المشركون بأديانهم ، فقال كل فريق : لا دين إلا ديننا ، وهو دين الله ، فنزلت هذه الآية وكذبهم الله تعالى فقال : { إن الدين عند الله الإسلام } الذي جاء به محمد عليه السلام { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أي : اليهود ، لم يختلفوا في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا يجدونه في كتابهم { إلا من بعد ما جاءهم العلم } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم ، سمي علما لأنه كان معلوما عندهم بنعته وصفته قبل بعثه ، فلما جاءهم اختلفوا فيه ، فآمن به بعضهم وكفر الآخرون { بغيا بينهم } طلبا للرياسة وحسدا له على النبوة { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } أي : المجازاة له على كفره .
{ فإن حاجوك } أي : جادلوك { فقل أسلمت وجهي لله } أي : أخلصت عملي لله وانقدت له { ومن اتبعني } يعني : المهاجرين والأنصار { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين } يعني : العرب { أأسلمتم } استفهام معناه الأمر ، أي : أسلموا ، وقوله : { عليك البلاغ } أي : التبليغ وليس عليك هداهم { والله بصير بالعباد } أي : بمن آمن بك وصدقك ، ومن كفر بك وكذبك ، وكان هذا قبل أن أمر بالقتال .
{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق } قد مضى تفسيره في سورة البقرة ، وقوله : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } قال < رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية . > وهؤلاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتولونهم ، فهم داخلون في جملتهم .
{أولئك الذين حبطت أعمالهم } بطلت أعمالهم التي يدعونها من التمسك بالتوراة ، وإقامة شرع موسى عليه السلام { في الدنيا } لأنها لم تحقن دماءهم وأموالهم { و } في { الآخرة } لأنهم لم يستحقوا بها ثوابا .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يعني : اليهود { يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } وذلك أنهم أنكروا آية الرجم من التوراة ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حد المحصنين إذا زنيا ، فحكم بالرجم فقالوا : جرت يا محمد ، فقال : بيني وبينكم التوراة ، ثم أتوا بابن صوريا الأعور فقرأ التوراة ، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفه ، فقام ابن سلام فرفع كفه عنها ، وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود ، فغضب اليهود لذلك غضبا شديدا وانصرفوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ثم يتولى فريق منهم } يعني : العلماء والرؤساء { وهم معرضون } .
{ ذلك } أي : ذلك الإعراض عن حكمك بسبب اغترارهم حيث قالوا : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } افتراؤهم ، وهو قوله : { لن تمسنا النار } وقد مضى هذا في سورة البقرة .
{ فكيف إذا جمعناهم } أي : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم { ل } جزاء { يوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس } جزاء { ما كسبت وهم لا يظلمون } بنقصان حسناتهم أو زيادة سيئاتهم .
{ قل اللهم مالك الملك } لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، ( الفارس والروم أعز وأمنع من أن يغلب على بلادهم ) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : { تؤتي الملك من تشاء } محمدا وأصحابه { وتنزع الملك ممن تشاء } أبي جهل وصناديد قريش { وتعز من تشاء } المهاجرين والأنصار { وتذل من تشاء } أبا جهل وأصحابه حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب { بيدك الخير } أي : عز الدنيا والآخرة ، وأراد : الخير والشر ، فاكتفى بذكر الخير ، لأن الرغبة إليه في فعل الخير بالعبد دون الشر .
{ تولج الليل في النهار } تدخل الليل في النهار ، أي : تجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخر { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } تخرج الحيوان من النطفة ، وتخرج النطفة من الحيوان ، وتخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن { وترزق من تشاء بغير حساب } بغير تقتير وتضييق .
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي : أنصارا وأعوانا من غير المؤمنين وسواهم . نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يباطنون اليهود ، (أي : يألفونهم) ويوالونهم . { ومن يفعل ذلك } الاتخاذ { فليس من الله في شيء } أي : من دين الله ، أي : قد برئ من الله وفارق دينه ، ثم استثنى فقال : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي : تقية هذا في المؤمن إذا كان في قوم كفار ، وخافهم على ماله ونفسه ، فله أن يخالفهم ويداريهم باللسان ، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه . قال ابن عباس : يريد مدارة ظاهرة { ويحذركم الله نفسه } أي : يخوفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه ،( يريد : عذابه ، وخصصه بنفسه تعظيما له) . فلما نهى عن ذلك خوف وحذر عن إبطان موالاتهم ، فقال :
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه } من ضمائركم في موالاتهم وتركها { يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } إتمام للتحذير ، لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما ، فكيف يخفى عليه الضمير ؟ { والله على كل شيء قدير } تحذير من عقاب من لا يعجزه شيء .
{ يوم تجد كل نفس } أي : ويحذركم الله عذاب نفسه يوم تجد ، أي : ذلك اليوم ، وقوله : { ما عملت من خير محضرا } أي : جزاء ما عملت بما ترى من الثواب { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } غاية بعيدة كما بين المشرق والمغرب .
{ قل } أي : للكفار { إن كنتم تحبون الله } . < وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم يسجدون للأصنام ، فقال : يا معشر قريش ، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله > ، فأنزل الله تعالى : { قل } يا محمد { إن كنتم تحبون الله } وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فاتبعوني يحببكم الله } فأنا رسوله إليكم ، وحجته عليكم ، ومعنى محبة العبد لله سبحانه إرادته طاعته وإيثاره أمره ، ومعنى محبة الله العبد إرادته لثوابه وعفوه عنه وإنعامه عليه .
{ قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا } عن الطاعة { فإن الله لا يحب الكافرين } لا يغفر لهم ولا يثني عليهم .
{ إن الله اصطفى آدم } بالنبوة والرسالة { ونوحا وآل إبراهيم } يعني : إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط { وآل عمران } موسى وهارون { على العالمين } على عالمي زمانهم .
{ ذرية } أي : اصطفى ذرية { بعضها من بعض } أي : من ولد بعض ، لأن الجميع ذرية آدم ، ثم ذرية نوح { والله سميع } لما تقوله الذرية المصطفاة { عليم } بما تضمره ، فلذلك فضلها على غيرها .
{ إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة أم مريم : { إني نذرت لك ما في بطني } أي : أوجبت على نفسي أن أجعل ما في بطني { محررا } عتيقا خالصا لله ، خادما للكنيسة ، مفرغا للعبادة ولخدمة الكنيسة ، وكان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم ، فتصدقت بولدها على بيت المقدس .
{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } اعتذرت مما فعلت من النذر لما ولدت أنثى { وليس الذكر كالأنثى } في خدمة الكنيسة لما يلحقها من الحيض والنفاس { وإني أعيذها بك } أي : أمنعها وأجيرها { من الشيطان الرجيم } الملعون المطرود .
{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي : رضيها مكان المحرر الذي نذرته { وأنبتها نباتا حسنا } في صلاح وعفة ومعرفة بالله وطاعة له { وكفلها زكريا } ضمن القيام بأمرها ، فبنى لها محرابا في المسجد لا يرتقى إليه إلا بسلم ، والمحراب : الغرفة ، وهو قوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا } أي : فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء تأتيها به الملائكة من الجنة ، فلما رأى زكريا ما أوتيت مريم من( فاكهةالصيف في الشتاء وفاكهةالشتاء في الصيف ) على خلاف مجرى العادة طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف العادة ، وذلك قوله :
{ هنالك } أي : عند ذلك { دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك } أي : من عندك { ذرية طيبة } أي : نسلا مباركا تقيا ، فأجاب الله دعوته وبعث إليه الملائكة مبشرين ، وهو قوله :
{ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله } أي : مصدقا بعيسى أنه روح الله وكلمته ، وسمي عيسى كلمة الله ، لأنه حدث عند قوله : { كن } فوقع عليه اسم الكلمة ، لأنه بها كان { وسيدا } وكريما على ربه { وحصورا } وهو الذي لا يأتي النساء ولا أرب له فيهن .
{ قال } زكريا لما بشر بالولد : { رب أنى يكون لي غلام } أي : على أي حال يكون ذلك ؟ أتردني إلى حال الشباب وامرأتي أم مع حال الكبر ؟ { وقد بلغني الكبر } أي : بلغته ، لأنه كان ذلك اليوم ابن عشرين ومائة سنة { وامرأتي عاقر } لا تلد ، وكانت بنت ثمان وتسعين سنة . قيل له : { كذلك } أي : مثل ذلك من الأمر ، وهو هبة الولد على الكبر يفعل الله ما يشاء ، فسبحان من لا يعجزه شيء ، فلما بشر بالولد سأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته وذلك قوله.
{ قال رب اجعل لي آية } فقال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } جعل الله تعالى علامة حمل امرأته أن يمسك لسانه فلا يقدر أن يكلم الناس ثلاثة أيام { إلا رمزا } أي : إيماء بالشفتين والحاجبين والعينين ، وكان مع ذلك يقدر على التسبيح وذكر الله ، وهو قوله : { واذكر ربك كثيرا وسبح } أي : وصل { بالعشي } وهو آخر النهار { والإبكار } ما بين طلوع الفجر إلى الضحى .
{ وإذ قالت الملائكة } أي : جبريل عليه السلام وحده : { يا مريم إن الله اصطفاك } أي : بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته { وطهرك } من ملامسة الرجال والحيض { واصطفاك على نساء العالمين } على عالمي زمانك .
{ يا مريم اقنتي لربك } قومي للصلاة بين يدي ربك ، فقامت حتى سالت قدماها قيحا { واسجدي واركعي } أي : ائتي بالركوع والسجود ، والواو لا تقتضي الترتيب { مع الراكعين } أي : افعلي كفعلهم ، وقال : { مع الراكعين } ولم يقل : مع الراكعات ، لأنه أعم .
{ ذلك } أي : ما قصصنا عليك من حديث زكريا ومريم { من أنباء الغيب } أي : من أخباره { نوحيه إليك } أي : نلقيه { وما كنت لديهم } فتعرف ذلك { إذ يلقون أقلامهم } وذلك أن حنة لما ولدت مريم أتت بها سدنة بيت المقدس ، وقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار حتى اقترعوا عليها ، فخرجت القرعة لزكريا ، فذلك قوله : { إذ يلقون أقلامهم } أي : قداحهم التي كانوا يقترعون بها لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم .
{ إذ قالت الملائكة } يعني : جبريل عليه السلام : { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } يعني : عيسى عليه السلام ، لأنه في ابتداء أمره كان كلمة من الله ، وكون بكلمة منه ، أي : من الله { اسمه المسيح } وهو معرب من مشيحا بالسريانية ، لقب لعيسى ثم فسر وبين من هو فقال : { عيسى ابن مريم وجيها } أي : ذا جاه وشرف وقدر { في الدنيا والآخرة ومن المقربين } إلى ثواب الله وكرامته .
{ ويكلم الناس في المهد } صغيرا { وكهلا } أي : يتكلم بالنبوة كهلا . وقيل : بعد نزوله من السماء { ومن الصالحين } يريد : مثل موسى ويعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام .
{ قالت } مريم متعجبة : { أنى يكون لي ولد } من غير مسيس بشر ؟ { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } مثل ذلك من الأمر ، وهو خلق الولد من غير مسيس بشر ، أي : الأمر كما تقولين ، ولكن الله { إذا قضى أمرا } ذكر في سورة البقرة ( إلى آخرها ) .
{ ويعلمه الكتاب } أراد : الكتابة والخط .
وقوله : { ورسولا إلى بني إسرائيل } أي : ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل { أني } أي : بأني { قد جئتكم بآية من ربكم } وهو { أني أخلق } أي :أقدر وأصور { كهيئة الطير } كصورته { وأبرئ الأكمه } وهو الذي ولد أعمى { والأبرص } أي : الذي به وضح أي : بياض { وأنبئكم بما تأكلون } في غدوكم { وما } كم { تدخرون } لباقي يومكم .
{ ومصدقا } أي : وجئتكم مصدقا { لما بين يدي } أي : الكتاب الذي أنزل من قبلي { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } أحل لهم على لسان المسيح لحوم الإبل ، والثروب ، وأشياء من الطير ، والحيتان مما كان محرما في شريعة موسى عليه السلام { وجئتكم بآية من ربكم } أي : ما كان معه من المعجزات الدالة على رسالته ، ووحد لأنها كلها جنس واحد في الدلالة .
قال تعالى{إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.
{ فلما أحس عيسى } علم ورأى { منهم الكفر } وذلك أنهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله تعالى ، فاستنصر عليهم و { قال من أنصاري إلى الله } أي : مع الله ، وفي ذات الله { قال الحواريون } وكانوا قصارين يحورون الثياب ، أي : يبيضونها ، آمنوا بعيسى واتبعوه : { نحن أنصار الله } أنصار دينه { آمنا بالله واشهد } يا عيسى { بأنا مسلمون } . وقوله :
{ فاكتبنا مع الشاهدين } مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق ، والمعنى : أثبت أسماءنا مع أسمائهم ، لنفوز بمثل ما فازوا .
{ ومكروا } سعوا في قتله بالمكر { ومكر الله } جازاهم على مكرهم بإلقاء شبه عيسى على من دل عليه حتى أحذ وصلب { والله خير الماكرين } أفضل المجازين بالسيئة العقوبة ، لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه .
{ إذ قال الله يا عيسى } والمعنى : ومكر الله إذ قال الله يا عيسى : { إني متوفيك } أي : قابضك من غير موت وافيا تاما ، أي : لم ينالوا منك شيئا { ورافعك إلي } أي : إلى سمائي ومحل كرامتي ، فجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ، كقوله : { إني ذاهب إلى ربي } وإنما ذهب إلى الشام ، والمعنى : إلى أمر ربي { ومطهرك من الذين كفروا } أي : مخرجك من بينهم { وجاعل الذين اتبعوك } وهم أهل الإسلام من هذه الأمة . اتبعوا دين المسيح وصدقوه بأنه رسول الله ، فوالله ما اتبعه من دعاه ربا { فوق الذين كفروا } بالبرهان والحجة والعز والغلبة .
قال تعالى{فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}.
قال تعالى{وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين}.
{ ذلك } أي : ما تقدم من النبأ عن عيسى ومريم عليهما السلام { نتلوه عليك } نخبرك به { من الآيات } أي : العلامات الدالة على رسالتك ، لأنها أخبار من أمور لم يشاهدها ولم يقرأها من كتاب { والذكر الحكيم } أي : القرآن المحكم من الباطل .وقيل : الحكيم : الحاكم ، بمعنى المانع من الكفر والفساد .
{ إن مثل عيسى } الآية . نزلت في وفد نجران حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ولدا من غير ذكر ؟ فاحتج الله تعالى عليهم بآدم عليه السلام ، أي : إن قياس خلق عيسى عليه السلام من غير ذكر كقياس خلق آدم عليه السلام ، بل الشأن فيه عجب ، لأنه خلق من غير ذكر ولا أنثى ، وقوله : { عند الله } أي : في الإنشاء والخلق ، وتم الكلام عند قوله : { كمثل آدم } ثم استأنف خبرا آخر من قصة آدم عليه السلام ، فقال : { خلقه من تراب } أي : قالبا من تراب { ثم قال له كن } بشرا { فيكون } بمعنى فكان .
{ الحق من ربك } أي : الذي أنبأتك من خبر عيسى الحق من ربك { فلا تكن من الممترين } أي : من الشاكين ز الخطاب للنبي عليه السلام ، والمراد به نهي غيره عن الشك .
{ فمن حاجك } خاصمك { فيه } في عيسى { من بعد ما جاءك من العلم } بأن عيسى عبد الله ورسوله { فقل تعالوا } هلموا { ندع أبناءنا وأبناءكم } لما احتج الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله : { إن مثل عيسى عند الله } الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم من طريق الإعجاز ، فلما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة ، وهي الدعاء على الظالم من الفريقين ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعلي وفاطمة عليهم السلام وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فذلك قوله : { ندع أبناءنا } الآية . وقوله : { وأنفسنا وأنفسكم } يعني : بني العم { ثم نبتهل } نتضرع في الدعاء .وقيل : ندعو بالبهلة ، وهي اللعنة ، فندعو الله باللعنة على الكاذبين ، فلم تجبه النصارى إلى المباهلة خوفا من اللعنة ، وقبلوا الجزية .
{ إن هذا } الذي أوحيناه إليك { لهو القصص الحق } الخبر الصدق .
{ فإن تولوا } أعرضوا عما أتيت به من البيان { فإن الله } يعلم من يفسد من خلقه فيجازيه على ذلك .
{ قل يا أهل الكتاب } يعني : يهود المدينة ، ونصارى نجران ، { تعالوا إلى كلمة سواء } معنى الكلمة : كلام فيه شرح قصة { سواء } عدل { بيننا وبينكم } ثم فسر الكلمة فقال : { أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } أي : لا نعبد معه غيره { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } كما اتخذت النصارى عيسى ، وبنو إسرائيل عزيزا . وقيل : لا نطيع أحدا في معصية الله ، كما قال الله في صفتهم لما أطاعوا في معصيته علماءهم : { اتخذوا أحبارهم } الآية . { فإن تولوا } أعرضوا عن الإجابة { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } مقرون بالتوحيد .
{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } . نزلت لما تنازعت اليهود والنصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانيا ، وقوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } أي : إن اليهودية والنصرانية حدثتا بعد نزول الكتابين ، وإنما نزلا بعد موته بزمان طويل . { أفلا تعقلون } فساد هذه الدعوى .
{ ها أنتم } أي : أنتم { هؤلاء } أي : يا هؤلاء { حاججتم } جادلتم وخاصمتم { فيما لكم به علم } يعني : ما وجدوه في كتبهم وأنزل عليهم بيانه وقصته { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } من شأن إبراهيم عليه السلام ، وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا { والله يعلم } شأن إبراهيم { وأنتم لا تعلمون } ثم بين حاله فقال :
{ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } الآية ، ثم جعل المسلمين أحق الناس به ، فقال :
{ إن أولى الناس بإبراهيم } أي : أقربهم إليه وأحقهم به { للذين اتبعوه } على دينه وملته { وهذا النبي } محمد صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا } أي : فهم الذين ينبغي أن يقولوا : إنا على دين إبراهيم عليه السلام .
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } أراد اليهود أن يستزلوا المسلمين عن دينهم ويردوهم إلى الكفر ، فنزلت هذه الآية . { وما يضلون إلا أنفسهم } لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم ، فيحصل الإثم عليهم بتمنيهم إضلال المؤمنين { وما يشعرون } أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين .
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } أي : القرآن { وأنتم تشهدون } بما يدل على صحته من كتابكم ، لأن فيه نعت محمد عليه السلام وذكره .
{ يا أهل الكتاب لم تلبسون } ذكر في سورة البقرة .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب } أي : وذلك أن جماعة من اليهود قال بعضهم لعبض : أظهروا الإيمان بمحمد والقرآن في أول النهار ، وارجعوا عنه في آخر النهار ، فإنه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينه ويشكوا إذا قلتم : نظرنا في كتابكم فوجدنا محمدا ليس بذاك ، فأطلع الله نبيه عليه السلام على سر اليهود ومكرهم بهذه الآية .
{ ولا تؤمنوا } هذا حكاية من كلام اليهود بعضهم لبعض . قالوا : لا تصدقوا ولا تقروا بـ{ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من العلم والحكمة ، والكتاب ، والحجة ، والمن والسلوى ، والفضائل والكرامات { إلا لمن تبع دينكم } اليهودية وقام بشرائعه ، وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض بين المفعول وفعله ، وهو من كلام الله تعالى ، وليس من كلام اليهود ، ومعناه : إن الدين دين الله ، وقوله : { أو يحاجوكم } عطف على قوله : { أن يؤتى } والمعنى : ولا تؤمنوا بأن يحاجوكم عند ربكم ، لأنكم أصح دينا منهم ، فلا يكون لهم الحجة عليكم ، فقال الله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله } أي : ما تفضل الله به عليك وعلى أمتك .
{ يختص برحمته } بدينه الإسلام { من يشاء والله ذو الفضل } على أوليائه { العظيم } لأنه لا شيء أعظم عند الله من الإسلام ، ثم أخبر عن اختلاف أحوالهم في الأمانة والخيانة بقوله :
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } يعني : عبد الله بن سلام ، أودع ألفا ومائتي أوقية من ذهب ، فأدى الأمانة فيه إلى من ائتمنه { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } يعني : فنحاص بن عازوراء ، أودع دينارا فخانه { إلا ما دمت عليه قائما } على رأسه بالإجتماع معه ، فإن أنظرته وأخرته أنكر . { ذلك } أي : الاستحلال والخيانة { بأنهم } يقولون : { ليس علينا } فيما أصبنا من أموال العرب شيء ، لأنهم مشركون ، فالأميون في هذه الآية العرب كلهم ، ثم كذبهم الله تعالى في هذا ، فقال { ويقولون على الله الكذب } لأنهم ادعوا أن ذلك في كتابهم وكذبوا ، فإن الأمانة مؤداة في كل شريعة { وهم يعلمون } أنهم يكذبون ، ثم رد عليهم قولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل } بقوله :
{ بلى } أي : بلى عليهم سبيل ( في ذلك ) ، ثم ابتدأ فقال : { من أوفى بعهده } أي : بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد عليه السلام والقرآن ، وأدى الأمانة ، واتقى الكفر والخيانة ، ونقض العهد { فإن الله يحب المتقين } أي : من كان بهذه الصفة .
{ إن الذين يشترون بعهد الله } نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ضيعة ، فهم المدعى عليه أن يحلف ، فنزلت هذه الآية فنكل ( المدعى عليه ) عن اليمين وأقر بالحق ، ومعنى { يشترون } يستبدلون ، { بعهد الله } بوصيته للمؤمنين أن لا يحلفوا كاذبين باسمه { وأيمانهم } جميع اليمين، وهو الحلف { ثمنا قليلا } من الدنيا { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي : لا نصيب لهم فيها { ولا يكلمهم الله } بكلام يسرهم { ولا ينظر إليهم } بالرحمة .وأكثر المفسرين على أن الآية نزلت في اليهود ، وكتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانهم الذي بدلوه من صفة محمد عليه السلام هو الحق في التوراة ، والدليل على صحة هذا قوله :
{ وإن منهم } أي : من اليهود { لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } يحرفونه بالتغيير والتبديل ، والمعنى : يلوون ألسنتهم عن سنن الصواب بما يأتونه به من عند أنفسهم { لتحسبوه } أي : لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به { من الكتاب } .
{ ما كان لبشر } الآية . لما ادعت اليهود أنهم على دين إبراهيم عليه السلام ، وكذبهم الله تعالى غضبوا وقالوا : ما يرضيك منا يا محمد إلا أن نتخذك ربا ، < فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله > ، ونزلت هذه الآية . { ما كان لبشر } أن يجمع بين هذين : بين النبوة وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله { ولكن } يقول : { كونوا ربانيين } الآية أي : يقول : كونوا معلمي الناس بعلمكم ودرسكم ، علموا الناس وبينوا لهم ، وكذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود ، لأنهم كانوا أهل كتاب يعلمون ما لا تعلمه العرب .
{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } كما فعلت النصارى والصابئون { أيأمركم بالكفر } استفهام معناه الإنكار ، أي : لا يفعل ذلك { بعد إذ أنتم مسلمون } بعد إسلامكم .
{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب } ما ها هنا للشرط ، والمعنى : لئن آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة ، ومهما آتيتكم { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به } ويريد بميثاق النبيين عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } يريد محمدا { لتؤمنن به ولتنصرنه } أي : إن أدركتموه ولم يبعث الله بينا إلا أخذ عليه العهد في محمد عليه السلام ، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه ، وهذا احتجاج على اليهود ، قوله : { أأقررتم } أي : قال الله للنبيين : أقررتم بالإيمان به والنصرة له { وأخذتم على ذلكم إصري } أي : قبلتم عهدي ؟ { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أي : على أنفسكم وعلى أتباعكم { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم .
{ فمن تولى } أعرض من { بعد ذلك } بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي صلى الله عليه وسلم { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن الإيمان .
{ أفغير دين الله يبغون } بعد أخذ الميثاق عليهم بالتصديق بمحمد عليه السلام { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا } الملائكة والمسلون { وكرها } الكفار في وقت البأس { وإليه يرجعون } وعيد لهم ، أي : أيبغون غير دين الله مع أن مرجعهم إليه ؟
{ قل آمنا بالله } أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : آمنا بالله وبجميع الرسل من غير تفريق بينهم في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى ، ونظير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة .
قال تعالى{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
{ كيف يهدي الله } هذا استفهام معنا الإنكار ، أي : لا يهدي الله { قوما كفروا بعد إيمانهم } أي : اليهود كانوا مؤمنين بمحمد عليه السلام قبل مبعثه ، فلما بعث كفروا به ، وقوله : { وشهدوا } أي : وبعد أن شهدوا { أن الرسول حق وجاءهم البينات } ما بين في التوراة { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي : لا يرشد من نقض عهود الله بظلم نفسه .
{ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله } مثل هذه الآية ذكر في سورة البقرة .
قال تعالى{ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}.
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك } أي : راجعوا الإيمان بالله وتصديق نبيه { وأصلحوا } أعمالهم .
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم } وهم اليهود { ثم ازدادوا كفرا } بالإقامة على كفرهم { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت ، وتلك التوبة لا تقبل .
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } وهو القدر الذي يملؤها . يقول : لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه .
{ لن تنالوا البر } التقوى . وقيل : أي : الجنة { حتى تنفقوا مما تحبون } أي : تخرجوا زكاة أموالكم .
{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } أي : حلالا { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } وذلك أن يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، فنذر لئن عافاه الله تعالى ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها ، فلما ادعى النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم دين إبراهيم عليه السلام قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال النبي عليه السلام : كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام ، فادعت اليهود أن ذلك كان حراما عليه ، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم ، وبين أن ابتداء هذا التحريم لم يكن في التوراة ، إنما كان قبل نزولها ، وهو قوله : { من قبل أن تنزل التوراة قل فاتوا بالتوراة } الآية .
{ فمن افترى على الله الكذب } أي : بإضافة هذا التحريم إلى الله عز وجل على إبراهيم في التوراة { من بعد ذلك } من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب عليه السلام { فأولئك هم الظالمون } أنفسهم .
{ قل صدق الله } في هذا وفي جميع ما أخبر به .
{ إن أول بيت وضع للناس } يحج إليه { للذي ببكة } مكة { مباركا } كثير الخير ، بأن جعل فيه وعنده البركة { وهدى } وذا هدى { للعالمين } لأنه قبلة صلاتهم ، ودلالة على الله بما جعل عنده من الآيات .
{ فيه آيات بينات } أي : المشاعر والمناسك كلها ، ثم ذكر بعضها فقال : { مقام إبراهيم } أي : منها مقام إبراهيم { ومن دخله كان آمنا } أي : من حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك . وقيل : من النار { ولله على الناس حج البيت } عمم الإيجاب ثم خص ، وأبدل من الناس فقال { من استطاع إليه سبيلا } يعني : من قوي في نفسه ، فلا تلحقه المشقة في الكون على الراحة ، فمن كان بهذه الصفة وملك الزاد والراحلة وجب عليه الحج { ومن كفر } جحد فرض الحج { فإن الله غني عن العالمين } .
قال تعالى {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون}.
{ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن } كان صدهم عن سبيل الله بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن صفته ليست في كتابهم { تبغونها عوجا } تطلبون لها عوجا بالشبه التي تلبسونها على سفلتكم { وأنتم شهداء } بما في التوراة أن دين الله الإسلام .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا } الآية . نزلت في الأوس والخزرج حين أغرى قوم من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم ، ثم خاطبهم فقال :
{ وكيف تكفرون } أي : على أي حال يقع منكم الكفر وآيات الله التي تدل على توحيده تتلى عليكم { وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله } يؤمن بالله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وهو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا بكفر ، فلما نزل هذا قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ومن يقوى على هذا ؟ وشق عليهم ، فأنزل الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } فنسخت الأولى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي : كونوا على الإسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم عليه ، وهو في الحقيقة نهي عن ترك الإسلام .
{ واعتصموا بحبل الله جميعا } أي : تمسكوا بدين الله ، والخطاب للأوس والخزرج { ولا تفرقوا } كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله { واذكروا نعمة الله عليكم } بالإسلام { إذ كنتم أعداء } يعني : ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، فزالت تلك الأحقاد ، وصاروا إخوانا متوادين ، فذلك قوله : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : طرف حفرة من النار لو متم على ما كنتم عليه { فأنقذكم } فنجاكم { منها } بالإسلام وبمحمد عليه السلام { كذلك } أي : مثل هذا البيان الذي تلي عليكم { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .
{ ولتكن منكم أمة } الآية . أي : وليكن كلكم كذلك ، ودخلت من لتخصيص المخاطبين من غيرهم .
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا } أي : اليهود والنصارى { واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } أي : إن اليهود اختلفوا بعد موسى ، فصاروا فرقا ، وكذلك النصارى .
{ يوم تبيض وجوه } أي : وجوه المهاجرين والأنصار ومن آمن بمحمد عليه السلام ، { وتسود وجوه } اليهود والنصارى ومن كفر به . { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم : { أكفرتم بعد إيمانكم } لأنهم شهدوا لمحمد عليه السلام بالنبوة ، فلما قدم عليهم كذبوه وكفروا به .
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } أي : جنته .
{ تلك آيات الله } أي : القرآن { نتلوها عليك } نبينها { بالحق } بالصدق { وما الله يريد ظلما للعالمين } فيعاقبهم بلا جرم .
قال تعالى { ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور}.
{ كنتم خير أمة } عند الله في اللوح المحفوظ . يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم { أخرجت للناس } أظهرت لهم ، وما أخرج الله تعالى للناس أمة خيرا من أمة محمد عليه السلام ، ثم مدحهم بما فيهم من الخصال فقال : { تأمرون بالمعروف } الآية .
{ لن يضروكم } أي : اليهود { إلا أذى } إلا ضررا يسيرا باللسان ، مثل الوعيد والبهت { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } منهزمين . وعد الله نبيه والمؤمنين النصرة على اليهود ، فصدق وعده فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا انهزموا .
{ ضربت عليهم الذلة } ذكرناه { أينما ثقفوا } وجدوا وصودفوا { إلا بحبل من الله } أي : لكن قد يعتصمون بالعهد ( إذا أعطوه ، والمعنى : أنهم أذلاء في كل مكان إلا أنهم يعتصمون بالعهد ) ، والمراد { بحبل من الله وحبل من الناس } العهد والذمة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله ، وباقي الآية ذكر في سورة البقرة ، ثم أخبر أنهم غير متساوين في دينهم فقال :
{ ليسوا سواء } وأخبر أن منهم المؤمنين فقال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } أي : على الحق { يتلون } يقرؤون { آيات الله } كتاب الله { آناء الليل } ساعاته . يعني : عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب { وهم يسجدون } أي : يصلون .
قال تعالى {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}.
{ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } لن تجحدوا جزاءه .
{ إن الذين كفروا } الآية . سبقت في أول هذه السورة .
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } يعني : نفقة سفلة اليهود على علمائهم { كمثل ريح فيها صر } برد شديد { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعصية . أعلم الله تعالى أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح على هذا الزرع { وما ظلمهم الله } لأن كل ما فعله بخلقه فهو عدل منه { ولكن أنفسهم يظلمون } بالكفر والعصيان ، ثم نهى المؤمنين عن مباطنتهم فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } أي : دخلا وخواص { من دونكم } من غير أهل ملتكم { لا يألونكم خبالا } أي : لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم { ودوا ما عنتم } تمنوا ضلالكم عن دينكم { قد بدت البغضاء } أي : ظهرت العداوة { من أفواههم } بالشتيمة والوقيعة في المسلمين { وما تخفي صدورهم } من العداوة والخيانة { أكبر قد بينا لكم الآيات } أي : علامات اليهود في عداوتهم { إن كنتم تعقلون } موقع نفع البيان .
{ ها أنتم } ها تنبيه دخل على أنتم { أولاء } بمعنى : الذين . كأنه قيل : الذين { تحبونهم ولا يحبونكم } أي : تريدون لهم الإسلام ، وهم يريدونكم على الكفر { وتؤمنون بالكتاب كله } أي : بالكتب ، وهو اسم جنس { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل } أي : أطراف الأصابع { من الغيظ } التقدير : عضوا الأنامل من الغيظ عليكم ، وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم { قل موتوا بغيظكم } أمر الله تعالى نبيه أن يدعو عليهم بدوام غيظهم إلى أن يموتوا { إن الله عليم بذات الصدور } بما فيها من خير وشر .
{ إن تمسسكم حسنة } نصر وغنيمة { تسؤهم } تحزنهم { وإن تصبكم سيئة } ضد ذلك ، وهو كسر وهزيمة { يفرحوا بها وإن تصبروا } على ما تسمعون من آذاهم { وتتقوا } مقاربتهم ومخالطتهم { لا يضركم كيدهم } عداوتهم { شيئا إن الله بما يعملون محيط } عالم به فلن تعدموا جزاءه .
{ وإذ غدوت } يعني : يوم أحد { من أهلك } من منزل عائشة رضي الله عنها { تبوء } تهيئ للمؤمنين { مقاعد } مراكز ومثابت { للقتال والله سميع } لقولكم { عليم } بما في قلوبكم .
{ إذ همت طائفتان منكم } بنو سلمة وبنو حارثة { أن تفشلا } أن تجبنا ، وذلك أن هؤلاء هموا بالانصراف عن الحرب ، فعصمهم الله { والله وليهما } ناصرهما وموال لهما { وعلى الله فليتوكل } فليعتمد في الكفاية { المؤمنون } .
{ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } بقلة العدد وقلة السلاح { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } أي : فاتقون فإنه شكر نعمتي .
{ إذ تقول للمؤمنين } يوم بدر : { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } .
{ بلى } تصديق لوعد الله { إن تصبروا } على لقاء العدو { وتتقوا } معصية الله ومخالفة النبي عليه السلام ( { ويأتوكم من فورهم } قيل : من وجههم . وقيل : من غيظهم ) { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } معلمين ، وكانت الملائكة قد سومت يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها ، ثم صبر المؤمنون يوم بدر فأمدوا بخمسة آلاف من الملائكة .
{ وما جعله الله } أي : ذلك الإمداد { إلا بشرى } أي : بشارة لكم { ولتطمئن قلوبكم به } فلا تجزع من كثرة العدو { وما النصر إلا من عند الله } لأن من لم ينصره الله فهو مخذول وإن كثرت أنصاره .
{ ليقطع طرفا } أي : نصركم ببدر ( ليقطع طرفا ، أي : ) ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر { أو يكبتهم } أي : يخزيهم ويذلهم . يعني : الذين انهزموا . قوله :
{ ليس لك من الأمر شيء } الآية . لما كان يوم أحد من المشركين ما كان من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشجه ، فقال : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية يعلمه أن كثيرا منهم سيؤمنون ، والمعنى : ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء ، حتى يقع إنابتهم أو تعذيبهم ، وهو قوله : { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } فلما نفى الأمر عن نبيه عليه السلام ذكر أن جميع الأمر له ، فمن شاء عذبه ، ومن شاء غفر له ، وهو قوله :
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء } أي : الذنب العظيم للموحدين { ويعذب من يشاء } يريد : المشركين على الذنب الصغير { والله غفور } لأوليائه { رحيم } بهم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } الآية .هو أنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل ، كلما أخر أجل إلى غيره زيد في المال زيادة { لعلكم تفلحون } لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة .
{ واتقوا النار } بتحريم الربا وترك الاستحلال له { التي أعدت للكافرين } دون المؤمنين .
قال تعالى {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}.
{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } أي : الإسلام الذي يوجب المغفرة . وقيل : إلى التوبة . وقيل : إلى أداء الفرائض { وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت } لكل واحد من أولياء الله .
{ الذين ينفقون في السراء والضراء } في اليسر والعسر ، وكثرة المال وقلته { والكاظمين الغيظ } الكافين غضبهم عن إمضائه { والعافين عن الناس } أي : المماليك وعمن ظلمهم وأساء إليهم { والله يحب المحسنين } الموحدين الذين فيهم هذه الخصال .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } أي : الزنا . نزلت في نبهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه التمر ، فضمها إلى نفسه وقبلها ، ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية ، وقوله : { أو ظلموا أنفسهم } يعني : ما دون الزنا من قبلة أو لمسة ، أو نظر { ذكروا الله } أي : ذكروا عقاب الله { ولم يصروا } أي : لم يقيموا ولم يدوموا { على ما فعلوا } بل أقروا واستغفروا { وهم يعلمون } أن الذي أتوه حرام ومعصية .
قال تعالى {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
{ قد خلت من قبلكم سنن } قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الكافرة سنن بإمهالي إياهم ، حتى يبلغوا الأجل الذي أجلته في إهلاكهم ، وبقيت لهم آثار في الدنيا فيها أعظم الاعتبار . { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة } آخر أمر { المكذبين } منهم . نزلت في قصة يوم أحد . يقول الله : فأنا أمهلهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي عليه السلام وأوليائه ، وإهلاك أعدائه .
{ هذا بيان للناس } أي : القرآن بيان للناس عامة { وهدى وموعظة للمتقين } خاصة وهم الذين هداهم الله بفضله .
{ ولا تهنوا } ولا تضعفوا عن جهاد عدوكم بما نالكم من الهزيمة { ولا تحزنوا } أي : على ما فاتكم من الغنيمة { وأنتم الأعلون } أي : لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر { إن كنتم مؤمنين } أي : إن الإيمان يوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن .
{ إن يمسسكم } يصبكم { قرح } جراح وألمها يوم أحد { فقد مس القوم } المشركين { قرح مثله } يوم بدر { وتلك الأيام } أي : أيام الدنيا { نداولها } نصرفها { بين الناس } مرة لفرقة ومرة عليها { وليعلم الله الذين آمنوا } مميزين بالإيمان عن غيرهم . أي : إنما نجعل الدولة للكفار على المؤمنين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة ، والمعنى : ليعلمهم مشاهدة كما علمهم غيبا { ويتخذ منكم شهداء } أي : ليكرم قوما بالشهادة { والله لا يحب الظالمين } أي : المشركين ، أي : إنه إنما يديل المشركين على المؤمنين لما ذكر ، لا لأنه يحبهم .
{ وليمحص الله الذين آمنوا } أي : ليخلصهم من ذنوبهم بما يقع عليهم من قتل وجرح وذهاب مال { ويمحق الكافرين } يستأصلهم إذا أدال عليهم . يعني : أنه يديل على المؤمنين لما ذكر ، ويديل على الكافرين لإهلاكهم بذنوبهم .
{ أم حسبتم } بل أحسبتم ، أي : لا تحسبوا { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله } الآية . أي : ولما يقع العلم بالجهاد مع العلم بصبر الصابرين ، والآية خطاب للذين انهزموا يوم أحد . قيل لهم : أحسبتم أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وثبتوا على ألم الجرح والضرب من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم ؟!
{ ولقد كنتم تمنون الموت } كانوا يتمنون يوما مع النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : لنفعلن ولنفعلن ، ثم انهزموا يوم أحد ، فاستحقوا العقاب ، وقوله : { من قبل أن تلقوه } أي : من قبل يوم أحد { فقد رأيتموه } رأيتم ما كنتم تتمنون من الموت ، أي : رأيتم أسبابه ولم تثبتوا مع نبيكم . نزلت في معاتبة الرسول إياهم ، فقالوا : بلغنا أنك قد قتلت لذلك انهزمنا . { وأنتم تنظرون } وأنتم بصراء تتأملون الحال في ذلك كيف هي ، فلم انهزمتم ؟
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي : يموت كما ماتت الرسل قبله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ، وذلك لما نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأشيع أنه قد قتل قال ناس من أهل النفاق للمؤمنين : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } أي : فإنما يضر نفسه باستحقاق العذاب { وسيجزي الله } بما يستحقون من الثواب { الشاكرين } الطائعين لله من المهاجرين والأنصار ، ثم عاتب المنهزمين بقوله :
{ وما كان لنفس أن تموت } أي : ما كانت نفس لتموت { إلا بإذن الله } بقضائه وقدره ، كتب الله ذلك { كتابا مؤجلا } إلى أجله الذي قدر له ، فلم انهزمتم ؟ والهزيمة لا تزيد في الحياة . { ومن يرد } بعمله وطاعته { ثواب الدنيا } زينتها وزخرفها { نؤته منها } نعطه منها ما قدرناه له ، أي : لهؤلاء المنهزمين طلبا للغنيمة ، { ومن يرد ثواب الآخرة } يعني : الذين ثبتوا حتى قتلوا { نؤته منها } ثم احتج على المنهزمين بقوله :
{ وكأين } أي : وكم { من نبي قاتل } في معركة { معه ربيون كثير } جماعات كثيرة { فما وهنوا لما أصابهم } أي : ما ضعفوا بعد قتل نبيهم ...الآية.
{وما كان قولهم } أي : قول أصحاب ذلك النبي المقتول عند الحرب بعد قتل نبيهم { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا } تجاوزنا ما حد لنا { في أمرنا وثبت أقدامنا } بالقوة من عندك والنصرة .
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا } النصر والظفر { وحسن ثواب الآخرة } الأجر والمغفرة .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } أي : اليهود والمشركين حيث قالوا لكم يوم أحد : ارجعوا إلى دين آبائكم ، وهو قوله : { يردوكم على أعقابكم } يرجعونكم إلى أول أمركم من الشرك بالله .
{ بل الله مولاكم } أي : فاستغنوا عن موالاة الكفار ، فأنا ناصركم فلا تستنصروهم ، ولما انصرف المشركون من أحد هموا بالرجوع لاستئصال المسلمين ، وخاف المسلمون ذلك فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم بقوله :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } الخوف حتى لا يرجعوا إليكم { بما أشركوا } أي : بإشراكهم بالله { ما لم ينزل به سلطانا } حجة وبرهانا ، أي : الأصنام التي يعبدونها مع الله بغير حجة { ومأواهم النار } أي : مرجعهم النار { وبئس مثوى الظالمين } مقامهم .
{ ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر والظفر { إذ تحسونهم } تقتلون المشركين يوم أحد في أول الأمر { بإذنه } بعلم الله وإرادته { حتى إذا فشلتم } جبنتم عن عدوكم { وتنازعتم } اختلفتم في الأمر. يعني : قول بعضهم : ما مقامنا وقد انهزم القوم الكافرون ، وقول بعضهم : لا نجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الاختلاف كان بين الرماة الذين كانوا عند المركز { وعصيتم } الرسول بترك المركز { من بعد ما أراكم ما تحبون } من الظفر والنصر على أعدائكم { منكم من يريد الدنيا } وهم الذين تركوا المركز ، وأقبلوا إلى الذهب { ومنكم من يريد الآخرة } أي : الذين ثبتوا في المركز { ثم صرفكم } ردكم بالهزيمة { عنهم } عن الكفار { ليبتليكم } ليختبركم بما جعل عليكم من الدبرة ، فيتبين الصابر من الجازع ، والمخلص من المنافق { ولقد عفا عنكم } ذنبكم بعصيان النبي صلى الله عليه وسلم والهزيمة { والله ذو فضل على المؤمنين } بالمغفرة .
{ إذ تصعدون } تبعدون في الهزيمة { ولا تلوون } لا تقيمون { على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } من خلفكم يقول : إلي عباد الله ( إلي عباد الله ، إلي عباد الله ) ، وأنتم لا تلتفتون إليه { فأثابكم } أي : جعل مكان ما ترجعون من الثواب { غما } وهو غم الهزيمة وظفر المشركين { بغم } أي : بغمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عصيتموه { لكيلا تحزنوا } أي : عفا عنكم لكيلا تحزنوا { على ما فاتكم } من الغنيمة { ولا ما أصابكم } من القتل والجراح .
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } وذلك أنهم خافوا كره المشركين عليهم ، وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال ، فأمنهم الله تعالى أمنا ينامون معه ، وكان ذلك خاصا بالمؤمنين ، وهو قوله { يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم } وهم المنافقون . كان همهم خلاص أنفسهم { يظنون بالله غير الحق } أي : يظنون أن أمر محمد عليه السلام مضمحل ، وأنه لا ينصر { ظن الجاهلية } أي : كظن أهل الجاهلية ، وهم الكفار { يقولون : هل لنا من الأمر من شيء } ليس لنا من النصر والظفر شيء كما وعدنا . يقولون ذلك على جهة التكذيب . فقال الله تعالى : { إن الأمر كله لله } أي : النصر والشهادة ، والقدر والقضاء { يخفون في أنفسهم } من الشك والنفاق { ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أي : لو كان الاختيار إلينا { ما قتلنا هاهنا } يعنون : أنهم أخرجوا كرها ، ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا ، وهذا تكذيب منهم بالقدر ، فرد الله عليهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } مصارعهم ، ولم يكن لينجيهم قعودهم { وليبتلي الله ما في صدوركم } أيها المنافقون ، فعل الله ما فعل يوم أحد { وليمحص } ليظهر ويكشف { ما في قلوبكم } أيها المؤمنون من الرضا بقضاء الله { والله عليم بذات الصدور } بضمائرها .
{ إن الذين تولوا منكم } أيها المؤمنون { يوم التقى الجمعان } أي : الذين انهزموا يوم أحد { إنما استزلهم الشيطان } حملهم على الزلة { ببعض ما كسبوا } يعني : معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز { ولقد عفا الله عنهم } تلك الخطيئة .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } أي : المنافقين { وقالوا لإخوانهم } أي : في شأن إخوانهم في النسب { إذا ضربوا في الأرض } أي : سافروا فماتوا وهلكوا { أو كانوا غزى } جمع غاز ، فقتلوا { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } تكذيبا منهم بالقضاء والقدر { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } أي : ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا الحرب لاندفع عنهم القتل { حسرة في قلوبهم } ينهى المؤمنين أن يكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم ، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دون قلوب المؤمنين { والله يحيي ويميت } فليس يمنع الإنسان تحرزه من إتيان أجله .
{ ولئن قتلتم } أي : والله لئن قتلتم . { في سبيل الله } في الجهاد أيها المؤمنون { أو متم } في سبيل الله ليغفرن لكم وهو { خير مما يجمعون } من أعراض الدنيا .
{ ولئن متم } مقيمين على الجهاد { أو قتلتم } مجاهدين { لإلى الله تحشرون } في الحالين .
{ فبما رحمة من الله } أي :فبرحمة ، أي : فبنعمة من الله وإحسان منه إليك { لنت لهم } يا محمد . أي : سهلت أخلاقك لهم ، وكثر احتمالك { ولو كنت فظا } غليظا في القول { غليظ القلب } في الفعل { لانفضوا } لتفرقوا { من حولك فاعف عنهم } فيما فعلوا يوم أحد { واستغفر لهم } حتى أشفعك فيهم { وشاورهم في الأمر } تطييبا لنفوسهم ، ورفعا من أقدارهم ، ولتصير سنة { فإذا عزمت } على ما تريد إمضاءه { فتوكل على الله } لا على المشاورة .
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } من الناس { وإن يخذلكم } (يوم أحد) لا ينصركم أحد من بعده ، والمعنى : لا تتركوا أمري للناس ، وارفضوا الناس لأمري .
{ وما كان لنبي أن يغل } أي : يخون بكتمان شيء من الغنيمة عن أصحابه . نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال الناس : لعل النبي أخذها ، فنفى الله تعالى عنه الغلول ، وبين أنه ما غل نبي ، والمعنى : ما كان لنبي غلول { ومن يغلل يأت بما غل } حاملا له على ظهره { يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي : تجازى ثواب عملها { وهم لا يظلمون } لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا .
{ أفمن اتبع رضوان الله } بالإيمان به والعمل بطاعته . يعني : المؤمنين { كمن باء بسخط من الله } احتمله بالكفر به ، والعمل بمعصيته ، يعني : المنافقين .
{ هم درجات عند الله } أي : أهل درجات عند الله . يريد أنهم مختلفو المنازل ، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب ، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب { والله بصير بما يعملون } فيه حث على الطاعة ، وتحذير عن المعصية .
{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } أي : واحدا منهم عرف أمره ، وخبر صدقه وأمانته ، ليس بملك ولا أحد من غير بني آدم ، وباقي الآية ذكر في سورة البقرة . { وإن كانوا من قبل } وقد كانوا من قبل بعثه { لفي ضلال مبين } .
{ أو لما أصابتكم } أو حين أصابتكم مصيبة . يعني : ما أصابهم يوم أحد { قد أصبتم } أنتم { مثليها } يوم بدر ، وذلك أنهم قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، وقتل منهم يوم أحد سبعون { قلتم أنى هذا } من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ؟! { قل هو من عند أنفسكم } أي : إنكم تركتم المركز وطلبتم الغنيمة ، فمن قبلكم جاءكم الشر { إن الله على كل شيء قدير } من النصر مع طاعتكم نبيكم ، وترك النصر مع مخالفتكم إياه .
{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان } يوم أحد { فبإذن الله } بقضائه وقدره ، يسليهم بذلك { وليعلم المؤمنين } ثابتين صابرين ، وليعلم المنافقين جازعين مما نزل بهم .
{ وقيل لهم } لعبد الله بن أبي وأصحابه لما انصرفوا ذلك اليوم عن المؤمنين { تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } عنا القوم بتكثيركم سوادنا إن لم تقاتلوا { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } أي : لو نعلم أنكم تقاتلون اليوم لاتبعناكم ، ولكن لا يكون اليوم قتال ، ونافقوا بهذا لأنهم لو علموا ذلك ما اتبعوهم . قال الله تعالى : { هم للكفر يومئذ } بما أظهروا من خذلان المؤمنين { أقرب منهم للإيمان } لأنهم كانوا قبل ذلك أقرب إلى الإيمان بظاهر حالهم ، فلما خذلوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر من حيث الظاهر .
{ الذين قالوا } يعني : المنافقين { لإخوانهم } لأمثالهم من أهل النفاق { وقعدوا } عن الجهاد ، الواو للحال { لو أطاعونا } يعنون : شهداء أحد في الإنصراف عن النبي صلى الله عليه وسلم والقعود { ما قتلوا } فرد الله تعالى عليهم وقال : { قل } لهم يا محمد { فادرؤوا } فادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } إن صدقتم أن الحذر ينفع من القدر .
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } يعني : شهداء أحد { أمواتا بل أحياء } بل هم أحياء { عند ربهم } في دار كرامته ، لأن أرواحهم في أجواف طير خضر . { يرزقون } يأكلون .
{ فرحين } مسرورين { بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } ويفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم يرجون لهم الشهادة ، فينالون مثل ما نالوا { ألا خوف عليهم } أي : بأن لا خوف عليهم . يعني : على إخوانهم المؤمنين إذا لحقوا بهم .
قال تعالى{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}.
{ الذين استجابوا لله والرسول } أجابوهما { من بعد ما أصابهم القرح } أي : الجراحات { للذين أحسنوا منهم } بطاعة الرسول واتقوا مخالفته { أجر عظيم } نزلت في الذين أطاعوا الرسول حين ندبهم للخروج في طلب أبي سفيان يوم أحد ، لما هم أبو سفيان بالانصراف إلى محمد عليه السلام وأصحابه ليستأصلوهم .
{ الذين قال لهم الناس } الآية . كان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوافيه العام المقبل من يوم أحد ببدر الصغرى ، فلما كان العام المقبل بعث نعيم بن مسعود الأشجعي ليجبن المؤمنين عن لقائه ، وهو قوله : { الذين } يعني : المؤمنين { قال لهم الناس } يعني : نعيم بن مسعود { إن الناس } يعني : أبا سفيان وأصحابه { قد جمعوا } باللطيمة سوق مكة { لكم فاخشوهم } ولا تأتوهم { فزادهم } ذلك القول { إيمانا } أي : ثبوتا في دينهم ، وإقامة على نصرة نبيهم { وقالوا حسبنا الله } أي : الذي يكفينا أمرهم هو الله { ونعم الوكيل } أي : الموكول إليه الأمر .
{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } ربح وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لذلك الموعد ، فلم يلق أحدا من المشركين ، ووافقوا السوق ، وذلك أنه كان موضع سوق لهم ، فاتجروا وربحوا ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، وهو قوله : { لم يمسسهم سوء } أي : قتل ولا جراح { واتبعوا رضوان الله } إلى بدر الصغرى في طاعته وفي طاعة رسوله قوله:
{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي : يخوفكم بأوليائه . يعني : الكفار { فلا تخافوهم وخافون } في ترك أمري { إن كنتم مؤمنين } مصدقين لوعدي .
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي : في نصرته ، وهم المنافقون واليهود والمشركون { إنهم لن يضروا الله } أي : أولياءه ودينه { شيئا } وإنما يعود وبال ذلك عليهم ، { يريد الله أن لا يجعل لهم حظا } نصيبا { في الآخرة } في الجنة .
{ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي : استبدلوا . كرر { لن يضروا الله شيئا } لأنه ذكرن في الأول على طريق العلة لما يجب من التسلية عن المسارعة إلى الضلالة ، وذكره في الثاني على طريق العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي .
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم } أي : أن إملاءنا _ وهو الإمهال والتأخير _ { خير لأنفسهم إنما نملي لهم } أي : نطول أعمارهم ليزدادوا إثما لمعاندتهم الحق ، وخلافهم الرسول . نزلت الآية في قوم من الكفار علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا ، وأن بقاءهم يزيدهم كفرا .
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } أيها المؤمنون من التباس المنافق بالمؤمن { حتى يميز الخبيث من الطيب } أي : المنافق من المؤمن ، ففعل ذلك يوم أحد ، لأن المنافقين أظهروا النفاق بتخلفهم { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التمييز { ولكن الله } يختار لمعرفة ذلك من يشاء من الرسل ، وكان محمد ممن اصطفاه الله بهذا العلم .
{ ولا يحسبن الذين يبخلون } أي : بخل الذين يبخلون { بما آتاهم الله من فضله } بما يجب فيه من الزكاة . نزلت في مانعي الزكاة { هو خيرا لهم } أي : البخل خيرا لهم { بل هو شر لهم } لأنهم يستحقون بذلك عذاب الله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وهو أنه يجعل ما بخل به من المال حية يطوقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه { ولله ميراث السماوات والأرض } أي : إنه يغني أهلهما ، وتبقى الأملاك والأموال لله ، ولا مالك لها إلا الله تعالى .
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } نزلت في اليهود حين قالوا _ لما نزل قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضا } _ : إن الله فقير يستقرضنا ، ونحن أغنياء ، ولو كان غنيا ما استقرضنا أموالنا { سنكتب ما قالوا } أي : نأمر الحفظة بإثبات ذلك في صحائف أعمالهم... الآية .
{ ذلك } أي : ذلك العذاب { بما قدمت أيديكم } بما سلفت من إجرامكم { وأن الله } وبأن الله { ليس بظلام للعبيد } فيعاقبهم بغير جرم .
{ الذين قالوا إن الله عهد إلينا } أي : اليهود ، وذلك أن أمر بني إسرائيل في التوراة ألا يصدقوا رسولا جاءهم حتى يأتيهم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام ، فكانوا يقولون لمحمد عليه السلام : لا نصدقك حتى تأتينا بقربان تأكله النار ، لأن الله عهد إلينا ذلك ، فقال الله تعالى لمحمد عليه السلام إقامة للحجة عليهم : { قل قد جاءكم رسل من قبلي } ، ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم بقوله :
{ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر } أي : الكتب { والكتاب المنير } أي : الهادي إلى الحق .
{ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي : ظفر بالخير ، ونجا من الشر { وما الحياة الدنيا } أي : العيش في هذه الدار الفانية { إلا متاع الغرور } لأنه يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء ، وهو ينقطع عن قريب .
{ لتبلون } لتختبرن أيها المؤمنون { في أموالكم } بالفرائض فيها { وأنفسكم } بالصلاة والصوم والحج والجهاد { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود { ومن الذين أشركوا } وهم المشركون { أذى كثيرا } بالشتم والتعيير { وإن تصبروا } على ذلك الأذى بترك المعارضة { فإن ذلك من عزم الأمور } من حقيقة الإيمان .
{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } . أخذ الله ميثاق اليهود في التوراة ليبينن شأن محمد ونعته ومبعثه ، ولا يخفونه ، فنبذوا الميثاق ولم يعملوا به ، وذلك قوله : { فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا } أي : ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم { فبئس ما يشترون } قبح شراؤهم وخسروا .
{ لا تحسبن الذين يفرحون } . هم اليهود فرحوا بإضلال الناس ، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم ، وليسوا كذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بالتمسك بالحق ، وقالوا : نحن أصحاب التوراة وأولو العلم القديم { فلا تحسبنهم بمفازة } بمنجاة { من العذاب } .
{ ولله ملك السماوات والأرض } أي : يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء .الآية والتي بعدها ذكرت في سورة البقرة .
قول تعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}.
{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } أي : يصلون على هذه الأحوال على قدر إمكانهم { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } فيكون ذلك أزيد في بصيرتهم { ربنا } أي : ويقولون : { ربنا ما خلقت هذا } أي : هذا الذي نراه من خلق السماوات والأرض { باطلا } أي : خلقا باطلا . يعني : خلقته دليلا على حكمتك وكمال قدرتك .
{ ربنا إنك من تدخل النار } للخلود فيها { فقد أخزيته } : أهلكته وأهنته { وما للظالمين } أي : الكفار { من أنصار } يمنعونهم من عذاب الله .
{ ربنا إننا سمعنا مناديا } أي : محمدا عليه السلام والقرآن { ينادي للإيمان } أي : إلى الإيمان { أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا } أي : غط واستر عنا ذنوبنا بقبول الطاعات حتى تكون كفارة لها { وتوفنا مع الأبرار } يعني : الأنبياء ، أي : في جملتهم حتى نصير معهم .
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي : على ألسنتهم من النصر لنا ، والخذلان لعدونا { ولا تخزنا يوم القيامة } أي : لا تهلكنا بالعذاب .قولة.
{ بعضكم من بعض } أي : حكم جميعكم حكم واحد منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم ، وترك تضييعها لكم .
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } تصرفهم للتجارات في البلاد ، وذلك أنهم كانوا يتجرون ويتنعمون في البلاد ، فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية .قواة.
{ متاع قليل } أي : ذلك الكسب والربح متاع قليل ، لأنه فان منقطع وقوله:
{ نزلا } النزل : ما يهيأ للضيف ، ومعناه هاهنا الجزاء والثواب { وما عند الله خير للأبرار } مما يتقلب فيه الكفار ، ثم ذكر مؤمني أهل الكتاب فقال :
{ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الآية.
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا } أي : اصبروا على دينكم فلا تدعوه لشدة نزلت بكم . وقيل : على الجهاد { وصابروا } عدوكم فلا يكونن أصبر منكم { ورابطوا } أي : أقيموا على جهاد عدوكم بالحرب والحجة .