1- " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض " أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها. " وجعل الظلمات والنور " أنشأهما، والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين، ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن بالظلمة الضلال، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد، وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات . ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيهاً على أنه خلق هذه الأشياء أسباباً لتكونهم وتعيشهم، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر، أو على قوله خلق على معنى أنه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. ومعنى ثم: عدو لهم بعد هذا البيان، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل، وعلى الثاني متعلقة ب " يعدلون " والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى.
2- " هو الذي خلقكم من طين " أي ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه، أو خلق أباكم فحذف المضاف. " ثم قضى أجلا " أجل الموت. " وأجل مسمى عنده " أجل القيامة. وقيل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها. وقيل الأول النوم والثاني الموت. وقيل الأول لمن بقي ولمن يأتي، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغيير، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه. " ثم أنتم تمترون " استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت انه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن من قدر على خل المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً ، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث،والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع.
3- " وهو الله " الضمير لله سبحانه وتعالى و " الله " خبره. " في السموات وفي الأرض " متعلق باسم " الله " والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير، كقوله سبحانه وتعالى: " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " أو بقوله: " يعلم سركم وجهركم " والجملة خبر ثان، أو هي الخبر و " الله " بدل، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبراً ، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقاً بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه." ويعلم ما تكسبون " من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أريد بالسر والجهر مما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح .
4- " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم " " من " الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض، أي: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن. " إلا كانوا عنها معرضين " تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه .
5- " فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " يعني القرآن وهو كاللازم ما قبله كأنه قيل: إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم ، أو كدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره، ولذلك رتب عليه بالفاء. " فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة، أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.
6- " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن " أي من أهل زمان، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة. وقيل ثمانون . وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم. قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت. " مكناهم في الأرض " جعلنا لهم فيها مكاناً وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها. " ما لم نمكن لكم "ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب . " وأرسلنا السماء عليهم " أي المطر أو ا لسحاب، أو المظلة إن مبدأ المطر منها. " مدراراً " أي مغزاراً . " وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم " فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. " فأهلكناهم بذنوبهم " أي لم يغن ذلك عنهم شيئاً . " وأنشأنا " وأحدثنا. " من بعدهم قرناً آخرين " بدلاً منهم، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم .
7- " ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس " مكتوباً في ورق. " فلمسوه بأيديهم " فمسوه، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله: " وأنا لمسنا السماء " " لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " تعنتاً وعناداً .
8- " وقالوا لولا أنزل عليه ملك " هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله: " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ". " ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر " جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم. " ثم لا ينظرون " بعد نزوله طرفة عين .
9- " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون " جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك، وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. والمعنى ولو جعلنا قريناً لك ملكاً يعاينوه أو الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم. وقرئ (لبسنا) بلام واحدة و (لبسنا) بالتشديد للمبالغة .
10- " ولقد استهزئ برسل من قبلك " تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يرى من قومه. " فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله، أو فنزل بهم وبال استهزائهم.
11- " قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا، والفرق بينه وبين وقوله: " قل سيروا في الأرض فانظروا " أن السير ثمت لأجل النظر ولا كذلك ها هنا ، ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين .
12- " قل لمن ما في السموات والأرض " خلقاً وملكاً ، وهو سؤال تبكيت " قل لله " تقريراً لهم وتنبيهاً على أنه المتعين للجواب بالإنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره . " كتب على نفسه الرحمة " التزامها تفضلاً وإحساناً والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم . أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في. وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم. " لا ريب فيه " في اليوم أو الجمع. " الذين خسروا أنفسهم " بتضييع رأس مالهم . وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر. " فهم لا يؤمنون " والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان .
13-" وله " عطف على الله . " ما سكن في الليل والنهار " من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " والمعنى ما اشتملا عليه، أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحريك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. " وهو السميع " لكل مسموع. " العليم " بكل معلوم فلا عليه شيء، ويجوز أن يكون وعيداً للمشركين على أقوالهم وأفعالهم
14- " قل أغير الله أتخذ ولياً " إنكار لاتخاذ غير الله ولياً لا لاتخاذ الولي. فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك. " فاطر السموات والأرض " مبدعهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأتها. وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ ( فطر ) وقرئ بالرفع والنصب على المدح." وهو يطعم ولا يطعم " يرزق ولا يرزق، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله، والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية، وببنائهما لفاعل على أن الثاني من انعم بمعنى استطعم أو على معنى أنه يطعم ولا يطعم أخرى كقوله: " يقبض ويبسط ". " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الدين. " ولا تكونن من المشركين " وقيل لي ولا تكونن، ويجوز عطفه على قل.
15- " قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة.
16- " من يصرف عنه يومئذ " أي بصرف العذاب عنه. وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم " يصرف " على أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى . وقد قرئ بإطهاره والمفعول به محذوف ، أو يومئذ بحذف المضاف. " فقد رحمه " نجاه وأنعم عليه." وذلك الفوز المبين " أي الصرف أو الرحمة.
17- " وإن يمسسك الله بضر " ببلية كمرض وفقر . " فلا كاشف له " فلا قادر على كشفه. " إلا هو وإن يمسسك بخير " بنعمة كصحة وغنى . " فهو على كل شيء قدير " فكان قادراً على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى: " فلا راد لفضله ".
18- " وهو القاهر فوق عباده " تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة. " وهو الحكيم " في أمره وتدبيره." الخبير " بالعباد وخفايا أحوالهم .
19- " قل أي شيء أكبر شهادةً " نزلت حين قالت قريش: يا محمدج لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله . والشيء يقع على كل موجود ، وقد سبق القول فيه في سورة (البقرة) " قل الله " أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ " شهيد بيني وبينكم " أي هو شهيد بيني وبينكم، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة. " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به " أي بالقرآن، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. " ومن بلغ " عطف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. " أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى " تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. " قل لا أشهد " بما تشهدون. " قل إنما هو إله واحد " أي بل أشهد أن لا إله إلا الله. " وإنني بريء مما تشركون " يعني الأصنام.
20- " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه " يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل. " كما يعرفون أبناءهم " بحلاهم . " الذين خسروا أنفسهم " من أهل الكتاب والمشركين . " فهم لا يؤمنون " لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.
21- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً " كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله . " أو كذب بآياته " كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحراً. وإنما ذكر (أو) وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. " إنه " الضمير للشأن. " لا يفلح الظالمون " فضلاً عمن لا أحد أظلم منه.
22- " ويوم نحشرهم جميعاً " منصوب بمضمر تهويلاً للأمر. " ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم " أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله، وقرأ يعقوب (يحشرهم) ويقول بالباء. " الذين كنتم تزعمون " أي تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها. ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم .
23- " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " أي كفرهم، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها، من فتنت الذهب إذا خلصته. وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب، أو لأنهم قصدوا به الخلاص. وقرأ ابن كثير. و ابن عامر و حفص عن عاصم " لم تكن " بالتاء و " فتنتهم " بالرفع على أنها الاسم، و نافع و أبو عمر و أبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم " أن قالوا "، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب. " والله ربنا ما كنا مشركين " يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة، كما يقولون: " ربنا أخرجنا منها ". وقد أيقنوا بالخلود. وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله.
24- " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " أي بنفي الشرك عنها، وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله: " يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم " وقرأ حمزة و الكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح. " وضل عنهم ما كانوا يفترون " من الشركاء .
25- " ومنهم من يستمع إليك " حين تتلو القرآن، والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول، فقال، والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان إني لأرى حقاً فقال أبو جهل كلا. " وجعلنا على قلوبهم أكنة " أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء. " أن يفقهوه " كراهة أن يفقهوه. " وفي آذانهم وقرا " يمنع من استماعه، وقد مر تحقيق ذلك في أول (البقرة ) " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها "لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. " حتى إذا جاؤوك يجادلونك " أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤوا يجادلونك، وحتى هي التي نقع بعدها الجمل لا عمل لها، والجملة إذا وجوابه وهو " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب، ويجادلونك حال لمجيئهم، ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاؤوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له، والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر، وأصله ا لسطر بمعنى الخط .
26-" وهم ينهون عنه " أي ينهون الناس عن القرآن، أو الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به . " وينأون عنه " بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب. " وإن يهلكون " وما يهلكون بذلك. "إلا أنفسهم وما يشعرون " أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم .
27- " ولو ترى إذ وقفوا على النار " جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها، أو يطلعون عليها، أو يدخلوها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمراً شنيعاً. وقرئ " وقفوا "على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفاً ." فقالوا يا ليتنا نرد " تمنياً للرجوع إلى الدنيا. " ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم: دعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تركتني، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني، وقوله: " وإنهم لكاذبون " راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد، ونصبهما حمزة و يعقوب و حفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب ا لثاني على الجواب .
28- " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني، والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم ، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردوا لآمنوا . " ولو ردوا " أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور. " لعادوا لما نهوا عنه " من الكفر والمعاصي، " وإنهم لكاذبون " فيما وعدوا به من أنفسهم .
29-" وقالوا"عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه فلي الدنيا "إن هي إلا حياتنا الدنيا " الضمير للحياة " وما نحن بمبعوثين ".
30- " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم " مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ، وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف. " قال أليس هذا بالحق " كأنه جواب قائل قال: ماذا قال ربهم حينئذ ؟ والهمزة للتقريع على التكذيب، والإشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب. " قالوا بلى وربنا " إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. " قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " بسبب كفركم أو ببدله .
31- " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " إذ فاتهم النعم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه. " حتى إذا جاءتهم الساعة " غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. " بغتة " فجأة ونصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. " قالوا يا حسرتنا "أي تعالي فهذا أوانك." على ما فرطنا " قصرنا " فيها " في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها والإيمان بها. " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. " ألا ساء ما يزرون " بئس شيئاً يزرونه وزرهم.
32- " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية. وهو جواب لقولهم " إن هي إلا حياتنا الدنيا ". " وللدار الآخرة خير للذين يتقون " لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها، وقوله: " للذين يتقون "تنبيه على ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عامر (ولدار الآخرة)." أفلا تعقلون " أي الأمر خير. وقرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به ، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.
33- " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله: ولكنه قد يهلك المال نائله والهاء في أنه للشأن. وقرئ " ليحزنك " من أحزن " فإنهم لا يكذبونك " في الحقيقة. وقرأ نافع و الكسائي " لا يكذبونك " من أكذبه إذا وجده كاذباً، أو نسبه إلى الكذب. " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمن الجحود معنى التكذيب. روى أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.
34- " ولقد كذبت رسل من قبلك " تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن قوله: " لا يكذبونك "، ليس تكذيبه مطلقاً. " فصبروا على ما كذبوا وأوذوا " على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر. " حتى أتاهم نصرنا " فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. " ولا مبدل لكلمات الله " لمواعيده من قوله: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " الآيات. " ولقد جاءك من نبإ المرسلين " أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم.
35- " وإن كان كبر عليك " عظم وشق. " إعراضهم " عنك وعن الإيمان بما جئت به . " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية " منفذاً تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعداً تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، وفي الأرض صفة لنفقاً وفي السماء صفة لسلماً، ويجوز أن يكون متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل ، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه،وأنه قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة." فلا تكونن من الجاهلين " بالحرص على ما لا يكون، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.
36 " إنما يستجيب الذين يسمعون " إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله تعالى : " أو ألقى السمع وهو شهيد " وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون . " والموتى يبعثهم الله " فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان . " ثم إليه يرجعون " للجزاء .
37" وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه " أي آية بما اقترحوه ، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا . " قل إن الله قادر على أن ينزل آية " مما اقترحوه ، أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل ، أو آية إن جحدوها هلكوا . " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أن الله قادر على إنزالها ، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء ، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره ، وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى واحد . [نائل1] [نائل1]
38 " وما من دابة في الأرض " تدب على وجهها . " ولا طائر يطير بجناحيه " في الهواء وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها . وقرئ ولا طائر بالرفع على المحل . " إلا أمم أمثالكم " محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها ، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية . وجمع الأمم للحمل على المعنى . " ما فرطنا في الكتاب من شيء " يعني اللوح المحفوظ ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر ، حيوان ولا جماد . أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به ، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب . وقرئ "ما فرطنا " بالتخفيف . " ثم إلى ربهم يحشرون " يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي : أنه يأخذ للجماء من القرناء . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشرها موتها .
39 " والذين كذبوا بآياتنا صم " لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم . " وبكم " لا ينطقون بالحق . " في الظلمات " خير ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر ، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد ، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في الخبر " من يشإ الله يضلله " من يشأ الله إضلاله يضلله ، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة . " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه .
40 " قل أرأيتكم " استفهام تعجيب ، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولا كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل ، وللزم في الآية أن يقال : أرأيتكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم . إذ تدعونها . وقرأ نافع أرأيتكم وأرأيت وأرأيتم وأفرأيتم وأفرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء و الكسائي يحذفها أصلاً والباقون يحققونها و حمزة إذا وقف وافق نافعا . " إن أتاكم عذاب الله " كما أتى من قبلكم . " أو أتتكم الساعة " وهو لها ويدل عليه . " أغير الله تدعون " وهو تبكيت لهم . " إن كنتم صادقين " أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه .
41 " بل إياه تدعون " بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع ، وتقديم المفعول لإفادة التخصيص . " فيكشف ما تدعون إليه " أي ما تدعونه إلى كشفه . " إن شاء " أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة . " وتنسون ما تشركون " وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره ، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله .
42 " ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك " أي قبلك ، ومن زائدة . " فأخذناهم " أي فكفروا وكذبوا المرسلين فأخذناهم . " بالبأساء " بالشدة والفقر . " والضراء " والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما " لعلهم يتضرعون " يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم .
43 " فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا . " ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه : لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم .
44 " فلما نسوا ما ذكروا به " من البأساء والضراء ولم يتعظوا به . " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء ، وامتحانا لهم بالشدة والرخاء إلزاما للحجة وإزاحة للعلة ، أو مكرا بهم لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " مكر بالقوم ورب الكعبة " وقرأ ابن عامر " فتحنا " بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في الأعراف . " حتى إذا فرحوا " أعجبوا " بما أوتوا " من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى . " أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " متحسرون آيسون .
45 " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبراً ودبوراً إذا تبعه . " والحمد لله رب العالمين " على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم ، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها .
46 " قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم " أصمكم وأعماكم " وختم على قلوبكم " بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم . " من إله غير الله يأتيكم به " أي بذلك ، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات . " انظر كيف نصرف الآيات " نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين . " ثم هم يصدفون " يعرضون عنها ، وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها .
47 " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً" من غير مقدمة . " أو جهرةً " بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله . وقيل ليلاً أو نهاراً . وقرئ " بغتة أو جهرة " . " هل يهلك " أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب . " إلا القوم الظالمون " ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه ، وقرئ " يهلك " بفتح الياء .
48 " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين " المؤمنين بالجنة . " ومنذرين " الكافرين بالنار ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم . " فمن آمن وأصلح " ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم . " فلا خوف عليهم " من العذاب " ولا هم يحزنون " بفوات الثواب .
49 " والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب " جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم ، واستغنى بتعريفه عن التوصيف . " بما كانوا يفسقون " بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة .
50 " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله " مقدوراته أو خزائن رزقه " ولا أعلم الغيب " ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول . " ولا أقول لكم إني ملك " أي من جنس الملائكة ، أو أقدر على ما يقدرون عليه . " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية ، وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر رداً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه . " قل هل يستوي الأعمى والبصير " مثل للضال والمهتدي ، أو الجاهل والعالم ، أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة . " أفلا تتفكرون " فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل ، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه .
51 " وأنذر به " الضمير لما يوحى إلي . " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " هم المؤمنون المفرطون في العمل ، أو المجوزون للحشر مؤمنًا كان أو كافرًا مقرًا به أو متردداً فيه ، فإن الإنذار ينفع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته . " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة . " لعلهم يتقون " لكي يتقوا .
52 " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش . روي أنهم قالوا : "لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان ـ جلسنا إليك وحادثناك فقال : ما أنا بطارد المؤمنين ، قالوا : فأقمهم عنا إذا جئناك قال : نعم " وروي أن عمر رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت . والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، وقيل صلاتًا الصبح والعصر . وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف . " يريدون وجهه " حال من يدعون ، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر . ورتب النهي عليه إشعاراً بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم . " ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء " أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعاً في إيمانهم لو آمنوا ، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم . وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي فقرهم . وقيل الضمير للمشركين والمعنى : لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه . " فتطردهم " فتبعدهم وهو جواب النفي . " فتكون من الظالمين " جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر .
53 " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . " فتنا " أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهو المساكين والضعفاء . وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : " لو كان خيراً ما سبقونا إليه " واللام للعاقبة أو التعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا " أليس الله بأعلم بالشاكرين " بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله .
54 " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره أن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم ، إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة ، وقيل إن قومًا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا فلم يرد عليهم شيئًا فانصرفوا فنزلت :" أنه من عمل منكم سوءا " استئناف بتفسير الرحمة . وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها . " بجهالة " في موضع الحال أي من عمل ذنبًا جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد ،كعمر فيما أشار إليه ، أو ملتبسًا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل . " ثم تاب من بعده " بعد العمل أو السوء . "وأصلح " بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه . " فأنه غفور رحيم " فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه .
55 " وكذلك " ومثل ذلك التفصيل الواضح " نفصل الآيات " أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين . " ولتستبين سبيل المجرمين " قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل ، و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم ، والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث ، ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين .
56 " قل إني نهيت " صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد . " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " عن عبادة ما تعبدون من دون الله ، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها . " قل لا أتبع أهواءكم " تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم ، وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس يهدي ، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد . " قد ضللت إذاً " أي اتبعت أهواءكم فقد ضللت " وما أنا من المهتدين " أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم ، وفيه تعريض بأنهم كذلك .
57 " قل إني على بينة " تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه . والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي ، أو الحجج العقلية أو ما يعمها . " من ربي " من معرفته وأنه لا معبود سواه ، ويجوز أن يكون صفة لبينة ." وكذبتم به " الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره ، أو للبينة باعتبار المعنى . " ما عندي ما تستعجلون به " يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم :" فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " . " إن الحكم إلا لله " في تعجيل العذاب وتأخيره . " يقص الحق " أي القضاء الحق، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها ، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر ، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل . وقرأ ابن كثير و نافع و عاصم يقص من قص الأثر ، أو من قص الخبر . " وهو خير الفاصلين " القاضين .
58 " قل لو أن عندي " أي في قدرتي ومكنتي " ما تستعجلون به " من العذاب " لقضي الأمر بيني وبينكم " لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي ، وانقطع ما بيني وبينكم . " والله أعلم بالظالمين " في معنى الاستدراك كأنه قال : ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم .
59 " وعنده مفاتح الغيب " خزائنه جمع مفتح الميم ، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده أنه قرئ مفاتيح والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها . " لا يعلمها إلا هو " فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها . " ويعلم ما في البر والبحر " عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات " ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس " معطوفات على ورقة وقوله "إلا في كتاب مبين " بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى ، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر " إلا في كتاب مبين "
60 " وهو الذي يتوفاكم بالليل " ينيمكم فيه ويراقبكم ، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه . " ويعلم ما جرحتم بالنهار " كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريًا على المعتاد . " ثم يبعثكم " يوقظكم أطلق البعث ترشيحاً للتوفي " فيه " في النهار . " ليقضى أجل مسمى " ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا " ثم إليه مرجعكم " بالموت . " ثم ينبئكم بما كنتم تعملون " بالمجازاة عليه . وقيل الآية خطاب للكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار ، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ، ثم إليه مرجعكم بالحساب ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء .
61 " وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة " ملائكة تحفظ أعملكم ، وهم الكرام الكاتبون ، والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي ، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمة المطلعين عليه . " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " ملك الموت وأعوانه . وقرأ حمزة توفاه بالألف ممالة . " وهم لا يفرطون " بالتواني والتأخير . وقرئ بالتخفيف . المعنى : لا يجازون ما حد لهم بزيادة أو نقصان .
62 " ثم ردوا إلى الله " إلى حكمه وجزائه . " مولاهم " الذي يتولى أمرهم " الحق " العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح . " ألا له الحكم " يومئذ لا حكم لغيره فيه . " وهو أسرع الحاسبين " يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب .
63 " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر " من شدائدهما ، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أو من الخسف في البر و الغرق في البحر . وقرأ يعقوب " ينجيكم " بالتخفيف والمعنى واحد . " تدعونه تضرعا وخفية " معلنين ومسرين . أو إعلانًا وإسراراً وقرأ أبو بكر هنا وفي الأعراف " وخفية " بالكسر وقرئ " خيفة " . " لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين " على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا . وقرأ الكوفيون لئن أنجانا ليوافق قوله " تدعونه " وهذه إشارة إلى الظلمة .
64 " قل الله ينجيكم منها " شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون . " ومن كل كرب " غم سواها . " ثم أنتم تشركون " تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد ، وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيهًا على أن من أشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعيده رأسًا .
65 " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم " كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل . " أو من تحت أرجلكم " كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون . وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم . " أو يلبسكم " يخلطكم . " شيعًا " فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم قال : وكتيبة لبستهــا بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي " ويذيق بعضكم بأس بعض " يقاتل بعضكم بعضا . " انظر كيف نصرف الآيات " بالوعد والوعيد . " لعلهم يفقهون "
66 " وكذب به قومك " أي بالعذاب أو بالقرآن . " وهو الحق " الواقع لا محالة أو الصدق . " قل لست عليكم بوكيل " بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب ، أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ .
67 " لكل نبإ " خبر يريد به إما بالعذاب أو الإيعاد به " مستقر " وقت استقرار ووقوع . " وسوف تعلمون " عند وقوعه في الدنيا والآخرة .
68 " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها . " فأعرض عنهم " فلا تجالسهم وقم عنهم . " حتى يخوضوا في حديث غيره " أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن . " وإما ينسينك الشيطان " بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي . وقرأ ابن عامر " ينسينك " بالتشديد . " فلا تقعد بعد الذكرى " بعد أن تذكره . " مع القوم الظالمين " أي معهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام .
69 " وما على الذين يتقون " وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم . " من حسابهم من شيء " شيء مما يحاسبون عليه . " ولكن ذكرى " ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع ولكن عليهم ذكرى ، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإثبات . " لعلهم يتقون " يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم ، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى : لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم ، وروي : أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، ونطوف فنزلت .
70 " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا أو آجلا ، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعبا ولهوا حيث سخروا به ، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب . والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ، ويجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى : " وغرتهم الحياة الدنيا " حتى أنكروا البعث . " وذكر به " أي بالقرآن " أن تبسل نفس بما كسبت " مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها . وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه ، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام . " ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع " يدفع عنها العذاب . " وإن تعدل كل عدل " وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية . " لا يؤخذ منها " الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله : " ولا يؤخذ منها عدل " فإنه المفدى به . " أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا " أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة . " لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " تأكيد وتفصيل لذلك ، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم .
71 " قل أندعو " أنعبد " من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا " ما لا يقدر على نفعنا وضرنا . " ونرد على أعقابنا " ونرجع إلى الشرك " بعد إذ هدانا الله " فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام " كالذي استهوته الشياطين " كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة ، استفعال من هوى يهوي هويًا إذا ذهب . وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل " نرد " أي : مشبهين الذي استهوته ، أو على المصدر أي رداً مثل رد الذي استهوته . " في الأرض حيران " متحيرا ضالا عن الطريق . " له أصحاب " لهذا المستهوى رفقة " يدعونه إلى الهدى " إلى أن يهدوه الطريق المستقيم ، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر ، " ائتنا " يقولون له ائتنا " قل إن هدى الله " الذي هو الإسلام " هو الهدى " وحده وما عداه ضلال ، " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " من جملة المقول عطف على أن هدى الله ، واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم . وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة .
72 " وأن أقيموا الصلاة واتقوه " عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة ، أو على موقعه كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة . روي : أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان ، فنزلت . وعلى هذا كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله عنه تعظيما لشأنه وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما . " وهو الذي إليه تحشرون " يوم القيامة .
73 " وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق "قائما بالحق والحكمة ، " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق " جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول ، كقولك : القتال يوم الجمعة ، والمعنى أنه الخالق للسماوات والأرضين ، وقوله الحق نافذ في الكائنات . وقيل يوم منصوب بالعطف على السماوات أو الهاء في واتقوه ، أو بمحذوف دل عليه بالحق ، وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون ، والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها " وله الملك يوم ينفخ في الصور " كقوله سبحانه وتعالى : " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " " عالم الغيب والشهادة " أي هو عالم الغيب " وهو الحكيم الخبير " كالفذلكة للآية .
74 " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " هو عطف بيان لأبيه ، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل و يعقوب ، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج ، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنة أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر ، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته ، أو أطلق عليه بحذف المضاف . وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال : " أتتخذ أصنامًا آلهة " تفسيرًا وتقريرًا . ويدل عليه أنه قرئ أزرًا تتخذ أصناما بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم . وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم . " إني أراك وقومك في ضلال " عن الحق " مبين " ظاهر الضلالة .
75 " وكذلك نري إبراهيم " ومثل هذا التبصير نبصره ، وهو حكاية حال ماضية . وقرئ : ترى بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية . " ملكوت السموات والأرض " ربوبيتها وملكها ، وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة . " وليكون من الموقنين " أي ليستدل وليكون ، أو وفعلنا ذلك ليكون .
76 " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " تفصيل وبيان لذلك . وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال . وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهزة أو المشتري وقوله : " هذا ربي " على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد ، أو على وجه النظر والاستدلال ، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه . " فلما أفل " أي غاب ، " قال لا أحب الأفلين " فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمان والحدوث وينافي الألوهية .
77 " فلما رأى القمر بازغا " مبتدئا في الطلوع " قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق ، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية ، وأن من اتخذه إلها فهو ضال .
78 " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث . " هذا أكبر " كبره استدلالا أو إظهارا لشبهة الخصم . " فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون " من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تخص به ، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال :
79 " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " وإنما احتج بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال لتعدد دلالته ، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال .
80 " وحاجه قومه " وخاصموه في التوحيد " قال أتحاجوني في الله " في وحدانيته سبحانه وتعالى . وقرأ نافع و ابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون . " وقد هدان " إلى توحيده . " ولا أخاف ما تشركون به " أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع . " إلا أن يشاء ربي شيئاً " أن يصيبني بمكروه من جهتها ، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله . " وسع ربي كل شيء علما " كأنه علة الاستثناء ، أي أحاط به علما فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها . " أفلا تتذكرون " فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز .
81 " وكيف أخاف ما أشركتم " ولا يتعلق به ضر . " ولا تخافون أنكم أشركتم بالله " وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع ، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع . " ما لم ينزل به عليكم سلطانا " ما لم ينزل بإشراكه كتابا ، أو لم ينصب عليه دليلا ، " فأي الفريقين أحق بالأمن " أي الموحدون أو المشركون ، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازًا من تزكية نفسه . " إن كنتم تعلمون " ما يحق أن يخاف منه .
82 " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه ، والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما روي "أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا : أينا لا يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به . وقيل المعصية .
83 " وتلك " إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله : " فلما جن عليه الليل " إلى قوله " وهم مهتدون " أو من قوله : " أتحاجوني " إليه . " حجتنا آتيناها إبراهيم " أرشدناه إليها أو علمناه إياها . " على قومه " متعلق بقوله:"حجتنا " إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي : آتيناها إبراهيم حجة على قومه " نرفع درجات من نشاء " في العلم والحكمة . وقرأ الكوفيون و يعقوب بالتنوين . " إن ربك حكيم " في رفعه وخفضه : " عليم " بحال من يرفعه واستعداده له .
84 " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا " أي كلا منهما . " ونوحا هدينا من قبل " من قبل إبراهيم ، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد . " ومن ذريته " الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه . وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا . " داود وسليمان وأيوب " أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق . " ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم .
85 " وزكريا ويحيى وعيسى " هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت . " وإلياس " قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى . وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى . " كل من الصالحين " الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي .
86 " إسماعيل واليسع " هو الليسع بن أخطوب . وقرأ حمزة و الكسائي والليسع وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله " ويونس " هو يونس بن متى " ولوطا " هو ابن هاران أخي إبراهيم . " وكلا فضلنا على العالمين " بالنبوة ، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق .
87 " ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم " عطف على " كلا " أو " نوحا " أي فضلنا كلا منهم ، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا . " واجتبيناهم " عطف على " فضلنا " أو " هدينا " " وهديناهم إلى صراط مستقيم " تكرير لبيان ما هدوا إليه .
88 " ذلك هدى الله " إشارة إلى ما دانوا به " يهدي به من يشاء من عباده " دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية . " ولو أشركوا " أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم " لحبط عنهم ما كانوا يعملون " لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها .
89 " أولئك الذين آتيناهم الكتاب " يريد به الجنس . " والحكم " الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق . "والنبوة " والرسالة " فإن يكفر بها " أي بهذه الثلاثة . " هؤلاء " يعني قريشا " فقد وكلنا بها " أي بمراعاتها : " قومًا ليسوا بها بكافرين " وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم . وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أو كل من آمن به أو الفرس وقيل الملائكة .
90 " أولئك الذين هدى الله " يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم . " فبهداهم اقتده " فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها ، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعا . فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله ، والهاء في " اقتده " للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير و نافع وأبي عمرو و عاصم أجرى الوصل مجرى الوقف ، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة و الكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام " قل لا أسألكم عليه " أي على التبليغ أو القرآن " أجرا " جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين ، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه . " إن هو " أي التبليغ أو القرآن أو الغرض . " إلا ذكرى للعالمين " إلا تذكيرا وموعظة لهم .
91 " وما قدروا الله حق قدره " وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد . " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة ' والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم ، وإلزامهم بقوله : " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " وقراءة الجمهور " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا ، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه . وروي " أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال : نعم إن الله يبغض الحبر السمين ، قال عليه الصلاة والسلام : فأنت الحبر السمين " وقيل هم المشركين وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون : " لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " و" علمتم " على لسان محمد صلى الله عليه وسلم . " ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " وقيل الخطاب لمن آمن من قريش " قل الله " أي أنزله الله ، أو الله أنزله . أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب . " ثم ذرهم في خوضهم " في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة " يلعبون " حال من هم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله ، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول .
92 " وهذا كتاب أنزلناه مبارك " كثير الفائدة والنفع . " مصدق الذي بين يديه " يعني التوراة أو الكتب التي قبله . " ولتنذر أم القرى " عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه ، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا . وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء ولينذر الكتاب " ومن حولها " أهل الشرق والغرب " والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون " فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب ، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان .
93 " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " فزعم أنه بعثه نبيا كمسيلمة والأسود العنسي ، أو اختلق عليه أحكاما كعمرو بن لحي ومتابعيه . " أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " كعبد الله بن أبي سرح " كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلت " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " فلما بلغ قوله : " ثم أنشأناه خلقا آخر " قال عبد الله فتبارك الله أحسن الخالقين تعجبا من تفصيل خلق الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام : اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال " " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا . " ولو ترى إذ الظالمون " حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين . " في غمرات الموت " شدائده من غمره الماء إذا غشيه . " والملائكة باسطوا أيديهم " بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب . " أخرجوا أنفسكم " أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظا وتعنيفا عليهم ، أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا . " اليوم " يريدون وقت الإماتة ، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له . " تجزون عذاب الهون " أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة ، فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه . " بما كنتم تقولون على الله غير الحق " كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا . " وكنتم عن آياته تستكبرون " فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون .
94 " ولقد جئتمونا " للحساب والجزاء " فرادى " منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى . وقرئ فراد كرجال وفراد كثلاث وفردى كسكرى . " كما خلقناكم أول مرة " بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في " فرادى " أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر " جئتمونا " أي مجيئنا كما خلقناكم . " وتركتم ما خولناكم " ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . " وراء ظهوركم " ما قدمتم منه شيئا ولم تحتملوا نقيرا : " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء " أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم " لقد تقطع بينكم " أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل . وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع و الكسائي و حفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به :" وضل عنكم " ضاع وبطل : " ما كنتم تزعمون " أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء .
95 " إن الله فالق الحب والنوى " بالنبات والشجر . وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة . " يخرج الحي " يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله " من الميت " مما لا ينمو كالنطف والحب . " ومخرج الميت من الحي " ومخرج ذلك من الحيوان والنبات ، ذكره بلفظ الاسم حملا على فالق الحب فإن قوله :يخرج الحي واقع موقع البيان له . " ذلكم الله " أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة . " فأنى تؤفكون " تصرفون عنه إلى غيره .
96 " فالق الإصباح " شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار ، أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح ، وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ " فالق الإصباح " بالنصب على المدح " وجعل الليل سكنا " يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناسا به ، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى " لتسكنوا فيه " ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به ، فإن في معنى الماضي . ويدل عليه قراءة الكوفيين " وجعل الليل " حملا على معنى المعطوف عليه ، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به ، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون " والشمس والقمر " عطفا على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما يجعل مقدرا . وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان." حسبانا " أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان ، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب . وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان . " ذلك " إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك التيسير بالحساب المعلوم . " تقدير العزيز "الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص . " العليم " بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما .
97 " وهو الذي جعل لكم النجوم " خلقها لكم . " لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر " في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة ، وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم . " قد فصلنا الآيات " بيناها فصلا فصلا . " لقوم يعلمون " فإنهم المنتفعون به .
98 " وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة " هو آدم عليه الصلاة والسلام . " فمستقر ومستودع " أي فلكم استقرار في الأصلاب ، أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام ، أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع ، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع " قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون " ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر ، ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر .
99 " وهو الذي أنزل من السماء ماء " من السحاب أو من جانب السماء . " فأخرجنا " على تلوين الخطاب . " به " بالماء " نبات كل شيء " نبت كل صنف من النبات والمعنى : إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى : " يسقى بماء واحد " ونفضل بعضها على بعض في الأكل . " فأخرجنا منه " من النبات أو الماء " خضرا " شيئا أخضر وخضر كأعور وعور ، وهو الخارج من الحبة المتشعب . " نخرج منه " من الخضر " حبا متراكبا " وهو السنبل . " ومن النخل من طلعها قنوان " أي أخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ، أو من النخل شيء من طلعها قنوان ، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو . وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع ." دانية " قريبة من المتناول ، أو متلفة قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها " وجنات من أعناب " عطف على نبات كل شيء . وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ، ولا يجوز عطفه على " قنوان " إذ العنب لا يخرج من النخل . " والزيتون والرمان " أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم . " مشتبهاً وغير متشابه " حال من الرمان ، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم . " انظروا إلى ثمره " أي ثمر كل واحد من ذلك . وقرأ حمزة و الكسائي بضم التاء والميم ، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب ، أو ثمار ككتاب وكتب . " إذا أثمر " إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به . " وينعه " وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة . وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت . وقيل جمع يانع كتاجر وتجر . وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة . " إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون " أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده ، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال .
100 " وجعلوا لله شركاء الجن " أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله . وسماهم جنا لاجتنابهم تحقيرا لشأنهم ، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع والشيطان خالق الشر وكل ضار كمما هو رأي الثنوية . ومفعول " جعلوا " " لله شركاء " والجن بدل من " شركاء " أو " شركاء " الجن و" لله " متعلق بقوله:" شركاء " أو حال منه وقرئ " الجن " بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن ، و" الجن " بالجر على الإضافة للتبيين . " وخلقهم " حال بتقدير قد ، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق ، وقرئ " وخلقهم " عطفا على " الجن " أي وما يخلقونه من الأصنام ، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه . " وخرقوا له " افتعلوا وافتروا له . وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير . وقرئ وحرفوا أي وزوروا . " بنين وبنات " فقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت العرب الملائكة بنات الله . " بغير علم " من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا ، وهو في موضع الحال من الواو ، أو المصدر أي خرقا بغير علم . " سبحانه وتعالى عما يصفون " وهو أن له شريكا أو ولدا .
101 " بديع السموات والأرض " من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، أو إلى الظرف كقولهم : ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما ، وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه ، ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره . " أنى يكون له ولد " أي من أين أو كيف يكون له ولد . " ولم تكن له صاحبة " يكون منها الولد . وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن . " وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم " لا تخفى عليه خافية ، وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول ، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : (الأول) أنه من مبدعاته السموات والأرضون ، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها ، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد . و(الثاني) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة . و(الثالث) أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين : الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه . والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع .
102 "ذلكم " إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ " الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء " أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة والبعض خبرا ، " فاعبدوه " حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة . " وهو على كل شيء وكيل " أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها .
103 " لا تدركه " أي لا تحيط به " الأبصار " جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف ، إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص ، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع . " وهو يدرك الأبصار " يحيط علمه بها " وهو اللطيف الخبير " فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها .
104 " قد جاءكم بصائر من ربكم " البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن ، سميت بها لدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به . " فمن أبصر " أي أبصر الحق وآمن به . " فلنفسه " أبصر لأن نفعه لها " ومن عمي " عن الحق وضل . " فعليها " وباله " وما أنا عليكم بحفيظ " وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها ، وهذا كلام ورد على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام .
105 " وكذلك نصرف الآيات " ومثل ذلك التصريف نصرف ،وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف ، وهو نقل الشيء من حال إلى حال . " وليقولوا درست " أي ليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة ، والدرس القراءة والتعليم . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ، و ابن عامر و يعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين . وقرئ " درست" بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت ، أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة ، ودرسن أي عنون ودرس أي درس محمد صلى الله عليه وسلم ودارسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى : " في عيشة راضية " " ولنبينه " اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى ، أو للقرآن وإن لم يذكر بكونه معلوما أو للمصدر . " لقوم يعلمون " فإنهم المنتفعون به .
106 " اتبع ما أوحي إليك من ربك " بالتدين به " لا إله إلا هو " اعتراض أكد به إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفردا في الألوهية . " وأعرض عن المشركين " ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم ، ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم .
107" ولو شاء الله " توحيدهم وعدم إشراكهم " ما أشركوا " وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع . " وما جعلناك عليهم حفيظًا " رقيبا " وما أنت عليهم بوكيل " تقوم بأمورهم .
108 " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله " أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح . " فيسبوا الله عدوا " تجاوزا عن الحق إلى الباطل " بغير علم " على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به ، وقرأ يعقوب " عدوًا" يقال عدا فلان عدوًا وعدوًا وعداء وعدوانًا . روي : " أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك " فنزلت وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله سبحانه وتعالى ، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر . " كذلك زينا لكل أمة عملهم " من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم ، والمشبه به تزيين سب الله لهم . " ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون " بالمحاسبة والمجازات عليه .
109 " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " مصدر في موقع الحال ، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها " لئن جاءتهم آية " من مقترحاتهم " ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله " هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي " وما يشعركم " وما يدريكم استفهام إنكار . " أنها "أي أن الآية المقترحة " إذا جاءت لا يؤمنون " أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون ، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب ، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و يعقوب إنها بالكسر كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعا فقال إيمانهم ، فنزلت . وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر و حمزة لا تؤمنونبالتاء وقرئ وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي : وما يشعركم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها .
110 " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " عطف على لا يؤمنون أي : وما يشعركم أنا حينئذ يقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها " كما لم يؤمنوا به " أي بما أنزل من الآيات " أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون " وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين . وقرئ ويقلب ويذرهم على الغيبة ، و تقلب على البناء للمفعول والإسناد إلى الأفئدة .
111" ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا " كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا "وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع و ابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه . " ما كانوا ليؤمنوا " لما سبق عليهم القضاء بالكفر . " إلا أن يشاء الله " استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة . " ولكن أكثرهم يجهلون " أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم .
112 " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا " أي كما جعلنا لكل نبي سبقك عدوا ، وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه " شياطين الإنس والجن " مردة الفريقين ، وهو بدل من عدوا ، أو أول مفعولي " جعلنا " و" عدوا " مفعوله الثاني ، ولكل متعلق به أو حال منه ، " يوحي بعضهم إلى بعض " يوسوس شياطين الإنس ، أو بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، " زخرف القول " الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه . " غروراً" مفعول له أو مصدر في موقع الحال . " ولو شاء ربك " إيمانهم " ما فعلوه " أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإيحاء الزخارف ، ويجوز أن يكون الضمير للإيحاء أو الزخرف أو الغرور ، وهو أيضا دليل على المعتزلة . " فذرهم وما يفترون " وكفرهم .
113" ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " عطف على " غروراً " إن جعل علة ، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك " جعلنا لكل نبي عدوًا " والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا : اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر ، والصغو : الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه " وليرضوه " لأنفسهم " وليقترفوا " وليكتسبوا " ما هم مقترفون " من الآثام .
114" أفغير الله أبتغي حكمًا " على إرادة القول أي : قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل ، وغير مفعول " أبتغي " و" حكما" حال منه ويحتمل عكسه ، و" حكما " أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل . " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب " القرآن المعجز . " مفصلاً " مبينا فيه الحق والباطل بحيث نيفي التخليط والالتباس . وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات . " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " تأييد لدلالة الإعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى ، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم ، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل . وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب . وقرأ ابن عامر و حفص عن عاصم " منزل " بالتشديد . " فلا تكونن من الممترين " في أنهم يعلمون ، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى : " ولا تكونن من المشركين " أو خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لخطاب أمته . وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه .
115" وتمت كلمة ربك " بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده " صدقاً " في الأخبار والمواعيد . " وعدلاً " في الأقضية والأحكام ونصبها يحتمل التمييز والحال والمفعول له . " لا مبدل لكلماته " لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل ، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن ، فيكون ضمانا لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله : " وإنا له لحافظون " أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها . وقرأ الكوفيون و يعقوب " كلمة ربك " أي ما تكلم به أو القرآن . " وهو السميع " لما يقولون . " العليم " بما يضمرون فلا يهملهم .
116 " وإن تطع أكثر من في الأرض " أي أكثر الناس يريد الكفار ، أو الجهال أو أتباع الهوى ، وقيل الأرض أرض مكة . " يضلوك عن سبيل الله " عن الطريق الموصل إليه ، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال . " إن يتبعون إلا الظن " وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم : " وإن هم إلا يخرصون " يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه ، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ، أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين .
117" إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " أي أعلم بالفريقين ، و"من " موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك ، أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر " يضل" والجملة معلق عنها الفعل المقدر . وقرئ " من يضل " أي يضله الله ، فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي : أعلم المضلين من قوله تعالى : " من يضلل الله " أو من أضللته إذا وجدته ضالا ، والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير .
118" فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام ، والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه . " إن كنتم بآياته مؤمنين " فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه .
119" وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه . " وقد فصل لكم ما حرم عليكم " مما لم يحرم بقوله : " حرمت عليكم الميتة " وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر " فصل " على البناء للمفعول ، و نافع و يعقوب و حفص " حرم " على البناء للفاعل " إلا ما اضطررتم إليه " مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة . " وإن كثيرا ليضلون" بتحليل الحرام وتحريم الحلال . قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح . " بأهوائهم بغير علم" بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم. " إن ربك هو أعلم بالمعتدين " بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام .
120 " وذروا ظاهر الإثم وباطنه " ما يعلن وما يسر ، أو ما بالجوارح وما بالقلب ، وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان . " إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون " يكتسبون .
121" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا ، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله ، وقال مالك و الشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة والسلام " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه " وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله : " وإنه لفسق " فإن الفسق ما أهل لغير الله به ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا . " وإن الشياطين ليوحون " ليوسوسون " إلى أوليائهم " من الكفار " ليجادلوكم " بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله ، وهو يؤيد التأويل بالميتة . " وإن أطعتموهم " في استحلال ما حرم " إنكم لمشركون " فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك ، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي .
122" أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ، وقرأ نافع و يعقوب " ميتا " على الأصل ." كمن مثله " صفته وهو مبتدأ خبره " في الظلمات " وقوله : " ليس بخارج منها " حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل ، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال ." كذلك " كما زين للمؤمنين إيمانهم . " زين للكافرين ما كانوا يعملون " والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل
123" وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها " أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيه ، و" جعلنا " بمعنى صيرنا ومفعولاه " أكابر مجرميها " على تقديم المفعول الثاني ، أو في كل قرية " أكابر "و"مجرميها " بدل ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين ، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ أكبر مجرميها وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم . " وما يمكرون إلا بأنفسهم " لأن وباله يحيق بهم . " وما يشعرون " ذلك .
124" وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " يعني كفار قريش لما روي : أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت : " الله أعلم حيث يجعل رسالته " استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه . وقرأ ابن كثير و حفص عن عاصم " رسالته " " سيصيب الذين أجرموا صغار " ذل وحقارة بعد كبرهم . " عند الله " يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله " وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم .
125" فمن يرد الله أن يهديه " يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان . " يشرح صدره للإسلام " فيتسع له وينفسح فيه مجاله ، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه ، وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه فقال : "نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ، فقالوا هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال :نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله " " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان . وقرأ ابن كثير "ضيقا " بالتخفيف و نافع و أبو بكر عن عاصم حرجا بالكسر أي شديد الضيق ، والباقون بالفتح وصفا بالمصدر . " كأنما يصعد في السماء " شبهة مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ، ونبه به على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع بالصعود . وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه ، وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير " يصعد " و أبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد . " كذلك " أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق . " يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " يجعل العذاب أو الخذلان عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل .
126" وهذا " إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن ، أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان . " صراط ربك " الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته . " مستقيمًا " لا عوج فيه ، أو عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة كقوله : " وهو الحق مصدقا " أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة " قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون " فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه ، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم .
127" لهم دار السلام " دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيما لها ، أو دار السلامة من المكارة أو دار تحيتهم فيها سلام . " عند ربهم " في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره . " وهو وليهم " مواليهم أو ناصرهم . " بما كانوا يعملون " بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم .
128" ويوم يحشرهم جميعًا " نصب بإضمار اذكر أو نقول ، والضمير لمن يحشر من الثقلين . وقرأ حفص عن عاصم وروحعن يعقوب " يحشرهم " بالياء . " يا معشر الجن " يعني الشياطين " قد استكثرتم من الإنس " أي من إغوائهم وإضلالهم ، أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود . " وقال أولياؤهم من الإنس " الذين أطاعوهم " ربنا استمتع بعضنا ببعض " أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم . وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف ، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجازتهم . " وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا " أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم . " قال النار مثواكم " منزلكم أو ذات مثواكم . " خالدين فيها " حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدرا ، ومعنى الإضافة إن جعل مكانا " إلا ما شاء الله " إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل " إلا ما شاء الله " قيل الدخول كأنه قيل : النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم " إن ربك حكيم " في أفعاله " عليم " بأعمال الثقلين وأحوالهم .
129" وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا " نكل بعضهم إلى بعض ، أو نجعل بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا . " بما كانوا يكسبون " من الكفر والمعاصي .
130" يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " الرسل من الإنس خاصة ، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم . وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى " ولوا إلى قومهم منذرين " " يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا " يعني يوم القيامة . " قالوا " جوابا " شهدنا على أنفسنا " بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب " وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم .
131" ذلك " إشارة إلى إرسال الرسل ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك " أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي : الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه ، أو ملتبسين يظلم أو ظالما وهو غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك
132" ولكل " من المكلفين " درجات " مراتب " مما عملوا " من أعمالهم أو من جزائها ، أو من أجلها " وما ربك بغافل عما يعملون " فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب . وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة .
133" وربك الغني " عن العباد والعبادة " ذو الرحمة " يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي ، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله : "إن يشأ يذهبكم " أي ما به إليكم حاجة " إن يشأ يذهبكم " أيها العصاة " ويستخلف من بعدكم ما يشاء " من الخلق " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " أي قرنا بعد قرن لكنه أنبأكم ترحما عليكم .
134" إنما توعدون " من البعث وأحواله " لآت" لكائن لا محالة " وما أنتم بمعجزين " طالبكم به.
135" قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة . وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد ، والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم . " إني عامل " ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام ، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه ، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار " إن جعل" من " استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار ، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب بقوله:" تعلمون " أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب ، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق ، وقرأ حمزة و الكسائي يكون بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي " إنه لا يفلح الظالمون " وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة .
136" وجعلوا " أي مشركوا العرب " لله مما ذرأ " خلق " من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم " روي : أنهم كانوا يعينون شيئا ؟ من حرث ونتائج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها ، ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم . وفي قوله " مما ذرأ " تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له ، وفي قوله " بزعمهم " تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله به . وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضا كالود والود " ساء ما يحكمون " حكمهم هذا .
137" وكذلك " ومثل ذلك للتزيين في قسمة القربان " زين لكثير من المشركين قتل أولادهم " بالوأد ونحرهم لآلهتهم " شركاؤهم " من الجن أو من السدنة ، وهو فاعل " زين " وقرأ ابن عامر " زين " على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله : فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه " زين " " ليردوهم " ليهلكوهم بالإغواء " وليلبسوا عليهم دينهم " وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة "ولو شاء الله ما فعلوه " ما فعل المشركون ما زين لهم ، أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك " فذرهم وما يفترون " افتراءهم أو ما يفترونه من الإفك .
138" وقالوا هذه " إشارة إلى ما جعل لآلهتهم " أنعام وحرث حجر" حرام فعل بمعنى مفعول ، كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى ، وقرئ " حجر " بالضم وحرج أي مضيق . " لا يطعمها إلا من نشاء " يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء . " بزعمهم " من غير حجة " وأنعام حرمت ظهورها " يعني البحائر والسوائب والحوامي . " وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها " في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها ، وقيل لا يحجون على ظهورها . " افتراء عليه " نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على الله سبحانه وتعالى ، والجار متعلق بـ" قالوا " أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال ، أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف . " سيجزيهم بما كانوا يفترون " بسببه أو بدله
139" وقالوا ما في بطون هذه الأنعام " يعنون أجنة البحائر والسوائب " خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " حلال للذكور خاصة دون الإناث إن ولد حياً لقوله : " وإن يكن ميتةً فهم فيه شركاء " فالذكور والإناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر بن عامر في تكن بالتاء ، وخالفه هو وابن كثير في " ميتة " فنصب كغيرهم ، أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص ، وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر " لذكورنا " أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور ، وقرئ خالصين بالرفع والنصب و" خالصة " بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ها أو مبتدأ ثان والمراد ما كان حيا ، والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر . " سيجزيهم وصفهم " أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله : " وتصف ألسنتهم الكذب " " إنه حكيم عليم " .
140" قد خسر الذين قتلوا أولادهم " يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر . وقرأ ابن كثير وابن عامر " قتلوا " بالتشديد بمعنى التكثير . " سفهاً بغير علم " لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم ، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر . " وحرموا ما رزقهم الله " من البحائر ونحوها . " افتراءً على الله " يحتمل الوجوه المذكورة في مثله . " قد ضلوا وما كانوا مهتدين " إلى الحق والصواب .
141" وهو الذي أنشأ جنات " من الكروم " معروشات " مرفوعات على ما يحملها " وغير معروشات " ملقيات على وجه الأرض . وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال " والنخل والزرع مختلفا أكله " ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية ، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه ، أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه ، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حالا مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإنشاء " والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه " يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها . " كلوا من ثمره " من ثمر كل واحد من ذلك . " إذا أثمر " وإن لم يدرك ولم يينع بعد . وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى . " وآتوا حقه يوم حصاده " يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية . وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتقنية . وقرأ ابن كثير و نافع و حمزة و الكسائي " حصاده" بكسر الحاء وهو لغة فيه " ولا تسرفوا " في التصدق كقوله تعالى " ولا تبسطها كل البسط " " إنه لا يحب المسرفين " لا يرتضي فعلهم .
142" ومن الأنعام حمولةً وفرشاً " عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره . وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها " كلوا مما رزقكم الله " كلوا مما أحل لكم منه . " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " في التحليل والتحريم من عند أنفسكم " إنه لكم عدو مبين " ظاهرة العداوة .
143" ثمانية أزواج " بدل من حمولة وفرشا ، أو مفعول كلوا ، ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول . " من الضأن اثنين " زوجين اثنين الكبش والنعجة ، وهو بدل من ثمانية وقرئ اثنان على الابتداء . و" الضأن " اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر . وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه . " ومن المعز اثنين " التيس والعنز ، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس ، وقرئ المعزى " قل آلذكرين " ذكر الضأن وذكر المعز " حرم أم الأنثيين " أم أنثييهما ونصب الذكرين والاثنين بحرم " أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى " نبئوني بعلم " بأمر معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئا من ذلك " إن كنتم صادقين " دعوى التحريم عليه .
144" ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئا من الأجناس الأربعة ذكرا كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها ردا عليهم ، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادهما كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها " أم كنتم شهداء " بل أكنتم شاهدين حاضرين " إذ وصاكم الله بهذا " حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك ، أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك " ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين "
145" قل لا أجد في ما أوحي إلي " أي في القرآن ، أو فيما أوحي إلي مطلقا ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى " محرما " طعاما محرما " على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " أن يكون الطعام ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزةتكون بالتاء لتأنيث الخبر ، وقرأ ابن عامر بالياء ، ورفع ال"ميتة"على أن كان هي التامة وقوله : " أو دماً مسفوحاً " عطف على أن مع ما في حيزة أي : إلا وجود ميتة أو دما مسفوحا ، أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال " أو لحم خنزير فإنه رجس " فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعوده أكل النجاسة أو خبيث محنث " أو فسقاً" عطف على لحم خنزير . وما بينهما اعتراض للتعليل " أهل لغير الله به " صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على يكون والمستكين فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون . " فمن اضطر " فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك " غير باغ " على مضطر مثله " ولا عاد " قدر الضرورة " فإن ربك غفور رحيم " لا يؤاخذه ، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب .
146" وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر "كل ماله أصبع الإبل والسباع والطيور . وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفرا مجازا ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم " ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما " الثروب وشحوم الكلى والإضافة لزيادة الربط " إلا ما حملت ظهورهما " إلا ما علقت بظهورهما " أو الحوايا " أو ما اشتمل على الأمعاء جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء وقواصع ، أو حوية كسفينة وسفائن . وقيل هو عطف على شحومهما وأو بمعنى الواو " أو ما اختلط بعظم " هو شحم الإلية لاتصالها بالعصعص " ذلك" التحريم أو الجزاء " جزيناهم ببغيهم " بسبب ظلمهم " وإنا لصادقون " في الإخبار أو الوعد والوعيد .
147" فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة " يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل " ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين " حين ينزل ، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين ، فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم .
148" سيقول الذين أشركوا " إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء كقوله " فلو شاء لهداكم أجمعين " لما فعلنا نحن ولا آباؤنا ، أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ويؤيده قوله " كذلك كذب الذين من قبلهم " أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب الذين من قبلهم الرسل ، وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا . " حتى ذاقوا بأسنا " الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم " قل هل عندكم من علم " من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم " فتخرجوه لنا " فتظهروه لنا " إن تتبعون إلا الظن " ما تتبعون في ذلك إلا الظن " وإن أنتم إلا تخرصون " تكذبون على الله سبحانه وتعالى ، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول ، ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه .
149" قل فلله الحجة البالغة " البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات ، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه " فلو شاء لهداكم أجمعين " بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين
150" قل هلم شهداءكم " أحضروهم ، وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز ، وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين : ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل ، وعند الكوفيون هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام ، وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعديا كما في الآية ولازما كقوله هلم إلينا " الذين يشهدون أن الله حرم هذا " يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم . " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده فإن تسلميه موفقة لهم في الشهادة الباطلة " ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا " من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير ، وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها " والذين لا يؤمنون بالآخرة " كعبدة الأوثان " وهم بربهم يعدلون " يجعلون له عديلا.
151" قل تعالوا " أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم . " أتل " أقرأ " ما حرم ربكم " منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول " أتل " لأنه بمعنى أقل ، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم " عليكم " متعلق بـ" حرم " أو " أتل " " أن لا تشركوا به " أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر بـ" ما حرم " فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء ، أو البدل من " ما " أو من عائدة المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام ، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا " شيئا " يحتمل المصدر والمفعول " وبالوالدين إحسانا " أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما . " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " من أجل فقر ومن خشية كقوله " خشية إملاق " " نحن نرزقكم وإياهم " منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه . " ولا تقربوا الفواحش " كبائر الذنوب أو الزنا " ما ظهر منها وما بطن " بدل منه وهو مثل قوله " ظاهر الإثم وباطنه " " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن " ذلكم " إشارة إلى ما ذكر مفصلا " وصاكم به " بحفظه " لعلكم تعقلون " ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد .
152" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره " حتى يبلغ أشده " حتى يصير بالغا ، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " بالعدل والتسوية " لا نكلف نفسا إلا وسعها " إلا ما يسعها ولا يعسر عليها . وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم " وإذا قلتم " في حكومة ونحوها " فاعدلوا " فيه " ولو كان ذا قربى " ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم " وبعهد الله أوفوا " يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع . " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " تتعظون به ، وقرأ حمزة وحفص و الكسائي " تذكرون " بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها .
153" وأن هذا صراطي مستقيما " الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة . وقرأ حمزة والكسائي " إن " بالكسر على الاستئناف ، وابن عامر و يعقوب بالفتح والتخفيف . وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله " فاتبعوه " وقرأ ابن عامر " صراطي " بفتح الياء ، وقرئ وهذا صراطي وهذا صراط ربك " ولا تتبعوا السبل " الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات " فتفرق بكم " فتفرقكم وتزيلكم " عن سبيله " الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان " ذلكم " الاتباع " وصاكم به لعلكم تتقون " الضلال والتفرق عن الحق .
154" ثم آتينا موسى الكتاب " عطف على "وصاكم " وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ، ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك " ولقد آتينا موسى الكتاب " " تماماً " للكرامة والنعمة " على الذي أحسن " على كل من أحسن القيام به ، ويؤيده إن قرئ على الذين أحسنوا أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه الصلاة والسلام ، أو تماما على ما أحسنه أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب " وتفصيلا لكل شيء " وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر " وهدى ورحمة لعلهم " لعل بني إسرائيل " بلقاء ربهم يؤمنون " أي بلقائه للجزاء .
155" وهذا كتاب " يعني القرآن " أنزلناه مبارك " كثير النفع " فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون " بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه .
156" أن تقولوا " كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه " إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " اليهود والنصارى ، ولعل الاختصاص في " إنما " لأن الباقي المشهود حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم " وإن كنا " إن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا . " عن دراستهم " قراءتهم " لغافلين " لا ندري ما هي ، أو لا تعرف مثلها
157" أو تقولوا " عطف على الأول " لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنونا من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أنا أميون . " فقد جاءكم بينة من ربكم " حجة واضحة تعرفونها " وهدًى ورحمةً " لمن تأمل فيه وعمل به." فمن أظلم ممن كذب بآيات الله" بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها " وصدف " أعرض أو صد " عنها " فضل أو أفضل " سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب " شدته "بما كانوا يصدفون " بإعراضهم أو صدهم .
158" هل ينظرون " أي ما ينتظرون يعني أهل مكة ، وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين " إلا أن تأتيهم الملائكة " ملائكة الموت أو العذاب . وقرأ حمزة و الكسائي بالياء هنا وفي النحل " أو يأتي ربك " بالعذاب ، أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله : " أو يأتي بعض آيات ربك " يعني أشراط الساعة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب " كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تذاكرون ؟ قلنا : نتذاكر الساعة ، قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدجال وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونارا تخرج من عدن " " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها " كالمحتضر إذ صار الأمر عيانا والإيمان برهاني . وقرئ تنفع بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث " لم تكن آمنت من قبل " صفة نفسا " أو كسبت في إيمانها خيراً " عطف على " آمنت " والمعنى : أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا ، وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم ، وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفسا خلت عنها إيمانها ، والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفسا إيمانها الذي حدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيرا " قل انتظروا إنا منتظرون " وعيد لهم ، أي : انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإنا منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل .
159" إن الذين فرقوا دينهم " بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أو افترقوا فيه قال عليه الصلاة والسلام : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة ، وافترقت النصارى على إثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة , وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة " وقرأ حمزة و الكسائي فارقوا أي باينوا " وكانوا شيعاً " فرقا كل فرقة إماما " لست منهم في شيء " أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم ، أو من عقابهم ، أو أنت بريء منهم ، وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف " إنما أمرهم إلى الله " يتولى جزاءهم " ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون " بالعقاب .
160"من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " أي عشر حسنات أمثالها فضلا من الله وقرأ يعقوب عشرة بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف . وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة دون العدد . " ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " قضية للعدل . " وهم لا يظلمون " بنقص الثواب وزيادة العقاب .
161" قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم " بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج " ديناً " بدل من محل إلى صراط إذ المعنى ، هداني صراطا كقوله : " ويهديكم صراطا مستقيما " أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ " قيما " فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي " قيما " على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام " ملة إبراهيم "عطف بيان لدينا " حنيفاً" حال من إبراهيم " وما كان من المشركين " عطف عليه .
162" قل إن صلاتي ونسكي " عبادتي كلها ، أو قرباتي أو حجي " ومحياي ومماتي " وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة ، أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير ، أو الحياة والممات أنفسهما وقرأ نافع " محياي" بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف " لله رب العالمين "
163-" لا شريك له " خالصة له لا أشرك فيها غيرا " وبذلك " القول أو الإخلاص " أمرت وأنا أول المسلمين " لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته .
164" قل أغير الله أبغي ربا " فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم " وهو رب كل شيء " حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك . " ولا تزر وازرة وزر أخرى " جواب عن قولهم " اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم " " ثم إلى ربكم مرجعكم " يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل .
165" وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " يخلف بعضكم بعضا ، أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين . " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " في الشرف والغنى " ليبلوكم في ما آتاكم " من الجاه والمال " إن ربك سريع العقاب " لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده . " وإنه لغفور رحيم " وصف العقاب ولم يصفه إلى نفسه ، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة ، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة"