الم، حروف صوتية سيقت لبيان أن القرآن المعجز من هذه الحروف.
الله واحد لا إله غيره، وكل ما فى العالم من تنسيق وإبداع يشهد بذلك، وهو الحى الذى لا يموت، القائم بأمر العالم يدبره ويصرفه.
نَزَّلَ عليك - يا محمد - القرآن مشتملا على الحق فى كل ما تضمنه من أصول الشرائع السماوية فى الكتب السابقة، ولقد أنزل الله من قبله التوراة على موسى والإنجيل على عيسى.
أنزلهما قبل القرآن لهداية الناس، فلمَّا انحرفوا أنزل القرآن فارقًا بين الحق والباطل، ومبيِّنًا الرشد من الغى، فهو الكتاب الصادق الدائم، وكل من ترك ما أنزله الله فيه وكفر بآياته فله عذاب شديد، والله قادر لا يغلبه شىء، منتقم ممن يستحق الانتقام.
إن الله عليم بكل شىء، فهو لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، صغيرًا كان أو كبيرًا، ظاهرًا أو باطنًا.
وهو الذى يصوركم وأنتم أجنة فى الأرحام بصور مختلفة حسبما يريد، لا إله إلا هو العزيز فى ملكه، الحكيم فى صنعه (1).<BR>_________<BR>(1) تشير الآية الكريمة إلى وجه من الوجوه المعجزة لقدرة البارئ المصوِّر وهو تحول البويضة المخصبة وهى خلية واحدة ضئيلة الحجم إلى إنسان سوى بكل ما يحويه جسمه من أجهزة وأعضاء وأنسجة بملايين الخلايا وآيات فى البنيان والوظيفة.<BR>وسوف تتوالى فى القرآن الكريم آيات تفصل بعض أطوار النمو الجنينى.<BR>ولكن الذى تنوه به هذه الآية الكريمة على وجه الخصوص هو المشيئة الإلهية المطلقة فى تصوير الجنين، إذ إن الله يودع فى البويضة الدقيقة الحجم جميع المورثات الجينات التى تحدد جنس المولود ونصيبه من الخصائص الجسمانية بل ومواهبه العقلية والنفسية والسمات الرئيسية فى تكوين الشخصية الوارثة وإن كانت تسير على قوانين ثابتة إلا أن هذا التحديد لكل فرد بذاته من التقاء بويضة بعينها وحيوان منوى بعينه من بين الملايين من أقرانه هو من دلائل المشيئة المطلقة حتى إنه لا يتماثل فردان فى العالم تماثلا كاملا، اللهم إلا فى توائم البويضة الواحدة فتكاد تتطابق.
وهو الذى أنزل عليك القرآن، وكان من حكمته أن جعل منه آيات محكمات محددة المعنى بيِّنة المقاصد، هى الأصل وإليها المرجع، وأخر متشابهات يدق معناها على أذهان كثير من الناس، وتشتبه على غير الراسخين فى العلم، وقد نزلت هذه المتشابهات لتبعث العلماء على العلم والنظر ودقة الفكر فى الاجتهاد، وفى البحث فى الدين، وشأن الزائغين عن الحق أن يتتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة فى إثارة الفتنة، ويؤوِّلوها حسب أهوائهم.<BR>وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين تثبتوا فى العلم وتمكنوا منه، وأولئك المتمكنون منه يقولون: إنا نوقن بأن ذلك من عند الله، لا نفرق فى الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه، وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التى لا تخضع للهوى والشهوة.
وأولئك العلماء العاقلون يقولون: ربنا لا تجعل قلوبنا تنحرف عن الحق بعد إذ أرشدتنا إليه، وامنحنا اللهم رحمة من عندك بالتوفيق والتثبيت إنك أنت المانع المعطى.
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا شك فيه لتجازى كلاًّ على ما فعل، فقد وعدت بذلك وأنت لا تخلف الميعاد.
إن الكافرين لن تدفع عنهم فى ذلك اليوم أموالهم مهما عظمت، ولا أولادهم مهما كثرت، وسيكونون حطبًا للنار تشتعل بهم.
وشأن هؤلاء شأن قوم فرعون والكافرين من قبلهم، كذَّبوا بآيات الله مع وضوحها فنكَّل الله بهم بسبب ما ارتكبوه من الذنوب، والله شديد العقاب.
قل - يا أيها النبى - لهؤلاء الذين كفروا إنكم فى الدنيا ستهزمون وفى الآخرة ستعذبون، وتكون جهنم فِراشًا لكم وبئس الفِراش.
لقد كان لكم آية بيِّنة وعبرة ظاهرة فى طائفتين من المحاربين التقتا يوم بدر، إحداهما مؤمنة تحارب لإعلاء كلمة الله ونشر الحق، والأخرى كافرة تحارب فى سبيل الأهواء والشهوات، فكان من تأييد الله للمؤمنين أن جعل الكافرين يرونهم ضعف عددهم الحقيقى، وبذلك وقع الرعب فى قلوب الكفار فانهزموا، والله يمنح نصره لمن يشاء.<BR>وإن فى ذلك لعبرة لأصحاب البصائر الرشيدة التى لا تنحرف فى إدراكها عن الحق.
إن البشر جبلوا على حب الشهوات التى تتمثل فى النساء والبنين والكثرة من الذهب والفضة، والخيل الحسان المعلَّمة، والأنعام التى منها الإبل والبقر والغنم، وتتمثل أيضًا فى الزرع الكثير.<BR>لكن ذلك كله متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية، وهو لا يُعد شيئًا إذا قيس بإحسان الله إلى عباده الذين يجاهدون فى سبيله عند أوبتهم إليه فى الآخرة.
قل يا أيها النبى: أأخبركم بما هو خير من ذلك الذى زُيِّن للناس فى الدنيا؟، إن للذين اتقوا ثوابًا مضمونًا عند ربهم، هو جنات تجرى من تحت ظلال أشجارها الأنهار، يتمتعون بالحياة الطيبة فيها لا يساورهم خوف من زوال نعيمها إذ كتب لهم الخلود فيها، وأزواج طاهرة نقية من كل ما يشين نساء الدنيا، ورضاء من الله يشعرون فى ظله بنعيم أكبر، والله مطلع على أحوال عباده لا يخفى عليه أمر أو سر من أمورهم وأسرارهم.
ينال هذا الجزاء أولئك الذين ملأ الإيمان قلوبهم وأعلنوا ذلك بألسنتهم فقالوا - ضارعين إلى الله -: ربنا إننا آمنا استجابة لدعوتك فاعف عن ذنوبنا، واحفظنا من عذاب النار.
وهم الذين يتحملون المشقة فى سبيل الطاعة وتجنب المعصية واحتمال المكروه، ويصدقون فى أقوالهم وأفعالهم ونياتهم، المداومون على الطاعة فى خشوع وضراعة، الباذلون ما يستطيعون من مال وجاه وغيره فى وجوه التأمل والتفكير فى عظمة الخالق.
شهد الله أنه المتفرد بالألوهية وبيَّن ذلك - بما بث فى الكون من دلائل وآيات لا ينكرها ذو عقل - وأنه واحد لا شريك له، قائم على شئون خلقه بالعدل، وأقرَّت بذلك ملائكته الأطهار، وَعَلِمَهُ أهل العلم موقنين به، وأنه - جل شأنه - المتفرد بالألوهية الذى لا يغلبه أحد على أمره، وشملت حكمته كل شىء.
إن الدين الحق المرضى عند الله هو الإسلام، فهو التوحيد والخضوع لله فى إخلاص، وقد اختلف كل من اليهود والنصارى فى هذا الدين فحرَّفوا وبدَّلوا ولم يكن اختلافهم عن شبهة أو جهل إذ جاءهم العلم، بل كان للتحاسد والتطاول، ومن يجحد بآيات الله فلينتظر حساب الله السريع.
فإن جادلك هؤلاء فى هذا الدين بعد أن أقمت لهم الحُجج، فلا تجارهم فى الجدل، وقل: أخلصت عبادتى لله - وحده - أنا ومن اتبعنى من المؤمنين، وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب: قد بانت لكم الدلائل فأسلموا، فإن أسلموا فقد عرفوا طريق الهدى واتبعوه، وإن أعرضوا فلا تبعة عليك فى إعراضهم، فليس عليك إلا أن تبلغهم رسالة الله، والله مطلع على عباده لا يخفى عليه شىء من أحوالهم وأعمالهم.
إن الذين يجحدون آيات الله الكونية والمنزَّلة، ويقتلون من بعثهم الله لهدايتهم من الأنبياء، ظلمًا بغير حق، ويقتلون دعاة الناس إلى القسط والعدل يستحقون العذاب الأليم فبشرهم به.
أولئك المتصفون بتلك الصفات بطلت أعمالهم فى الدنيا والآخرة فلا يقبل لهم عمل وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب الله.
ألم تعلم حال الذين أُعطوا حظًا من الكتاب والعلم يدعون إلى كتاب الله وهو القرآن ليفصل الحق من الباطل فيما شجر بينهم من خلاف فلا يسارعون إلى إجابة الداعى، بل يعرض عنه فريق منهم شأنه الإعراض عن دعوة الخير.
إن أولئك المعرضين من اليهود زَيَّن لهم ذلك الإعراض أنهم يُمنُّون أنفسهم بالأمانى الباطلة، فيزعمون أن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات ودفعهم إلى ذلك الغرور وتلك الأمانى افتراءاتهم المستمرة فى دينهم.
فكيف يكون حالهم وقت أن يجمعهم الله فى الآخرة التى لا شك فى وجودها ولا حسابها فكل نفس تعطى جزاءها وافيًا، وهم مستحقون لما نالهم من جزاء.
قل - يا أيها النبى - ضارعًا إلى الله مقرًا بجبروته: اللهم أنت - وحدك - مالك التصرف فى الأمر كله، تمنح من تشاء من الحكم والسلطان، وتنزعه ممن تشاء، وتهب العزة من تريد من عبادك بتوفيقه إلى الأخذ بأسبابها، وتضرب الذل والهوان على من تشاء، فأنت - وحدك - تملك الخير، لا يعجزك شىء عن تنفيذ مرادك، وما تقتضيه حكمتك فى نظام خلقك.
وأنت بما أنشأت ووضعت من الأسباب والسنن، تُدْخِل من الليل فى النهار ما يزيد به النهار طولا، وتدخل من النهار فى الليل ما يزيد به الليل طولا، وتخرج المتصف بمظاهر الحياة من فاقدها، كما تخرج فاقد الحياة من الحى المتمكن من أسباب الحياة، وتهب عطاءك الواسع من تشاء كما تريد على نظام حكمتك، فلا رقيب يحاسبك، ومن كان هذا شأنه لا يعجزه أن يمنح رسوله وأصفياءه السيادة والسلطان والغنى واليسار كما وعدهم (1).<BR>_________<BR>(1) دورة الحياة والموت هى معجزة الكون وسر الحياة نفسها، والسمات الرئيسية فى هذه الدورة أن الماء وثانى أكسيد الكربون والنتروجين والأملاح غير العضوية فى التربة تتحول بفضل طاقة الشمس والنباتات الخضراء وأنواع معينة من البكتريا إلى مواد عضوية هى مادة الحياة فى النبات والحيوان.<BR>أما فى الشق الثانى من هذه الدورة فتعود هذه المواد إلى عالم الموت فى صورة نفايات الأحياء ونواتج أيْضِها وتنفسها.<BR>ثم فى صورة أجسامها كلها عندما تموت وتستسلم لعوامل التحلل البكتيرى والكيماوى التى تحيلها إلى مواد غير عضوية بسيطة مهيأة للدخول فى دورة جديدة من دورات الحياة، وهكذا فى كل لحظة من الزمان يخرج الخالق القدير حياة من الموت وموتًا من الحياة وهذه الدورة المتكررة لا تتم إلا فى وجود كائن أودعه الله سر الحياة كبذرة النبات مثلا.<BR>والآية الكريمة تُذكر أولى الألباب بالمعجزة الأولى وهى خلق الحياة من مادة الأرض الميتة ثم تكرار الدورة كما سبق.<BR>وهكذا جاء فى الآية الكريمة إخراج الحى من الميت سابقًا لإخراج الميت من الحى وهذا هو الإعجاز بعينه.
إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك، ويعز ويذل، وبيده وحده الخير والخلق والرزق، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم، متجاوزين نصرة المؤمنين؛ لأن فى هذا خذلانًا للدين وإيذاء لأهله، وإضعافًا للولاية الإسلامية، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شىء، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك، فيتقى أذاهم بإظهار الولاء لهم.<BR>وعلى المؤمنين أن يكونوا فى الولاية الإسلامية دائمًا وهى ولاية الله، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته، فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة.<BR>وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه فى الدنيا ولا فى الآخرة.
قل - يا أيها النبى- إن تخفوا ما فى صدوركم أو تظهروه فى أعمالكم وأقوالكم فإن الله يعلمه، ويعلم جميع ما فى السموات وما فى الأرض ما ظهر منه وما استتر، وقدرته نافذة فى جميع خلقه.
فليحذر الذين يخالفون أمره يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قلَّ مشاهدًا حاضرًا، وما اقترفَته من سوء تتمنى أن يكون بعيدًا عنها بُعْدًا شاسعًا حتى لا تراه استقباحًا له وخوفًا من الوقوع فى مغبته، ويحذركم الله عقابه إذا خرجتم من ولايته التى هى رأفة ورحمة بالعباد.
قل: إن كنتم صادقين فى دعواكم أنكم تحبون الله وتريدون أن يحبكم الله فاتبعونى فيما آمركم به وأنهاكم عنه، لأننى مبلغ عن الله، فإن ذلك يحبكم الله به، ويثيبكم الله عليه بالإحسان إليكم والتجاوز عن خطاياكم، والله كثير الغفران والرحمة لعباده.
قل: أطيعوا الله ورسوله، فإن أعرضوا عنك فهم كافرون بالله ورسوله، والله لا يحب الكافرين.
كما اصطفى الله محمدًا لتبليغ رسالته، وجعل اتباعه وسيلة لحب الله ومغفرته ورحمته، كذلك اصطفى آدم وجعله من صفوة العالمين، واصطفى نوحًا بالرسالة، واصطفى إبراهيم وآله إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ومنهم موسى - عليهم السلام -، واختار آل عمران واختار منهم عيسى وأمه، فعيسى جعله الله رسولا لبنى إسرائيل، ومريم جعلها أمًا لعيسى من غير أب.
اختارهم ذرية طاهرة، فهم يتوارثون الطهر والفضيلة والخير.<BR>والله سميع لأقوال عباده، عليم بأفعالهم وما تُكنّه صدورهم.
واذكر - أيها النبى - حال امرأة عمران إذ نذرت وقت حملها تقديم ما تحمله خالصًا لعبادة الله وخدمة بيته، قائلة يا رب: إنى نذرت ما فى بطنى خالصًا لخدمة بيتك فاقبل منى ذلك، إنك السميع لكل قول، العليم بكل حال.
فلما وضعت حملها قالت - معتذرة تناجى ربها -: إنى وَلَدت أُنثى والله عليم بما ولدت، وأن مولودها وهو أنثى خير من مطلوبها وهو الذكر.<BR>وقالت: إنى سميتها مريم وإنِّى أسألك أن تحصِّنها هى وذريتها من غواية الشيطان الرجيم.
فتقبل الله مريم نذرًا لأمها، وأجاب دعاءها، فأنبتها نباتًا حسنًا، وربَّاها فى خيره ورزقه وعنايته تربية حسنة مقومة لجسدها، وشأنه أن يرزق من يشاء من عباده رزقًا كثيرًا، كلما دخل عليها زكريا فى معبدها وجد عندها رزقًا غير معهود فى وقته.<BR>قال - متعجبًا -: يا مريم من أين لك هذا الرزق؟ قالت: هو من فضل الله، وجعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها.<BR>وكان رزقها بغير عدد ولا إحصاء.
لما رأى زكريا - عليه السلام - ما رآه من نعمة الله على مريم، اتجه إلى الله ضارعًا أن يهبه من فضله وكرمه وبقدرته ولدًا، فهو يسمع دعاء الضارعين، وهو القدير على الإجابة وإن وقفت الأسباب العادية من شيخوخة أو عقم دون تحقيقها.
فاستجاب الله دعاءه، فنادته الملائكة وهو قائم فى معبده متجهًا إلى ربه، بأن الله يبشرك بولد اسمه يحيى، يؤمن بعيسى - عليه السلام - الذى سيوجد بكلمة من الله فيكون على غير السُنَّة العامة فى التوالد، ويجعله ( أى يحيى ) يسود قومه بالعلم والصلاة، يعزف عن الشهوات والأهواء، ويجعله من الأنبياء والصالحين.
ولما سيقت إليه هذه البشرى، اتجه إلى ربه متشوقًا إلى معرفة الكيفية التى يكون بها هذا الغلام، مع عدم توافر الأسباب العادية لكبر سنه وعقم زوجه، ورد الله عليه بأنه متى شاء أمرًا أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة.<BR>فهو يفعل ما يشاء.
فدعا زكريا ربه أن يجعل له علامة لتحقق هذه البشرى، فأجابه الله بأن علامتك أن تعجز عن كلام الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة إليهم بما تريد، وثابر على ذكر ربك وتنزيهه فى المساء والصباح.
واذكر - أيها النبى - إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اختارك لتكونى أم نبيه، وطهرك من كل دنس، وخصك بأمومتك لعيسى بفضل على كل نساء العالمين.
وهذا يا مريم يستوجب منك الشكر لربك، فالزمى طاعته، وصلى له، وشاركى الذين يعبدونه ويصلون له.
ذلك الذى قصه القرآن عليك يا محمد من الأخبار العظيمة عَمَّن اصطفاهم الله، هو من الغيب الذى أوحى الله به إليك.<BR>وما كنت حاضرًا معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون فى نيل هذا الشرف العظيم.
اذكر - أيها النبى - إذ بشرت الملائكة مريم بمولود خلقه الله بكلمة منه على غير السُّنَّةَ العادية فى التوالد، اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وقد خلقه الله ذا مكانة فى الدنيا بالنبوة والبراءة من العيوب، وفى الآخرة بعلو درجته مع الصفوة المقربين إلى الله من النبيين أولى العزم.
وميَّزه الله بخصائص، فكان يكلم الناس وهو طفل فى مهده كلامًا مفهومًا حكيمًا، كما يكلمهم وهو رجل سوى، من غير تفاوت بين حالتى الطفولة والكهولة.<BR>وكان ممن منحهم الله الصلاح.
قالت مريم - متعجبة من وجود الولد على غير نظام التوالد -: من أين يكون لى ولد ولم يمسسنى رجل؟ فذكر الله تعالى لها أنه يخلق ما يشاء بقدرته غير مقيد بالأسباب العادية، فإنه إذا أراد شيئًا أوجده بتأثير قدرته فى مراده من غير افتقار إلى موجب آخر.
والله يُعلِّم هذا الوليد الكتابة، والعلم الصحيح النافع، والتوراة ( كتاب موسى ) والإنجيل الذى أوحاه الله إليه.
ويبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل، مستدلا على صدق رسالته بمعجزات من الله، هى أن يصور لكم من الطين صورة مثل صورة الطير، ينفخ فيها فتحل فيها الحياة وتتحرك طائرًا بإرادة الله، ويشفى بتقدير الله من وُلِدَ أعمى فيبصر، ومن به برص فيزول برصه، ويعيد الحياة إلى من فقدها.<BR>كل ذلك بإذن الله وإرادته، ويخبرهم بما يدَّخرون فى بيوتهم من مأكول وغيره، ويقول لهم: إن هذه الآيات التى أظهرها الله على يدىَّ حجة على أن رسالتى حق إن كنتم ممن يذعنون له ويصدقون به.
وأُرسلت إليكم مصدقًا لشريعة التوراة التى نزلت على موسى ولأبيح لكم بأمر الله بعض ما حُرِّم عليكم من قبل، وقد جئتكم بآية من الله على صدق رسالتى.<BR>فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله الذى أدعوكم إليه هو - وحده - ربى وربكم فاعبدوه وأخلصوا العبادة له، فإن هذا هو الطريق الذى لا عوج فيه.
ولما جاء عيسى - عليه السلام - دعا قومه إلى الصراط المستقيم، فأبى أكثرهم، فلما علمَ منهم ذلك اتجه إليهم مناديًا: من يناصرنى فى هذا الحق الذى أدعو إليه؟ فأجابه خاصة المؤمنين بالله وبه: نحن نؤيدك وننصرك لأنك داع إلى الله، واشهد بأنا مخلصون لله منقادون لأمره.
ونحن نقول: يا ربنا، صدَّقنا بكتابك الذى أنزلته على نبيك، وامتثلنا أمر رسولك عيسى - عليه السلام - فاكتبنا من الشاهدين لرسولك بالتبليغ، وعلى بنى إسرائيل بالكفر والجحود.
أما الجاحدون فقد دَبَّروا تدبيرًا خفيًا يحاربون به دعوة عيسى، فأبطل الله كيدهم فلم ينجحوا فيما أرادوا، والله أحكم المدبرين وأقواهم.
واذكر - أيها النبى - إذ قال الله يا عيسى إنى مستوفٍ أجلك، ولا أمكِّن أحدًا من قتلك، وإنى رافعك إلى محل كرامتى، ومنجيك من أعدائك الذين قصدوا قتلك، وجاعل المتبعين لك، الذين لم ينحرفوا عن دينك ظاهرين بالقوة والسلطان على الذين لم يهتدوا بهديك إلى يوم القيامة، ثم إلىَّ مصيركم فى الآخرة فأقضى بينكم فى الذى تنازعتم فيه من أمر الدين.
فأما الجاحدون، فأذيقهم عذاب الخزى والنكال بتسليط الأمم عليهم فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.<BR>وليس لهم من ينقذهم من عذاب الله.
وأما المهتدون بهدى الله، العاملون على سنن الخير، فيعطيهم الله جزاء أعمالهم وافيًا.<BR>والله لا يمنح ثوابه المتجاوزين لحدود الله الطاغين على دعوته وإحسانه، ولا يرفع لهم قدرًا.
ذلك الذى قصصناه عليك من الحجج الدالة على صدق رسالتك، هو من القرآن الكريم المشتمل على العلم النافع.
ضلَّ قوم فى أمر عيسى، فزعموا أنه ابن الله لأنه ولد من غير أب، فقال الله لهم: إن شأن عيسى فى خلقه من غير أب كشأن آدم فى خلقه من تراب من غير أب ولا أم، فقد صوَّره وأراد أن يكون فكان بشرًا سويًا.
هذا البيان فى خلق عيسى هو الصدق الذى بيَّن الواقع بإخبار رب الوجود فدم على يقينك، ولا تكن من الشاكين.
فمن جادلك - يا أيها النبى- فى شأن عيسى من بعد ما جاءك من خبر الله الذى لا شبهة فيه، فقل لهم قولا يظهر علمك اليقينى وباطلهم الزائف، تعالوا يدع كل منَّا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه، ثم نضرع إلى الله أن يجعل غضبه ونقمته على من كذب فى أمر عيسى من كونه خلق من غير أب وأنه رسول الله وليس ابن الله.
وذلك هو الحق الذى لا مرية فيه، فليس فى الوجود إله إلا الله الذى خلق كل شىء وأنه لهو المنفرد بالعزة فى ملكه والحكمة فى خلقه.
فإن أعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم، ولم يرجعوا عن ضلالتهم فهم المفسدون، والله عليم بهم.
قل - يا أيها النبى - يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم نذكرها على السواء، وهى أن نخص الله بالعبادة ولا نجعل غيره شريكًا له فيها، ولا يطيع بعضنا بعضًا وينقاد له فى تحليل شىء أو تحريمه، تاركًا حكم الله فيما أحلَّ وحرَّم، فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الحقة فقولوا لهم: اشهدوا بأنا منقادون لأحكام الله، مخلصون له الدين لا ندعو سواه.
يا أهل الكتاب لماذا تتنازعون وتجادلون فى دين إبراهيم: كل منكم يدعى أنه على دينه فى حين أن إبراهيم سابق فى الوجود على التوراة والإنجيل بشريعة خاصة، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فكيف يكون على شريعة واحدة منهما؟.<BR>أليست لكم عقول تدركون بها بطلان هذا الكلام الذى يناقض الواقع؟
ها أنتم يا هؤلاء جادلتم فى أمر عيسى وموسى الذى لكم بهما معرفة - كما تزعمون - فكيف تجادلون فى كون إبراهيم يهوديًا أو نصرانيًا وليس لكم بذلك علم؟.<BR>والله يعلم حقيقة ما تنازعتم فيه، وأنتم لا علم لكم بذلك.
إن إبراهيم - عليه السلام - ما كان على دين اليهود ولا على دين النصارى، ولكن كان منصرفًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، منقادًا لله، مخلصًا فى طاعته، وما كان من الذين يشركون مع الله غيره فى العبادة.
إن أحق الناس بالانتساب إلى إبراهيم ودينه هم الذين أجابوا دعوته واهتدوا بهديه فى زمنه، وكذا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، فإنهم أهل التوحيد الخالص وهو دين إبراهيم، والله يحب المؤمنين وينصرهم لأنهم أولياؤه، ويجازيهم بالحسنى وزيادة.
إن فريقًا من أهل الكتاب يتمنون إضلال المؤمنين وفتنهم عن دينهم، بإلقاء الشبه التى توهن الاعتقاد، وهم فى عملهم هذا لا يضلُّون إلا أنفسهم بإصرارهم على الضلال الذى يحيق بهم - وحدهم - ولا يعلمون أن عاقبة سعيهم هذا لاحقة بهم ولا تضر المؤمنين.
يا أهل الكتاب لم تكذّبون بآيات الله المنزلة الدالة على صدق نبوة - محمد صلى الله عليه وسلم - وأنتم تعلمون أنها حق؟.
يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق الذى جاء به الأنبياء ونزلت به الكتب بما جئتم به من شبهات واهية، وتأويلات باطلة، ولا تذيعون الحق صريحًا واضحًا بعيدًا عن التخليط، وأنتم تعرفون أن عقاب الله على مثل هذا الفعل عظيم؟.
وأن أهل الكتاب - فى سبيل إضلال المؤمنين - قالوا لإخوانهم: آمنوا بالقرآن الذى نزل على محمد واتبعه فيه المؤمنون أول النهار، واكفروا فى آخره لعلكم تستطيعون بهذا فتنتهم ببث الريب والشك فيهم، فيرجعون عن دينهم.
وقالوا أيضًا: لا تذعنوا إلا لمن تبع دينكم، خشية أن يدعى أحد أنه أوتى مثل ما عندكم، أو يحتج عليكم بإذعانكم عند ربكم، قل لهم - أيها النبى - إن الهدى ينزل من عند الله، فهو الذى يفيض به ويختار له من يشاء، وقل لهم - أيها النبى - إن الفضل من عند الله يعطيه من يريد من عباده، وهو واسع الفضل، عليم بمن يستحقه ومن ينزله عليه.
فهو يمنح من يشاء النبوة والرسالة، ومن خصه بذلك فإنما هو محض فضله، والله صاحب الفضل العظيم، لا ينازعه فيه غيره، ولا يحجر عليه فى عطائه.
هذا سلوك أهل الكتاب فى الاعتقاد، أما سلوكهم فى المال فمنهم من إن استأمنته على قنطار من الذهب أو الفضة أدَّاه إليك لا ينقص منه شيئًا، ومنهم من إن استأمنته على دينار واحد لا يؤديه إليك إلا إذا لازمته وأحرجته، وذلك لأن هذا الفريق يزعم بأن غيرهم أميون، وأنهم لا ترعى لهم حقوق، ويدعون أن ذلك حكم الله، وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه سبحانه وتعالى.
حقًا لقد افتروا على الله الكذب، فإن من أدَّى حق غيره ووفَّاه فى وقته كما عاهده عليه وخاف الله فلم ينقص ولم يماطل فإنه يفوز بمحبة الله لأنه اتقاه (1).<BR>________<BR>(1) توجب الآية الوفاء بالعهد، وفى الوفاء بالعهد آيات أخرى سبقت منها (27) من " سورة البقرة " ولقد اتهم الإسلام والمسلمون بأنهم لا يرعون العهد ولا يعقدون معاهدة إلا لحاجة مؤقتة وينبذونها كلما حانت لهم الفرصة وقد مر الرد على هذه الفرية، ومن جوامع كلم الإمام على بن أبى طالب ما ورد فى كتابه للأشتر النخعى (.<BR>.<BR>وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شىء الناس أشد اجتماعًا عليه مع تفرق أهوائهم من تعظيم الوفاء بالعهود فلا تغدرن بذمتك وتحنث بعهدك.<BR>.<BR>).<BR>وحدث أن أحد قواد المسلمين رد إلى معاهديه الجزية التى اقتضاها عماله منهم لما أحس بعدم قدرته على الدفاع عنهم وكان ذلك شرطًا من شروط العهد.
إن الذين يتركون عهد الله الذى عاهدهم عليه من أداء الحقوق والقيام بالتكليفات، ويتركون أيمانهم التى أقسموا بها على الوفاء - لثمن قليل من أعراض الدنيا - مهما عظم فى نظرهم - هؤلاء لا نصيب لهم فى متاع الآخرة، ويُعرض عنهم ربهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة نظرة رحمة، ولا يغفر لهم آثامهم، ولهم عذاب مؤلم مستمر الإيلام.
وإن من هؤلاء فريقًا يميلون ألسنتهم فينطقون بما ليس من الكتاب، محاولين أن يكون شبيها له، ليحسبه السامع من الكتاب وما هو منه فى شىء، ويَدَّعون أن هذا من عند الله وما هو من الوحى فى شىء وهم بهذا يكذبون على الله، وهم فى أنفسهم يعلمون أنهم كاذبون.
وما كان معقولا ولا سائغًا لبشر ينزل الله عليه الكتاب، ويؤتيه العلم النافع والتحدث عن الله أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله.<BR>ولكن المعقول والواقع أن يطلب منهم أن يكونوا خالصين لربهم الذى خلقهم بمقتضى ما عَلَّمهم من علم الكتاب وما يدرسونه منه.
ولا يمكن أن يأمركم بأن تجعلوا الملائكة أو النبيين أربابًا من دون الله، وإن ذلك كفر ليس من المعقول أن يأمركم به بعد أن صرتم مُسلِّمين وجوهكم لله.
واذكر لهم - أيها النبى - أن الله أخذ العهد والميثاق على كل نبى أنزل عليه الكتاب وآتاه العلم النافع، أنه إذا جاءه رسول توافق دعوته دعوتهم ليؤْمِنُنَّ به وينصرنَّه.<BR>وأخذ الإقرار من كل نبى بذلك العهد، وأقروا به وشهدوا على أنفسهم وشهد الله عليهم، وبلغوه لأممهم أن ذلك العهد يوجب عليهم الإيمان والنصرة إن أدركوه وإن لم يدركوه، فحق على أممهم أن يؤمنوا به وينصروه وفاء واتباعًا لما التزم به أنبياؤهم.
فمن أعرض عن الإيمان بالنبى بعد هذا الميثاق المؤكد، فهو الفاسق الخارج عن شرع الله، الكافر بالأنبياء أولهم وآخرهم.
أيطلبون دينًا غير دين محمد وهو دين الأنبياء وهو - وحده - دين الله - الذى خضع له كل من فى السموات والأرض طوعًا بالإرادة والاختيار، أو كرهًا بالخلق والتكوين، وإليه - وحده - يرجع الخلق كله؟.
أكد الله وحدة الألوهية والرسالة، فأمر نبيه ومن معه بأن يقولوا صدَّقْنا بالله المعبود وحده، ومرسل رسله، وآمنًا بما أنزل الله علينا من القرآن والشريعة، وما نزَّله من كتب وشرائع على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده الأسباط الاثنى عشر، وما أنزل الله على موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل، وما أنزل على سائر النبيين لا فرق فى الإيمان بين أحد منهم.<BR>ونحن بذلك قد أسلمنا وجهنا لله.
فمن يطلب بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - دينًا وشريعة غير دين الإسلام وشريعته فلن يرضى الله منه ذلك، وهو عند الله فى دار جزائه من الذين خسروا أنفسهم فاستوجبوا العذاب الأليم.
إن الله لا يوافق قومًا شهدوا بأن الرسول حق، وجاءتهم الأدلة على ذلك، ثم بعد ذلك كفروا به، وبمعجزاته، فكان ذلك ظلمًا منهم، والله لا يوفق الظالمين.
أولئك عقوبتهم عند الله استحقاق غضبه عليهم، ولعنته، ولعنة صفوة الخلق جميعًا من ملائكة وبشر.
لا تفارقهم اللعنة، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون.
لكن الذين أقلعوا عن ذنوبهم، ودخلوا فى أهل الصلاح وأزالوا ما أفسدوا، فإن الله تعالى يغفر لهم برحمته ذنوبهم، لأن المغفرة والرحمة صفتان من صفات ذاته العلية.
وإن قبول التوبة والرحمة بالغفران شرطهما الاستمرار على الإيمان، فالذين يجحدون الحق بعد الإذعان والتصديق، ويزدادون بهذه الردة جحودًا وفسادًا وإيذاء للمؤمنين، لن يقبل الله سبحانه وتعالى - توبتهم لأنها لا يمكن أن تكون صادقة خالصة، وقد صاروا بعملهم بعيدين عن الحق منصرفين عنه.
وإن الذين جحدوا الحق ولم يذعنوا له واستمروا عليه حتى وهم جاحدون، لن يستطيع أحدهم أن يفتدى نفسه من عذاب الله - سبحانه وتعالى - شيئًا، ولو كان الذى يقدمه فدية له ما يملأ الأرض من الذهب إن استطاع، وعذابهم مؤلم شديد الإيلام.
لن تنالوا - أيها المؤمنون - الخير الكامل الذى تطلبونه ويرضاه الله تعالى، إلا إذا بذلتم مما تحبون وأنفقتموه فى سُبُل الله المتنوعة، وإن كان الذى تنفقونه قليلا أو كثيرًا، نفيسًا أو غيره، فإن الله يعلمه لأنه العليم الذى لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
اعترض اليهود على استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها، وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم.<BR>فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحًا لبنى يعقوب من قبل نزول التوراة، إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم.<BR>وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين، فعجزوا وأفحموا.
وإذ ثبت عجزهم، فمن اختلق منهم الكذب على الله من بعد لزوم الحُجة فهم المستمرون على الظلم المتصفون به حقًا.
وبعد تعجيزهم أمر الله النبى أن يبيّن لهم أنه بعد إفحامهم ثبت صدق الله فيما أخبر، فاتَّبعوا شريعة إبراهيم التى يدعوكم إليها وتكذبون عليها، فإنها الحق الذى لا شك فيه، وما كان إبراهيم من أهل الشرك بالله.
وإن من اتباع ملة إبراهيم الاتجاه فى الصلاة إلى البيت الذى بناه والحج إليه، وقد بين الله تعالى ذلك فذكر: أن أول بيت فى القدم والشرف جعله الله متعبدًا للناس لهو الذى فى مكة، وهو كثير الخيرات والثمرات، وأودع الله سبحانه وتعالى البركة فيه، وهو مكان هداية الناس بالحج والاتجاه فى الصلاة إليه (1).<BR>_________<BR>(1) إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة، والكعبة أول بيت وضع للناس لعبادة الله الواحد القهار بينما بقية الشعوب والقبائل فى سائر أنحاء الأرض كانوا يبنون البيوت لعبادة الأصنام والتماثيل.<BR>فالمصريون كانوا يعبدون آلهة متعددة تارة فى وقت واحد وتارة فى أوقات متعددة.<BR>فمن عبادة الشمس إلى عبادة الصور إلى عبادة الآلهة الثلاثة أوزوريس وأوزيس وابنهما حوريس وأقاموا لذلك التماثيل.<BR>وكان الآشوريون يعبدون بعل مشموش - أى إله الشمس - ويصنعون له صنمًا على نحو أبى الهول، له رأس إنسان وجسم أسد وله أجنحة.<BR>وكان الكنعانيون يعبدون البعل وهو على وصف أبى الهول ولا يزال تمثال الكنعانيين موجودًا.<BR>وإن كان مشوهًا حتى اليوم ببعلبك.<BR>وبكة هى عين مكة.<BR>ومن المعلوم أن بعض القبائل العربية تبدل الباء ميمًا وبالعكس.<BR>فيقولون: فى مكان ( بكان ) وفى بكر ( مكر ) ويوجد فى بعض جهات الإقليم الجنوبى - الصعيد - من جمهورية مصر العربية أثر من ذلك حتى اليوم.
وفيه دلائل واضحات على حرمته ومزيد فضله، منها مكان قيام إبراهيم للصلاة فيه، ومن دخله يكون آمنًا لا يتعرض له بسوء، وحج هذا البيت واجب على المستطيع من الناس، ومن أبى وتمرد على أمر الله وجحد دينه فالخسران عائد عليه، وأن الله غنى عن الناس كلهم.
أمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله بتوبيخ أهل الكتاب على استمرارهم على الكفر والضلال والتضليل فقال: قل لهم: يا أهل الكتاب لا وجه لكفركم، فلأى سبب تكفرون بدلائل الله الدالة على نبوة محمد وصدقه، والله مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها.
يا أهل الكتاب كيف تحاولون صرف مَن آمن بالله ورسوله وأذعن للحق عن سبيل الله الحق المستقيمة، وتحاولون أن تصوروها معوجة، وأنتم عالمون أنها حق، وليس الله غافلا عن أعمالكم وسيجازيكم عليها.
وقد حذَّر الله المؤمنين مما يثيره بعض أهل الكتاب من شُبَهٍ قائلا: إن تطيعوا بعض أهل الكتاب فيما يبثونه من الشُّبَهِ فى دينكم تعودوا إلى الضلال بعد الهداية، ويردوكم جاحدين بعد الإيمان.
وتصوروا حالكم العجيبة وأنتم تضلون وتكفرون بعد الإيمان، والقرآن يتلى عليكم، ورسول الله بينكم، يبين لكم ويدفع الشبه عن دينكم، ومن يلجأ إلى ربه ويستمسك بدينه فنعم ما فعل، فقد هداه ربه إلى طريق الفوز والفلاح.
وإن باب النار مفتوح إذا لم تتقوا الله، فيا أيها الذين آمنوا خافوا الله الخوف الواجب بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ودوموا على الإسلام حتى تلقوا الله.
وتمسكوا بدين الله مجتمعين عليه، ولا تفعلوا ما يؤدى إلى فرقتكم، وتذكروا نعمة الله عليكم حين كنتم فى الجاهلية متعادين، فَألَّف بين قلوبكم بالإسلام فصرتم متحابين، وكنتم - بسبب كفركم وتفرقكم - على طرف حفرة من النار فخلصكم منها بالإسلام، بمثل ذلك البيان البديع يبين الله لكم دائمًا طرق الخير لتدوموا على الهدى.
وإن السبيل للاجتماع الكامل على الحق فى ظل كتاب الله ورسوله أن تكونوا أمة يدعون إلى كل ما فيه صلاح دينى أو دنيوى، ويأمرون بالطاعة، وينهون عن المعصية، وأولئك هم الفائزون فوزًا كاملاً.
ولا تكونوا بإهمالكم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اللذين يجمعانكم على الخير والدين الحق، كأولئك الذين أهملوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتفرقوا شيعًا، واختلفوا فى دينهم من بعد ماجاءتهم الحُجج الواضحة المبينة للحق، وأولئك المتفرقون المختلفون لهم عذاب عظيم.
ذلك العذاب العظيم فى اليوم الذى تبيض بالسرور فيه وجوه المؤمنين، وتسود بالكآبة والحزن وجوه الكافرين، ويقال لهم توبيخًا: أكفرتم بعد أن فطرتم على الإيمان والإذعان للحق وجاءتكم البينات عليه؟، فذوقوا العذاب بسبب كفركم.
وأما الذين ابيضت وجوههم سرورًا بما بشروا به من الخير، ففى الجنة التى رحمهم الله بها هم فيها خالدون.
وإن تلك الآيات الواردة بجزاء المحسن والمسىء نتلوها عليك مشتملة على الحق والعدل، وما الله يريد ظلمًا لأحد من الناس والجن.
ولله - وحده - ما فى السموات وما فى الأرض خلقًا وملكًا وتصرفًا، وإليه مصير أمورهم، فيجازى كلاً بما يستحقه.
أنتم - يا أمة محمد - أفضل أمة خلقها الله لنفع الناس، ما دمتم تأمرون بالطاعات وتنهون عن المعاصى، وتؤمنون بالله إيمانًا صحيحًا صادقًا، ولو صدق أهل الكتاب فى إيمانهم مثلكم لكان خيرًا لهم مما هم عليه، ولكن منهم المؤمنون وأكثرهم خارجون عن حدود الإيمان وواجباته.
لن يضركم هؤلاء الفاسقون بضرر ينالونكم به، ويكون له أثر فيكم، إلا أذى لا يبقى له أثر مثل ما يؤذى أسماعكم من ألفاظ الشرك والكفر وغير ذلك، وإن يُقاتلوكم ينهزموا فارين من لقائكم، ثم لا تكون لهم نصرة عليكم مادمتم متمسكين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وأخبر سبحانه بأنه ألزمهم المهانة فى أى مكان وجدوا فيه، إلا بعقد الذمة الذى هو عهد الله وعهد المسلمين، وأنهم استوجبوا غضب الله وألزمهم الاستكانة والخضوع لغيرهم، وذلك بسبب كفرهم بآيات الله الدالة على نبوة محمد، وقتلهم الأنبياء الذى لا يمكن أن يكون بحق، بل هو عصيان منهم واعتداء.
وإن أهل الكتاب ليسوا متساوين، فإن منهم جماعة مستقيمة عادلة يقرءون كتاب الله فى ساعات الليل وهم يصلون.
لا يعبدون إلا الله ويصدقون بوجوده ووحدانيته وبالرسل ومجىء يوم القيامة، ويأمرون بالطاعات وينهون عن المعاصى، ويبادرون إلى فعل الخيرات، وهؤلاء عند الله من عداد الصالحين.
وما يفعلوا من خير فلن يحرموا ثوابه، والله محيط بأحوالهم ومجازيهم عليها.
إن الذين كفروا لن تدفع عنهم أموالهم لو افتدوا بها أنفسهم، ولا أولادهم لو استعانوا بهم شيئًا ولو يسيرًا من عذاب الله فى الآخرة.<BR>وهؤلاء هم الملازمون للنار، الباقون فيها.
إن حال ما ينفقه الكفار فى الدنيا وما يرجون عليه من ثواب فى الآخرة، كحال زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصى، أصابته ريح فيها برد شديد فأهلكته عقوبة لهم.<BR>وما ظلمهم الله بضياع أجور أعمالهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما أوجب ضياعها، وهو جحود دلالات الإيمان والكفر بالله.
يا أيها الذين آمنوا: لا تتخذوا أصفياء تستعينون بهم من غير أهل دينكم، تطلعونهم على أسراركم، لأنهم لا يقصرون فى إفساد أموركم.<BR>إذ هم يودون أن يرهقوكم ويضروكم أشد الضرر.<BR>وقد ظهرت أمارات البغضاء لكم من فلتات ألسنتهم، وما تضمره قلوبهم أعظم مما بدا، قد أظهرنا لكم العلامات التى يتميز بها الولى من العدو إن كنتم من أهل العقل والإدراك الصحيح.
ها أنتم أولاء - أيها المؤمنون - تحبون هؤلاء الكفار المنافقين لقرابة أو صداقة أو مودة، ولا يحبونكم لتعصبهم لدينهم، وأنتم تؤمنون بجميع كتب الله المنزلة، وإذا لقوكم أظهروا الإيمان خداعًا لكم، وإذا فارقوكم عضوا لأجلكم أطراف الأصابع غيظًا وأسفاً.<BR>قل - أيها النبى -: دوموا على غيظكم إلى الموت، وإن الله عليم بما تخفيه الصدور، ويجازيكم عليه.
إن جاءتكم نعمة كنصر وغنيمة تحزنهم، وإن تصبكم مساءة كجدب وهزيمة يُسَرُّوا بإصابتكم، وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا ما نهيتم عنه من موالاتهم لا يضركم مكرهم وعداوتهم أى ضرر، لأنه تعالى عالم بما يعملونه من الكيد، فلا يعجزه رده عنكم.
واذكر - أيها النبى - حين خرجت مبكرًا من عند أهلك إلى أُحُد قاصدًا إنزال المؤمنين فى مراكز القتال.<BR>والله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم.
حين خطر لطائفتين من المؤمنين وهما بنو مسلمة وبنو حارثة أن تفشلا وترجعا، فعصمهم الله فثبتوا ومضوا للقتال لأنه متولى أمرهما بالعصمة والتوفيق، فليأخذ المؤمنون من هذا عبرة، وليتوكلوا عليه لينصرهم.
ذكَّر الله المؤمنين بنعمة النصر فى غزوة بدر (1) حين صبروا، فأكد لهم أنه نصرهم فيها وهم قليلو العدد والعدة، وطلب منهم طاعته لشكر هذه النعمة.<BR>________<BR>(1) بدر على مسيرة نحو 120 ميلاً من الجنوب الغربى للمدينة وكان اللقاء فيها بين المسلمين وقريش فى يوم الثلاثاء الموافق 17 من رمضان من السنة الثانية للهجرة ( 13 من مارس سنة 624 من الميلاد المسيحى ) وكان خروج النبى- صلى الله عليه وسلم - فى أصحابه من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ( 5 من مارس سنة 624 للميلاد المسيحى ) وكان عدد المقاتلين من المسلمين فى هذه الغزوة ثلاثمائة رجل أو يزيدون قليلا، وعدد المشركين ثلاثة أمثالهم وقد أنجز الله فى هذه الغزوة وعده وكان النصر ما لا تفعله القوة المادية.<BR>وكان النصر المبين فى هذه الغزوة سببًا فى أن صارت كلمة الإيمان هى العليا إذ كانت مقدمة لانتصارات بعدها وامتد ظل الإسلام إلى الجزيرة العربية كلها، ثم لما وراءها بعدها.
وكان النصر حين قال الرسول للمؤمنين: ألن يكفيكم فى طمأنينة نفوسكم إعانة ربكم إياكم بثلاثة آلاف من الملائكة مرسلين من عند الله لتقويتكم.
بلى يكفيكم ذلك الإمداد، وإن تصبروا على القتال، وتلتزموا التقوى، ويأتكم أعداؤكم على الفور يزد ربكم الملائكة إلى خمسة آلاف مرسلين من عند الله لتقويتكم.
وما جعل اللَّه الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم بالنصر، ولتسكن به قلوبكم، ليس النصر إلا من عند اللَّه الذى يضع الأشياء فى مواضعها، ويدير الأمور لعبادة المؤمنين.
وقد نصركم ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل، أو يذلهم ويغيظهم بالهزيمة والعار والخزى، فيرجعوا خائبين.
ليس لك من التصرف فى أمر عبادى شىء، بل الأمر للَّه، فإما أن يتوب عليهم بالإيمان، أو يعذبهم بالقتل والخزى والعذاب يوم القيامة لأنهم ظالمون.
إن للَّه - وحده - ما فى السموات وما فى الأرض خلقًا وملكًا، وهو القادر على كل شىء، وفى يده كل شىء، يغفر لمن يريد له المغفرة، ويعذب من يريد تعذيبه، ومغفرته أقرب، ورحمته أرجى لأنه كثير المغفرة والرحمة.
يا أيها الذين آمنوا لا تأخذوا فى الدَّيْنِ إلا رءوس أموالكم، فلا تزيدوا عليها زيادة تجىء سنة بعد أخرى فتتضاعف وخافوا اللَّه، فلا تأكلوا أموال الناس بالباطل، فإنكم تفلحون وتفوزون باجتنابكم الربا قليله وكثيره (1).
واحذروا النار التى هيئت للكافرين باجتناب ما يوجبها من استحلال الربا.
وأطيعوا اللَّه والرسول فى كل أمر ونهى لترحموا فى الدنيا والآخرة.
وبادروا بالأعمال الصالحة، لتنالوا مغفرة عظيمة لذنوبكم من اللَّه مالك أمركم، وجنة واسعة عرضها كعرض السموات والأرض هيئت لمن يتقون اللَّه وعذابه.
الذين ينفقون أموالهم إرضاء للَّه فى أحوال اليسر والعسر، والقدرة والضعف، ويحسبون أنفسهم عن أن يؤدى غيظهم إلى إنزال عقوبة بمن أساء إليهم خاصة، ويتجاوزون عن المسىء، إنهم بهذا يعدون محسنين، واللَّه تعالى يثيب المحسنين ويرضى عنهم.
والذين إذا ارتكبوا كبيرة، أو تحملوا ذنبًا صغيرًا، تذكروا اللَّه وجلاله، وعقابه وثوابه، ورحمته ونقمته، فندموا، وطلبوا مغفرته، حيث إنه لا يغفر الذنوب إلا اللَّه، ولم يقيموا على قبيح فعلهم وهم يعلمون قبحه.
أولئك المتصفون بهذه الصفات أجرهم مغفرة عظيمة من ربهم مالك أمرهم، وجنات تجرى الأنهار بين أشجارها لا يبرحونها.<BR>ونعم ذلك ثوابا للعاملين بأمر اللَّه.
قد مضت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن اللَّه فى الأمم المكذبة، بإمهالهم، ثم أخذهم بذنوبهم، فتأملوا كيف كان عاقبة أمر المكذبين.
وهذا المذكور من صفات المؤمنين وسنن الله فى الماضين فيه بيان للناس وإرشاد لهم إلى طريق الخير، وزجر عن طريق الشر.
ولا تضعفوا عن الجهاد فى سبيل الله بسبب ما ينالكم فيه، ولا تحزنوا على من يقتل منكم، وأنتم - بتأييد الله وإيمانكم، وقوة الحق الذى تدافعون عنه - الأعلون، ولكم الغلبة إن صدق إيمانكم ودمتم عليه.
إن يكن قد مسّكم بأحد قتل أو جراح عميقة فى أجسامكم، وأثَّرت فى نفوسكم فلا تهنوا ولا تحزنوا، لأنه قد أصاب خصومكم مثله يوم بدر.<BR>وإن أوقات النصر يصرفها الله بين الناس، فيكون النصر لهؤلاء أحيانًا ولأولئك أخرى، اختبارًا للمؤمنين، وليميز الله الثابتين على الإيمان، وليكرم قومًا بالاستشهاد فى سبيله، والله لا يحب المشركين الظالمين ولو ظفروا بنصر من غيرهم.
وينقى الله بهذه الهزيمة الوقتية جماعة المؤمنين، ويطهرهم من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، ودعاة الهزيمة والتردد، ويستأصل بذلك الكفر وأهله.
لا تظنوا - أيها المؤمنون - أنكم تدخلون الجنة دون أن يتبين منكم المجاهدون الصابرون الذين تطهرهم المحن والشدائد.
لقد كنتم تطلبون الموت فى سبيل الله من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله، فقد رأيتم الموت حين قتل إخوانكم بين أيديكم وأنتم تنظرون.
لما أشيع قتل محمد فى غزوة أُحد، همّ بعض المسلمين بالارتداد، فأنكر الله عليهم ذلك قائلا: ليس محمد إلا رسول قد مات من قبله المرسلون أمثاله، وسيموت كما ماتوا، وسيمضى كما مضوا، أفإن مات أو قتل رجعتم على أعقابكم إلى الكفر؟، ومن يرجع إلى الكفر بعد الإيمان فلن يضر الله شيئًا من الضرر، وإنما يضر نفسه بتعريضها للعذاب، وسيثيب الله الثابتين على الإسلام الشاكرين لنعمه.
لا يمكن أن تموت نفس إلا بإذن الله، وقد كتب الله ذلك فى كتاب مشتمل على الآجال.<BR>ومن يرد متاع الدنيا يؤته منها، ومن يرد جزاء الآخرة يؤته منها، وسيجزى الله الذين شكروا نعمته فأطاعوه فيما أمرهم به من جهاد وغيره.
وكم من الأنبياء قاتل مع كل منهم كثيرون من المؤمنين المخلصين لربهم، فما جبنت قلوبهم ولا فترت عزائمهم، ولا خضعوا لأعدائهم بسبب ما أصابهم فى سبيل الله، لأنهم فى طاعته، والله يثيب الصابرين على البلاء.
وما كان قولهم عند شدائد الحرب إلا أن قالوا: ربنا تجاوز عمَّا يكون منا من صغائر الذنوب وكبائرها، وثبتنا فى مواطن الحرب وانصرنا على أعداء دينك الكافرين بك وبرسالة رسلك.
فأعطاهم الله النصر والتوفيق فى الدنيا، وضمن لهم الجزاء الحسن فى الآخرة، والله يثيب الذين يحسنون أعمالهم.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الكفار أعداءكم الذين أعلنوا الكفر أو أخفوه فيما يدعونكم إليه من قول أو فعل يقلبوكم إلى الكفر فتخسروا الدنيا والآخرة.
والله هو ناصركم، ولا تخشوهم لأن الله أعظم الناصرين.
ولا يضعفكم ما أصابكم يوم أُحد، فسنقذف الخوف والفزع فى قلوب أعدائكم، لإشراكهم بالله آلهة لم ينزل الله بعبادتها حُجة، لأنها لا تنفع ولا تضر، ومستقرهم النار فى الآخرة وبئس هذا المكان للظالمين مقامًا.
وإن نصر الله محقق واقع، ولقد صدقكم الله الوعد بالنصر حين قتلتم كثيرين منهم أول الأمر بإرادته، حتى إذا ضعف رأيكم فى القتال، واختلفتم فى فهم أمر النبى إياكم بالمقام فى مراكزكم، فرأى بعضكم ترك موقعه حيث ظهر النصر، ورأى البعض البقاء حتى النهاية، وعصى فريق منكم أمر الرسول فمضى لطلب الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر، وصرتم فريقين منكم من يريد متاع الدنيا، ومنكم من يريد ثواب الآخرة، لما كان ذلك، منعكم نصره ثم ردكم بالهزيمة عن أعدائكم، ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره.<BR>ولقد تجاوز عنكم لما ندمتم.<BR>والله ذو الفضل عليكم بالعفو وقبول التوبة.
اذكروا - أيها المؤمنون - حالكم وقت أن كنتم تبعدون فى الأرض هاربين، ولا تلتفتون لأحد من شدة الهرب، والرسول يناديكم من ورائكم لترجعوا، فجازاكم الله حزنًا غامرًا كالغمة، توالى على نفوسكم لكى لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة، والله عليم بمقاصدكم وأعمالكم.
إن الذين انصرفوا منكم عن الثبات فى أماكنهم - يا معشر المسلمين - يوم التقى جمعكم وجمع الكفار للقتال بأُحد، إنما جرَّهم الشيطان إلى الزلل والخطأ بسبب ما ارتكبوا من مخالفة الرسول، ولقد تجاوز الله عنهم لأنه كثير المغفرة واسع الحلم.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فى شأن إخوانهم - إذا أبعدوا فى الأرض لطلب العيش فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا -: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة فى قلوبهم، والله هو الذى يحيى ويميت، وبيده مقادير كل شىء، وهو مطلع على ما تعملون من خير أو شر، ومجازيكم عليه.
ولئن قتلتم فى الجهاد أو متم فى أثنائه، لمغفرة من الله لذنوبكم ورحمة منه لكم، خير مما تجمعونه من متاع الدنيا لو بقيتم.
ولئن متم أو قتلتم فى الجهاد فلن تضيع أعمالكم، بل ستحشرون إلى الله فيثيبكم على جهادكم وإخلاصكم.
كان رحمة من الله بك وبهم أن لِنْتَ لهم ولم تغلظ فى القول بسبب خطئهم، ولو كنت جافى المعاملة قاسى القلب، لتفرقوا من حولك، فتجاوز عن خطئهم، واطلب المغفرة لهم، واستشرهم فى الأمر متعرفًا آراءهم مما لم ينزل عليك فيه وحى، فإذا عقدت عزمك على أمر بعد المشاورة فامض فيه متوكلاً على الله، لأن الله يحب من يفوض أموره إليه (1).<BR>________<BR>(1) الشورى أصل أصيل وركن ركين فى الإسلام، ولقد قيل: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، والقرآن على نهجه فى التشريع يشرع كبريات الأسس والقواعد ويدع التفاصيل للجماعة بحسب ظروف الزمان والمكان، فقد يكون النظام النيابى فى الحكم والشورى صالحًا لبلاد معينة كانجلترا وفرنسا بحيث يكون رجال الحكومة مسئولين أمام البرلمان، لأنهم نشأوا على ذلك ومرجع الأمر عندهم تاريخى يتفق مع الهيئة التى هم فيها.<BR>وقد يكون نظام الحكم رئاسيًا وفيه نوع كبير من الشورى مناسبًا لبلاد كالولايات المتحدة لما تبغيه من نهوض سريع وعدم تعويق التقدم والرقى بسقوط الوزارات كما هو حادث فى فرنسا البرلمانية حيث لم تكن الوزارة قبل الحرب الأخيرة لتبقى أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تكون الشورى على نظام وسط بين الرئاسى والبرلمان.<BR>فكل دولة وكل جماعة لها أن تسن طريق الشورى وفق ظروفها أو تاريخها وبيئتها والمهم أن مبدأ الشورى يكون موجودًا خشية تسلط الفرد وتحكمه وطغيانه، ولذلك اكتفى القرآن بالنص على المبدأ منذ أربعة عشر قرنًا سابقًا بذلك كل المدنيات العصرية التى تتشدق بالحرية.
إن يؤيدكم الله بنصره - كما حصل يوم بدر - فلن يغلبكم أحد، وإن قدر لكم الخذلان لعدم اتخاذكم أسباب النصر - كما حصل يوم أُحد - فلا ناصر لكم سواه، وعلى الله - وحده - يجب أن يعتمد المؤمنون ويفوضوا أمرهم إليه.
ما صح لنبى أن يخون فى المغنم كما أشاع المنافقون الكذابون، لأن الخيانة تنافى النبوة، فلا تظنوا به ذلك، ومن يخن يأت يوم القيامة بإثم ما خان فيه، ثم تُعطى كل نفس جزاء ما عملت وافيًا، وهم لا يظلمون بنقصان الثواب أو زيادة العقاب.
ليس من سعى فى طلب رضا الله بالعمل والطاعة مثل الذى باء بغضب عظيم من الله بسبب المعصية.<BR>ومصير العاصى جهنم وبئس ذلك المصير.
ليس الفريقان سواء، بل هم متفاوتون عند الله تفاوت الدرجات والله عالم بأحوالهم ودرجاتهم، فيجازيهم على قدرها.
لقد تفضل الله على المؤمنين الأولين الذين صحبوا النبى، بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيات الكتاب، ويطهرهم من سوء العقيدة، ويعلمهم علم القرآن والسنة.<BR>وقد كانوا من قبل بَعثه فى جهالة وحيرة وضياع.
أجزعتم وتخاذلتم وقلتم مستغربين حين أصابتكم مصيبة يوم أُحد قد أصبتم ضعفيها يوم بدر: من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله فينا؟.<BR>قل: الذى أصابكم من عند أنفسكم بسبب مخالفتكم الرسول والله قادر على كل شىء، وقد جازاكم بما عملتم.
إن الذى أصابكم - أيها المؤمنون - يوم التقى جمعكم وجمع المشركين بأُحد واقع بقضاء الله، وليظهر للناس ما علمه من إيمان المؤمن حقًا.
وليظهر نفاق الذين نافقوا، وهم الذين قيل لهم حين انصرفوا يوم أُحد عن القتال: تعالوا قاتلوا لأجل طاعة الله، أو قاتلوا دفاعًا عن أنفسكم، قالوا: لو نعلم أنكم ستلقون قتالاً لذهبنا معكم، وهم حين قالوا هذا القول: أقرب للكفر منهم للإيمان، يقولون بأفواههم: ليس هناك حرب، مع أنهم يعتقدون فى قلوبهم أنها واقعة.<BR>والله أعلم بما يضمرون من النفاق.
وإنهم هم الذين تخلفوا عن القتال وقعدوا عنه، وقالوا فى شأن إخوانهم الذين خرجوا وقتلوا: لو أطاعونا وقعدوا كما قعدنا لنجوا من القتل كما نجونا.<BR>قل: فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين فى أن الحذر كان يمنعكم من القدر.
ولا تظنن الذين قُتِلوا فى سبيل الله أمواتًا بل هم أحياء حياةً استأثر الله بعلمها، يرزقون عند ربهم رزقًا حسنًا يعلمه هو.
يتألق السرور بالبشر من وجوههم بما أعطاهم الله بسبب فضله من المزايا، ويفرحون بإخوانهم الذين تركوهم فى الدنيا أحياء مقيمين على منهج الإيمان والجهاد، وبأنه لا خوف عليهم من مكروه، ولا هم يحزنون لفوات محبوب.
تتألق وجوه الشهداء بما منّ الله به عليهم من نعمة الشهادة ونعيم الجنة وعظيم الكرامة، وبأنه لا يضيع أجر المؤمنين.
الذين لبّوا دعوة الرسول إلى استئناف الجهاد من بعد ما أصابهم فى غزوة أُحد من الجرح العميق، وبذلك أحسنوا، واتقوا عصيان أمر الله ورسوله، فاستحقوا الأجر العظيم فى دار الجزاء والنعيم.
الذين خوفهم الناس بأن قالوا لهم: إن أعداءكم قد جمعوا لكم جيشًا كثيفًا فخافوهم، فما ضعفوا وما وهنوا، بل ازدادوا إيمانًا بالله وثقة بنصره، وكان ردّهم: الله كافينا، وهو المتولى أمورنا، وهو نِعْمَ من يفوّض إليه الأمر كله.
ثم خرجوا للجهاد ولقاء الجيش الكثيف، ولكن المشركين جبنوا عن اللقاء، فعاد المؤمنون فائزين بنعمة السلامة مع الرغبة فى الجهاد، وفوزهم بثوابه وفضل اللَّه عليهم فى إلقاء الرعب فى قلوب عدوهم فلم ينلهم أذى.<BR>وابتغوا رضوان اللَّه فصاروا أهلاً لفضله، واللَّه صاحب الفضل العظيم.
يبين اللَّه سبحانه للمؤمنين أن أولئك الذين يخوفونكم بأعدائكم لتجْبنوا عن لقائهم ليسوا إلا أعوانًا للشيطان الذى يخًوف أتباعه فيجعلهم جبناء ولستم منهم.<BR>فلا تحفلوا بتخويفهم وخافوا اللَّه - وحده - إن كنتم صادقى الإيمان، قائمين بما يفرضه عليكم هذا الإيمان.
لا تحزن - أيها النبى- إذا رأيت الذين يزدادون كفرًا ويسرعون بالانتقال من سيئ إلى أسوأ، فهم لن ينالوا اللَّه بأى ضرر، لأنه القاهر فوق عباده، بل يريد اللَّه ألا يجعل لهم نصيبًا من ثواب الآخرة، ولهم فوق حرمانهم هذا الثواب الكريم عذاب عظيم.
إن هؤلاء الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، فابتغوا الكفر وتركوا الإيمان، لن يضرُّوا اللَّه شيئا، ولهم فى الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام.
لا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم - حين نُمدَُ فى أعمارهم، ونهيئ لهم أسباب النعيم فى حياتهم الدنيا - خير لهم، فإن إطالة العمر وسعة الرزق يفضيان بهم إلى الاستمرار فى اكتساب الإثم واستحقاق ما أعد اللَّه لهم من عذاب مهين.
ما كان اللَّه ليترككم - يا معشر المؤمنين - على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف لتروا المنافق الخبيث والمؤمن الطيب، ولم تجر سنة اللَّه بإطلاع أحد من خلقه على شىء من غيبه، ولكن اللَّه يصطفى من يشاء بإطلاعه على ما يشاء من غيبه، وإن تؤمنوا وتتقوا ربكم بالتزام طاعته يدخلكم الجنة جزاء، ونعم الجزاء إذ هى جزاء عظيم.
لا يظن الذين يبخلون بما أنعم الله عليهم من المال تفضلاً منه، ولا يبذلونه فى الواجبات وسبل الخير أنَّ البخل خير لهم، بل إنه شر سيئ العاقبة عليهم، سيجزون عليه شر الجزاء يوم القيامة، وسيكون العذاب ملازمًا لهم ملازمة الطوق للعنق.<BR>وإن كل ما فى الوجود يؤول لله سبحانه وتعالى وهو المالك له، وهو سبحانه يعلم كل ما تعملون، وسيجازيكم عليه.
ومع أن الله له ملك السموات والأرض وميراثهما، فقد قال بعض اليهود متهكمين إن الله فقير يطلب منا أن نقرضه بالإنفاق، ونحن أغنياء ننفق أو لا ننفق، لقد سمع الله قولهم هذا وسجَّل عليهم ذلك القول كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلمًا وإثمًا وعدوانًا، وسيقول لهم يوم القيامة: ذوقوا عذاب النار المحرقة.
وذلك العذاب بما قدمت أيديهم من الآثام، وعقاب الله لا يكون إلا عدلا، فهو لا يظلم العباد أبدًا.
إنهم هم الذين قالوا: إن الله أمرنا فى التوراة ألا نؤمن مذعنين لرسول إلا إذا دلل على صدقه بأن يأتينا بشىء يقربه لوجه الله وتنزل نار من السماء فتأكله، فقل لهم - أيها النبى -: إن رسلا من الله قد جاءوا من قبل بالأدلة الواضحة، وجاءوا بما اقترحتم، ومع ذلك كذبتموهم وقتلتموهم.<BR>فلم فعلتم ذلك إن كنتم صادقين فى وعدكم بالإيمان عندما يتحقق ما تريدون؟.
وإن كذبوك - أيها النبى - فلا تحزن، فقد سبق قبلك كثيرون كذبهم أقوامهم تعنتًا وعنادًا، مع أنهم جاءوا بالأدلة الساطعة والكتب السماوية الدالة على صدق رسالتهم.
كل نفس تذوق الموت لا محالة، وإذا أصابتكم آلام فى الدنيا فإنما توفون ثوابكم كاملاً يوم القيامة، ومن قارب النار وزحزح عنها فقد نال الفوز، وما الحياة الدنيا إلا متاع زائل يغرُّ ولا يبقى.
تأكدوا - أيها المؤمنون - أنكم ستختبرون فى أموالكم بالنقص أو الإنفاق، وفى أنفسكم بالجهاد وبالأمراض والآلام.<BR>وأنكم ستسمعون من اليهود والنصارى والمشركين كثيرًا مما يؤذيكم من السب والطعن، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالصبر وتقوى الله، لأن ذلك من الأمور الصالحة التى يجب العزم على تنفيذها.
واذكر - أيها النبى - إذ أخذ الله العهد المؤكد على أهل الكتاب أن يوضحوا معانيه، وألا يخفوا شيئًا من آياته عن الناس، فألقوه وراء ظهورهم نابذين له، واستبدلوا به متاع الدنيا طالبين له، ومتاع الدنيا مهما يكن كالثمن البخس الحقير فى مقابل الهداية والإرشاد فقبحًا لما فعلوا.
لا تظنن الذين يفرحون دائمًا بما يأتون من أفعال قبيحة ويحبون الثناء بما لم يفعلوه، لا تظنن هؤلاء بمنجاة من العذاب، لأن من شأنهم أن يغلقوا على أنفسهم باب الإيمان والحق كاليهود، ولهم عذاب مؤلم يوم القيامة.
الله - وحده - هو المالك لأمر السموات والأرض، وهو القادر على كل شىء، فيؤاخذ المذنبين بذنوبهم ويثيب المحسنين على إحسانهم.
إن فى خلق الله للسموات والأرض مع ما فيهما من إيداع وإحكام، واختلاف الليل والنهار نورًا وظلمة وطولاً وقصرًا لدلائل بينات لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله وقدرته (1).<BR>___________<BR>(1) { إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب }.<BR>فى هذا النص تنبيه إلى حقائق كونية تدل على عظمة الخالق، ذلك أن السماء هى آية من آيات الله بدت لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوى الذى يحيط بالأرض.<BR>فعندما تسقط هذه الأشعة على ذرات العناصر الكيماوية التى يتألف منها الجو وعلى ما يحمله هذا الجو من أتربة دقيقة عالقة به مُنعكسة من هذه الذرات وتلك الأتربة تتشتت فى جهات مختلفة ومن المعلوم أن الضوء الأبيض يتألف من جميع الألوان المرئية.<BR>وأن هذه الذرات تمتص بعض الألوان من بعضها الآخر.<BR>وقد اتضح من تجارب واعتبارات خاصة بطاقته، أن اللون الأكثر تشتتًا هو اللون الأزرق ويتجلى هذا بصورة أوضح عندما تكون الشمس فى سمت الرأس، وتتناقص زرقة هذا اللون شيئًا فشيئًا حتى إذا بلغت الشمس الأفق أى وقت الغروب أو الشروق.<BR>فإن إشعاعها يخترق جو الأرض فى مسافات أطول بكثير.<BR>ولهذا فإن اللون الأحمر يظهر تشتته أكثر من غيره.<BR>وصفوة القول: إن ضوء النهار يتطلب الإشعاع الشمسى وكمية متناسبة من الغبار الجوى والدليل على ذلك ما حدث فى سنة 1944 حيث اظلمت السماء فجأة فى وضح النهار.<BR>ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل.<BR>وظل الأمر كذلك زمنًا وجيزًا، ثم تحولت السماء إلى لون أحمر ثم تدرج إلى لون برتقالى فأصفر، حتى عادت السماء إلى حالتها الطبيعية بعد حوالى ساعة أو أكثر.<BR>وقد تبين فيما بعد أن هذه الظاهرة نشأت من تفتت كوكب فى السماء فاستحال إلى رماد وحملته الرياح إلى مسافات بعيدة من أواسط أفريقية إلى شمالها وتجاوزت إلى غربى آسيا حيث شوهدت هذه الظاهرة فى إقليم سوريا.<BR>وتفسير ذلك أن الغبار المعلق فى الهواء قد حجب نور الشمس فلما قلت كثافته أخذ الضوء فى الاحمرار والاصفرار.<BR>.<BR>.<BR>الخ.<BR>ولو ارتفع الإنسان فى الفضاء فإنه سوف يمر بطبقات جوية تختلف خصائصها ومميزاتها بعضها عن بعض، فهو يشاهد السماء تأخذ فى الزرقة الشديدة شيئًا فشيئًا حتى إذا ما بلغ عتبة الفضاء الخارجى الخالية من المواد التى يتألف منها الغلاف الجوى والأتربة العالقة به بدت له السماء معتمة كأنها ليل على الرغم من وجود الشمس فوق الأفق، والخلاصة أن هناك سموات متطابقة فى هيئة قباب تختلف فى خصائصها وألوانها وتمتد إلى أقصى أعماق الفضاء وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التى تتجلى فى خلقه كل ما فى السموات والأرض.<BR>وضوء النهار يتطلب سقوط الأشعة الشمسية على ذرات من الغلاف الجوى الذى يحمل جسيمات من الغبار بكميات متفاوتة، وضوء النهار يبلغ من الشدة حدًا بحيث يحجب الأضواء الخافتة المنبعثة من النجوم أو من احتكاك الشهب والنيازك بالغلاف الجوى.<BR>وعندما تختفى أشعة الشمس تحت الأفق بمسافات بعيدة فإن أضواء النجوم الخافتة تظهر لبعدها الشاسع عنا قليلة التأثير على الغلاف الجوى بحيث لا تحدث نورًا يشبه نور النهار.<BR>وينشأ تعاقب الليل والنهار من دوران الأرض حول محورها ومرجع التفاوت الزمنى بين الليل والنهار هو دورة الأرض حول الشمس وميل محورها عن مستوى مدارها فتختلف الفترات الزمنية باختلاف الفصول وعروض البلاد.<BR>ومن حكمته - جلت قدرته - إن التعاقب بين الليل والنهار وتراوحهما على فترات قصيرة يؤدى إلى اعتدال فى درجة الحرارة والمناخ ويهيئ البيئة الصالحة للحياة والإحياء، ولهذا فإن اللون الأحمر يظهر بسبب التشعب الناجم عن الغبار الحجمى.
وشأن أولى الألباب أنهم يستحضرون فى نفوسهم عظمة الله وجلاله فى كل مكان، قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم، ويتدبرون فى خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب قائلين: ربنا ما خلقت هذا إلا لحكمة قدَّرتها وأنت منزه عن النقص، بل خلقته دليلاً على قدرتك، وعنوانًا لبالغ حكمتك، فاحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا إلى طاعتك.
يا خالقنا والقائم على أمورنا، والحافظ لنا إن من يستحق النار وتدخله فيها فقد أخزيته، وليس للظالم الذى استحق النار من نصير يمنعه منها.
يا خالقنا والقائم على أمورنا، والحافظ لنا إننا سمعنا رسولك يدعو إلى الإيمان بك فأطعناه وآمنا به، ربنا اغفر لنا كبائر ذنوبنا وامح عنا صغائر سيئاتنا، واجعلنا بعد وفاتنا مع عبادك الأخيار.
يا خالقنا، والقائم على أمورنا، والحافظ لنا، أعطنا الذى وعدتنا على ألسنة رسلك من نصر وتأييد فى الدنيا، ولا تدخلنا النار فتخزنا - يوم القيامة - فشأنك ألا تخلف الميعاد.
فأجاب ربهم دعاءهم، مبينًا لهم أنه لا يضيع على عامل منهم ثواب عمله، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، فالأنثى من الذكر، والذكر من الأنثى.<BR>فالذين هاجروا يريدون وجه الله وأخرجوا من ديارهم، ونالهم الأذى فى سبيل الله وقاتلوا وتعرضوا للقتل، وقتل منهم من قتل، كتب الله على نفسه أنه سيمحو عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاءً كريمًا عاليًا من عند الله، والله - وحده - عنده الثواب الحسن الجميل.
لا تتأثر - أيها النبى - بما ترى فيه الذين كفروا من تقلب فى النعيم والتصرف فى التجارة والمكاسب.
فإن ذلك متاع زائل، وكل زائل قليل، ثم يكون المأوى الذى ينتهون إليه جهنم، وبئس منزلا جهنم.
ذلك جزاء الكافرين، أما الذين آمنوا وخافوا ربهم فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار مخلدين فيها، نازلين فى كرم الله سبحانه وما عند الله خير للأبرار مما يتقلب فيه الكافرون من متاع زائل.
إن بعض أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على محمد وبما أنزل على الرسل من قبله، تراهم خاضعين لله ضارعين إليه، لا يستبدلون بالبينات الظاهرة عرضًا من أعراض الدنيا مهما عظم فهو قليل، هؤلاء لهم الجزاء الأوفى فى دار الرضوان عند ربهم والله سريع الحساب لا يعجزه إحصاء أعمالهم ومحاسبتهم عليها، وهو قادر على ذلك وجزاؤه نازل بهم لا محالة.
يا أيها المؤمنون تمسكوا بالصبر، وغالبوا أعداءكم به، ولازموا الثغور لحمايتها، وخافوا ربكم، ففى كل ذلك رجاء فلاحكم.