{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } وخلق الليل والنهار { ثم الذين كفروا } بعد قيام الدليل على وحدانيته بما ذكر من خلقه { بربهم يعدلون } الحجارة والأصنام فيعبدونها معه 0
{ هو الذي خلقكم من طين } يعني : آدم أبا البشر { ثم قضى أجلا } يعني : أجل الحياة إلى الموت { وأجل مسمى عنده } من الممات إلى البعث { ثم أنتم } أيها المشركون بعد هذا { تمترون } تشكون وتكذبون بالبعث . يريد إن الذي ابتدأ الخلق قادر على إعادته .
{ وهو الله } أي : المعبود المعظم المتفرد بالتدبير { في السماوات وفي الأرض } .
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } الدالة على وحدانيته ، كما ذكر من خلق آدم ،وخلق الليل والنهار { إلا كانوا عنها معرضين } تاركين التفكر فيها .
{ فقد كذبوا } يعني : مشركي أهل مكة { بالحق لما جاءهم } يعني : القرآن { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } أي : أخبار استهزائهم وجزاؤه .
{ ألم يروا } يعني : هؤلاء الكفار { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } من جيل وأمة { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } أعطيناهم من المال والعبيد والأنعام ما لم نعطكم { وأرسلنا السماء } المطر { عليهم مدرارا } كثير الدر ، وهو إقباله ونزوله بكثرة { فأهلكناهم بذنوبهم } بكفرهم { وأنشأنا } أوجدنا { من بعدهم قرنا آخرين } وهذا احتجاج على منكري البعث .
{ ولو نزلنا عليك } . قال مشركو مكة : لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة واحدة معاينة ، فقال الله : { ولو نزلنا عليك كتابا } أي : مكتوبا { في قرطاس } يعني : الصحيفة { فلمسوه بأيديهم } فعاينوا ذلك معاينة ، ومسوه بأيديهم { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } . أخبر الله تعالى أنهم يدفعون الدليل حتى لو رأوا الكتاب ينزل من السماء لقالوا : سحر .
{ وقالوا : لولا أنزل عليه ملك } طلبوا ملكا يرونه يشهد له بالرسالة ، فقال الله عز وجل : { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } لأهلكوا بعذاب الاستئصال ، كسنة من قبلهم ممن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا { ثم لا ينظرون } لا يمهلون لتوبة ولا لغير ذلك .
{ ولو جعلناه ملكا } أي : ولو جعلنا الرسول الذي ينزل عليهم ليشهدوا له بالرسالة ملكا كما يطلبون { لجعلناه رجلا } لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته ، لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة ، ولذلك كان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي { وللبسنا عليهم ما يلبسون } ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي ، أي : فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان ، ثم عزى الله نبيه عليه السلام بقوله :
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك } وكذبوا ونسبوا إلى السحر { فحاق } فحل ونزل { بالذين سخروا } من الرسل { ما كانوا به يستهزئون } من العذاب وينكرون وقوعه .
{ قل } لهم يا محمد : { سيروا في الأرض } سافروا في الأرض { ثم انظروا } فاعتبروا { كيف كان عاقبة } مكذبي الرسل . يعني : إذا سافروا رأوا آثار الأمم الخالية المهلكة ، يحذرهم مثل ما وقع بهم .
{ قل لمن ما في السماوات والأرض } فإن أجابوك وإلا { قل لله كتب على نفسه الرحمة } أوجب على نفسه الرحمة ، وهذا تلطف في الاستدعاء إلى الإنابة { ليجمعنكم } أي : والله ليجمعنكم { إلى يوم القيامة } أي : ليضمنكم إلى هذا اليوم الذي أنكرتموه ، وليجمعن بينكم وبينه ، ثم ابتدأ فقال : { الذين خسروا أنفسهم } أهلكوها بالشرك { فهم لا يؤمنون} .
{ وله ما سكن في الليل والنهار } أي : ما حل فيهما ، واشتملا عليه . يعني : جميع المخلوقات .
{ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض } خالقهما ابتداء { وهو يطعم ولا يطعم } يرزق ولا يرزق .
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}
{ من يصرف عنه } أي : العذاب { يومئذ } يوم القيامة { فقد رحمه } فقد أوجب الله له الرحمة لا محالة .
{ وإن يمسسك الله بضر } أي : إن جعل الضر وهو المرض والفقر يمسك .
{ وهو القاهر } القادر الذي لا يعجزه شيء { فوق عباده } أي : إن قهره قد استعلى عليهم ، فهم تحت التسخير .
{ قل أي شيء أكبر شهادة } قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة ، فإن أهل الكتاب ينكرونك ، فنزلت هذه الآية . أمر الله تعالى محمدا عليه السلام أن يسألهم ، ثم أمر أن يخبرهم فيقول : { الله شهيد بيني وبينكم } أي : الله الذي اعترفتم بأنه خالق السماوات والأرض ، والظلمات والنور يشهد لي بالنبوة بإقامة البراهين ، وإنزال القرآن علي . { وأوحي إلي هذا القرآن } المعجز بلفظه ونظمه وأخباره ، عما كان ويكون { لأنذركم } لأخوفكم { به } عقاب الله على الكفر { ومن بلغ } يعني : ومن بلغه القرآن من بعدكم ، فكل من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد عليه السلام . قل { أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } استفهام معناه الجحد والإنكار { قل لا أشهد } الآيه .
{ الذين آتيناهم الكتاب } مفسرة في سورة البقرة .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي : لا أحد أظلم ممن اختلق على الله كذبا . يعني : الذين ذكرهم في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة }الآيه . { أو كذب بآياته } بالقرآن وبمحمد عليه السلام { إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد من جحد ربوبية ربه ، وكذب رسله ، وهم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب .
{ ويوم } واذكر يوم { نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أصنامكم وآلهتكم { الذين كنتم تزعمون } أنها تشفع لكم ، وهذا سؤال توبيخ .
{ ثم لم تكن فتنتهم } أي : لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان وحبهم لها { إلا أن } تبرؤوا منها فـ { قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } .
{ انظر } يا محمد { كيف كذبوا على أنفسهم } بجحد شركهم في الآخرة { وضل } وكيف ضل ذلك : زال وبطل { عنهم ما كانوا يفترون } بعبادته من الأصنام .
{ ومنهم } ومن الكفار { من يستمع إليك } إذا قرأت القرآن { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أغطية { أن يفقهوه } لئلا يفهموه ، ولا يعلموا الحق { وفي آذانهم وقرا } ثقلا وصمما ، فلا يعون منه شيئا ، ولا ينتفعون به { وإن يروا كل آية } علامة تدل على صدقك { لا يؤمنوا بها } هذا حالهم في البعد عن الإيمان { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } مخاصمين معك في الدين { يقول الذين كفروا } من كفر منهم :{ إن هذا } ما هذا { إلا أساطير الأولين } أحاديث الأمم المتقدمة التي كانوا يسطرونها في كتبهم .
{ وهم ينهون } الناس عن اتباع محمد { وينأون } ويتباعدون{ عنه } فلا يؤمنون به { وإن } وما { يهلكون إلا أنفسهم } بتماديهم في معصية الله تعالى { وما يشعرون } وما يعلمون ذلك .
{ ولو ترى } يا محمد { إذ وقفوا على النار } أي : حبسوا على الصراط فوق النار ، { فقالوا يا ليتنا نرد } تمنوا أن يردوا إلى الدنيا فيؤمنوا ، وهو قوله : { ولا نكذب } أي : ونحن لا نكذب { بآيات ربنا } بعد المعاينة { ونكون من المؤمنين } ضمنوا أن لا يكذبوا ويؤمنوا ، فقال الله تعالى :
{ بل } ليس الأمر على ما تمنوا في الرد { بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وهو أنهم أنكروا شركهم ، فأنطق الله سبحانه جوارحهم حتى شهدت عليهم بالكفر ، والمعنى : ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وتهتكت أستارهم { ولو ردوا لعادوا لما نهوا } إلى ما نهوا { عنه } من الشرك ، للقضاء السابق فيهم بذلك ، وأنهم خلقوا للشقاوة { وإنهم لكاذبون } في قولهم : { ولا نكذب بآيات ربنا } .
{ وقالوا } يعني : الكفار { إن هي إلا حياتنا الدنيا } أنكروا البعث .
{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } عرفوا ربهم ضرورة . وقيل : وقفوا على مسألة ربهم وتوبيخه إياهم ، ويؤكد هذا قوله : { أليس هذا بالحق } أي : هذا البعث ، فيقرون حين لا ينفعهم ذلك ، ويقولون : { بلى وربنا } فيقول الله تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بكفركم .
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } بالبعث والمصير إلى الله { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } فجأة { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } قصرنا وضيعنا عمل الآخرة في الدنيا { وهم يحملون أوزارهم } أثقالهم وآثامهم { على ظهورهم } وذلك أن الكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله أقبح شيء صورة ، وأخبثه ريحا ، فيقول : أنا عملك السيىء طال ما ركبتني في الدنيا ، فأنا أركبك اليوم . { ألا ساء ما يزرون } بئس الحمل ما حملوا .
{ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } لأنها تفنى وتنقضي كاللهو واللعب ، تكون لذة فانية عن قريب { وللدار الآخرة } الجنة { خير للذين يتقون } الشرك { أفلا تعقلون } أنها كذلك ، فلا تفتروا في العمل لها ، ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيب قريش إياه ، فقال :
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } في العلانية : إنك كذاب ومفتر { فإنهم لا يكذبونك } في السر قد علموا صدقك { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } بالقرآن بعد المعرفة . نزلت في المعاندين الذين تركوا الانقياد للحق ، كما قال عز وجل : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } افلآيه.
{ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا } رجاء ثوابي { وأوذوا } حتى نشروا بالمناشير ، وحرقوا بالنار { حتى أتاهم نصرنا } معونتنا إياهم بإهلاك من كذبهم { ولا مبدل لكلمات الله } لا ناقض لحكمه ، وقد حكم بنصر الأنبياء في قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } . { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } أي : خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم .
{ وإن كان كبر } عظم وثقل { عليك إعراضهم } عن الإيمان بك وبالقرآن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان قومه ، فكانوا إذا سألوه آية أحب أن يريهم ذلك طمعا في إيمانهم ، فقال الله عز وجل : { فإن استطعت أن تبتغي } تطلب { نفقا } سربا { في الأرض أو سلما } مصعدا { في السماء فتأتيهم بآية } فافعل ذلك ، والمعنى : أنك بشر لا تقدر على الإتيان بالآيات ، فلا سبيل لك إلا الصبر حتى يحكم الله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أي : إنما تركوا الإيمان لسابق قضائي فيهم ، لو شئت لاجتمعوا على الإيمان { فلا تكونن من الجاهلين } بأنه يؤمن بك بعضهم دون بعض ، وأنهم لا يجتمعون على الهدى ، وغلظ الجواب زجرا لهم عن هذه الحال .
{ إنما يستجيب } أي : يجيبك إلى الإيمان { الذين يسمعون } وهم المؤمنون الذين يستمعون الذكر ، فيقبلونه وينتفعون به ، والكافر الذي ختم الله على سمعه كيف يصغي إلى الحق ؟ { والموتى } يعني : كفار مكة { يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } يردون فيجازيهم بأعمالهم .
{ وقالوا } يعني : رؤساء قريش { لولا } هلا { نزل عليه آية من ربه } يعنون : نزول ملك يشهد له بالنبوة { قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } ما عليهم في ذلك من البلاء ، وهو ما ذكرنا في قوله : { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } .
{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } يعني : جميع الحيوانات ، لأنها لا تخلوا من هاتين الحالتين { إلا أمم أمثالكم } أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ، فكل جنس من البهائم أمة ، كالطير ، والظباء ، والذباب ، والأسود ، وكل صنف من الحيوان أمة مثل بني آدم يعرفون بالإنس { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ما تركنا في الكتاب من شيء بالعباد إليه حاجة إلا وقد بيناه ، إما نصا ، وإما دلالة ، وإما مجملا ، وإما مفصلا كقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } أي : لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين { ثم إلى ربهم } أي : هذه الأمم { يحشرون } للحساب والجزاء .
{ والذين كذبوا بآياتنا } بما جاء به محمد عليه السلام { صم } عن القرآن لا يسمعونه سماع انتفاع { وبكم } عن القرآن لا ينطقون به ، ثم أخبر أنهم بمشيئته صاروا كذلك ، فقال : { من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } .
{ قل } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله { أرأيتكم } معناه : أخبروني { إن أتاكم عذاب الله } يريد : الموت { أو أتتكم الساعة } القيامة { أغير الله تدعون } أي : أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها من دون الله { إن كنتم صادقين } جواب لقوله : { أرأيتكم } لأنه بمعنى أخبروني ، كأنه قيل : إن كنتم صادقين أخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم .
{ بل } أي : لا تدعون غيره { إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه } أي : يكشف الضر الذي من أجله دعوتموه { إن شاء وتنسون } وتتركون { ما تشركون } به من الأصنام فلا تدعونه .
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } رسلا فكفروا بهم { فأخذناهم بالبأساء } وهو شدة الفقر { والضراء } الأوجاع والأمراض { لعلهم يتضرعون } لكي يتذللوا ويتخشعوا .
{ فلولا } فهلا { إذ جاءهم بأسنا } عذابنا { تضرعوا } تذللوا ، والمعنى : لم يتضرعوا { ولكن قست قلوبهم } فأقاموا على كفرهم { وزين لهم الشيطان } الضلالة التي هم عليها ، فأصروا .
{ فلما نسوا ما ذكروا به } تركوا ما وعظوا به { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من النعمة والسرور بعد الضر الذي كانوا فيه { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم } في حال فرحهم ، ليكون أشد لتحسرهم { بغتة فإذا هم مبلسون } آيسون من كل خير .
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أنفسهم أي : غابرهم الذي يتخلف في آخر القوم ، والمعنى : استؤصلوا بالهلاك فلم يبق منهم باقية { والحمد لله رب العالمين } على نصر الرسل ، وإهلاك الظالمين .
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أي : أصمكم وأعمالكم { وختم على قلوبكم } حتى لا تعرفوا شيئا . يعني : أذهب هذه الأعضاء عنكم أصلا { من إله غير الله يأتيكم به } أي : بما أخذ عنكم { انظر كيف نصرف } نبين لهم في القرآن { الآيات ثم هم يصدفون } يعرضون عما ظهر لهم .
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة } ليلا أو نهارا { هل يهلك إلا القوم الظالمون } الذين جعلوا لله شركاء .
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
{والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون}.
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } التي منها يرزق ويعطي { ولا أعلم الغيب } فأخبركم بعاقبة ما تصيرون إليه { ولا أقول لكم إني ملك } أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أي : ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي { قل هل يستوي الأعمى والبصير } الكافر والمؤمن { أفلا تتفكرون } أنهما لا يستويان .
{ وأنذر به } خوف بالقرآن { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يريد : المؤمنين ، يخافون يوم القيامة ، وما فيها من أهوال { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } يعني : إن الشفاعة إنما تكون بإذنه ، ولا شفيع ولا ناصر لأحد في القيامة إلا بإذن الله { لعلهم يتقون } كي يخافوا في الآخرة وينتهوا عما نهيتهم .
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم } . نزلت في فقراء المؤمنين لما قال رؤساء الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : نح هؤلاء عنك لنجالسك ونؤمن بك . ومعنى : { يدعون ربهم بالغداة والعشي } يعبدون الله بالصلوات المكتوبة . { يريدون وجهه } يطلبون ثواب الله { ما عليك من حسابهم } من رزقهم { من شيء } فتملهم وتطردهم { وما من حسابك عليهم من شيء } أي : ليس رزقك عليهم ، ولا رزقهم عليك ، وإنما يرزقك وإياهم الله الرزاق ، فدعهم يدنوا منك ولا تطردهم { فتكون من الظالمين } لهم بطردهم .
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ابتلينا الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع { ليقولوا } يعني : الرؤساء { أهؤلاء } الفقراء والضعفاء { من الله عليهم من بيننا } أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة ، أو خصوا بنعمة ، فقال الله تعالى : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي : إنما يهدي إلى دينه من يعلم أنه يشكر .
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } يعني : الصحابة وهؤلاء الفقراء { فقل سلام عليكم } سلم عليهم بتحية المسلمين { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أوجب الله لكم الرحمة إيجابا مؤكدا { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } يريد : إن ذنوبكم حهل ليس بكفر ولا جحود ، لأن العاصي جاهل بمقدار العذاب في معصيته { ثم تاب من بعده } رجع عن ذنبه { وأصلح } عمله { فأنه غفور رحيم } .
{ وكذلك } وكما بينا لك في هذه السورة دلائلنا على المشركين { نفصل } نبين لك حجتنا وأدلتنا ، ليظهر الحق ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين في شركهم بالله في الدنيا ، وما يصيرون إليه من الخزي يوم القيامة بإخباري إياك .
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } الأصنام التي يعبدونها من دون الله { قل لا أتبع أهواءكم } أي : إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البرهان ، فلا أتبعكم على هواكم { قد ضللت إذا } إن أنا فعلت ذلك { وما أنا من المهتدين } الذين سلكوا سبيل الهدى .
{ قل إني على بينة } يقين وأمر بين { من ربي } لا متبع لهوى { وكذبتم به } أي : بربي { ما عندي ما تستعجلون به } يعني : العذاب أو الآيات التي اقترحتموها ، ثم أعلم أن ذلك عنده ، فقال : { إن الحكم إلا لله يقص الحق } أي : يقول القصص الحق . ومن قرأ : { يقص الحق } فمعناه : يقضي القضاء الحق { وهو خير الفاصلين } الذين يفصلون بين الحق والباطل .
{ قل لو أن عندي ما تستعجلون به } من العذاب لعجلت لكم ، ولانفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة ، وهو معنى قوله : { لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين } هو أعلم بوقت عقوبتهم ، فهو يؤخرهم إلى وقته ، وأنا لا أعلم ذلك . قوله :
{ وعنده مفاتح الغيب } خزاءن ما غاب عن بني آدم من الرزق ، ولامطر ، ونزول العذاب ، والثواب ، والعقاب { لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر } القفار { والبحر } كل قرية فيها ماء ، لا يحدث فيهما شيء إلا بعلم الله { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } ساقطة ، وقبل أن سقطت { ولا حبة في ظلمات الأرض } في الثرى تحت الأرض { ولا رطب } وهو ما ينبت { ولا يابس } وهو ما لا ينبت { إلا في كتاب مبين } أثبت الله ذلك كله في كتاب قبل أن يخلق الخلق .
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } يقبض أرواحكم في منامكم { ويعلم ما جرحتم } ما كسبتم من العمل { بالنهار ثم يبعثكم فيه } يرد إليكم أرواحكم في النهار { ليقضى أجل مسمى } يعني : أجل الحياة إلى الموت ، أي : لتستوفوا أعماركم المكتوبة .
{ وهو القاهر فوق عباده } مضى هذا { ويرسل عليكم حفظة } من الملائكة يحصون أعمالكم { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } أعوان ملك الموت { وهم لا يفرطون } لا يعجزون ولا يضيعون .
{ ثم ردوا } يعني : العباد . يردون بالموت { إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم } أي : القضاء فيهم { وهو أسرع الحاسبين } أقدر المجازين .
{ قل من ينجيكم } سؤال توبيخ وتقرير . أي : إن الله يفعل ذلك { من ظلمات البر والبحر } أهوالهما وشدائدهما { تدعونه تضرعا وخفية } علانية وسرا { لئن أنجانا من هذه } أي : من هذه الشدائد { لنكونن من الشاكرين } من المؤمنين الطائعين ، وكانت قريش تسافر في البر والبحر ، فإذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم ، وهو قوله :
{ قل الله ينجيكم منها } الآية . أعلم الله سبحانه أن الله الذي دعوه هو ينجيهم ، ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها من صنعتهم ، وأنها لا تضر ولا تنفع . والكرب أشد الغم ، ثم أخبر أنه قادر على تعذيبهم ، فقال :
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كالصيحة ، والحجارة ، والماء { أو من تحت أرجلكم } كالخسف والزلزلة { أو يلبسكم شيعا } يخلطكم فرقا بأن يبث فيكم الأهواء المختلفة ، فتخالفون وتقاتلون ، وهو معنى قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف } نبين لهم { الآيات } في القرآن { لعلهم يفقهون } لكي يعلموا .
{ وكذب به } بالقرآن { قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } بمسلط أي : إنما أدعوكم إلى الله ، ولم أومر بحربكم ، ولا أخذكم بالإيمان ، وهذا منسوخ بآية القتال .
{ لكل نبإ مستقر } لكل خبر يخبره الله وقت ومكان يقع فيه من غير خلف { وسوف تعلمون } ما كان منه في الدنيا فتستعرفونه ، وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم . يعني : العذاب الذي كان يعدهم في الدنيا والآخرة .
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } بالتكذيب والاستهزاء { فأعرض عنهم } أمر الله تعالى رسوله عليه السلام فقال : إذا رأيت المشركين يكذبون بالقرآن ، وبك ، ويستهزئون فاترك مجالستهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } حتى يكون خوضهم في غير القرآن { وإما ينسينك الشيطان } إن نسيت فقعدت { فلا تقعد بعد الذكرى } فقم إذا ذكرت ، فقال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم ، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف بالبيت ، فرخص للمؤمنين في القعود معهن يذكرونهم فقال :
{ وما على الذين يتقون } الشرك والكبائر { من حسابهم } آثامهم { من شيء ولكن ذكرى } يقول : ذكروهم بالقرآن وبمحمد ، فرخص لهم بالقعود بشرط التذكير والموعظة { لعلهم يتقون } ليرجى منهم التقوى .
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } يعني : الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها { وذكر به } وعظ بالقرآن { أن تبسل نفس بما كسبت } تسلم للهلكة ، وتحبس في جهنم فلا تقدر على التخلص ، ومعنى الآية : وذكرهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون { وإن تعدل كل عدل } يعني : النفس المبسلة . تفد كل فداء . يعني : تفد بالدنيا وما فيها { لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } أسلموا للهلاك { لهم شراب من حميم } وهو الماء الحار .
{ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أنعبد ما لا يملك لنا نفعا ولا ضرا ، لأنه جماد ؟ { ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } نرد وراءنا إلى الشرك بالله ، فيكون حالنا كحال { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } استغوته واستفزته الغيلان في المهانة { حيران } مترددا لا يهتدي إلى المحجة { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } هذا مثل من ضل بعد الهدى ، يجيب الشيطان الذي يستهويه في المفازة ، فيصبح في مضلة من الأرض يهلك فيها ، ويعصي من يدعوه إلى المحجة ، كذلك من ضل بعد الهدى { قل إن هدى الله هو الهدى } رد على من دعا إلى عبادة الأصنام ، أي : لا نفعل ذلك ، لأن هدى الله هو الهدى لا هدى غيره .
{وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون}.
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } أي : بكمال قدرته ، وشمول علمه ، وإتقان صنعه ، وكل ذلك حق { ويوم يقول } واذكر يا محمد يوم يقول للشيء { كن فيكون } يعني : يوم القيامة ، يقول للخلق انتشروا فينتشرون .
{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين}.
{ وكذلك نري إبراهيم } أي : وكما أرينا إبراهيم استقباح ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام نريه { ملكوت السماوات والأرض } يعني : ملكهما ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، والبحار . أراه الله تعالى هذه الأشياء حتى نظر إليها معتبرا مستدلا بها على خالقها ، وقوله : { وليكون من الموقنين } عطف على المعنى . تقديره : ليستدل بها وليكون من الموقنين .
{ فلما جن } أي : ستر وأظلم { عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } أي : في زعمكم أيها القائلون بحكم النجم ، وذلك أنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبيرفي الخليقة لها { فلما أفل} أي : غاب { قال لا أحب الأفلين} عرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم ، ودل على أن من غاب بعد الظهور كان حادثا مسخرا ، وليس برب .
{ فلما رأى القمر بازغا } طالعا ، فاحتج عليهم في القمر والشمس بمثل ما احتج به عليهم في الكوكب ، وقوله : { لئن لم يهدني ربي } أي : لئن لم يثبتني على الهدى . وقوله للشمس :
{ هذا ربي } ولم يقل هذه ، لأن لفظ الشمس مذكر ، ولأن الشمس بمعنى الضياء والنور ، فحمل الكلام على المعنى { هذا أكبر } أي : من الكوكب والقمر ، فلما توجهت الحجة على قومه قال : { إني بريء مما تشركون } .
{ إني وجهت وجهي } أي : جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل ، وباقي الآية مفسر فيما مضى .
{ وحاجه قومه } جادلوه وخاصموه في تركه آلهتهم ، وعبادة الله ، وخوفوه أن تصيبه آلهتهم بسوء ، فقال : { أتحاجوني في الله } أي : في عبادته وتوحيده { وقد هدان } بين لي ما به اهتديت { ولا أخاف ما تشركون به } من الأصنام أن تصيبني بسوء { إلا أن يشاء ربي شيئا } إني لا أخاف إلا مشيئة الله أن يعذبني { وسع ربي كل شيء علما } علمه علما تاما { أفلا تتذكرون } تتعظون وتتركون عبادة الأصنام .
{ وكيف أخاف ما أشركتم } يعني : الأصنام . أنكر أن يخافها { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا } ما ليس لكم في إشراكه بالله حجة وبرهان { فأي الفريقين أحق بالأمن } بأن يأمن العذاب ، الموحد أم المشرك ؟
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } لم يخلطوا إيمانهم بشرك { أولئك لهم الأمن } من العذاب { وهم مهتدون } إلى دين الله .
{ وتلك حجتنا } يعني : ما احتج به عليهم { آتيناها إبراهيم } ألهمنا إبراهيم ، فأرشدناه إليها { نرفع درجات من نشاء } مراتبهم بالعلم والفهم ، ثم ذكر نوحا ومن هدى من الأنبياء من أولاده إلى قوله :
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين}.
{وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين}.
{ وكلا } أي : من المذكورين هاهنا { فضلنا على العالمين } علمي زمانهم .
{ ومن آبائهم } أي : وهدينا بعض آبائهم { وذرياتهم وإخوانهم } فـ من هاهنا للتبغيض .
{ ذلك هدى الله } دين الله الذي هم عليه { يهدي به من يشاء } يريد : يرشد إليه من يشاء { من عباده ولو أشركوا } عبدوا غيري { لحبط } بطل عملهم .
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب } يعني : الكتب التي أنزلها عليهم { والحكم } العلم والفقه { فإن يكفر بها } أي : بآياتنا { هؤلاء } أهل مكة { فقد وكلنا بها } أي : أرصدنا لها { قوما } وفقناهم لها ، وهم المهاجرون والأنصار .
{ أولئك الذين هدى الله } يعني : النبيين الذين تقدم ذكرهم { فبهداهم اقتده } أي : اصبر كما صبروا ، فإن قومهم كذبوهم فصبروا { قل لا أسألكم عليه } على القرآن وتبليغ الرسالة { أجرا } مالا تعطونيه { إن هو } يعني : القرآن { إلا ذكرى للعالمين } موعظة للخلق أجمعين .
{ وما قدروا الله حق قدره } ما عظموا الله حق عظمته ، وما وصفوه حق صفته { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وذلك أن ليهود أنكروا إنزال الله عز وجل من السماء كتابا إنكارا للقرآن { قل } لهم يا محمد : { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } يعني : التوراة . { تجعلونه قراطيس } مكتوبة وتودعونه إياها { تبدونها } يعني : القراطيس يبدون ما يحبون ، ويكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } في التوراة ، فضيعتموه ولم تنتفعوا به { قل الله } أي : الله أنزله { ثم ذرهم في خوضهم } إفكهم وحديثهم الباطل { يلعبون } يعملون ما لا يجدي عليهم .
{ وهذا كتاب } يعني : القرآن { أنزلناه مبارك } كثير خيره ، دائم نفعه ، يبشر بالثواب ، ويزجر عن القبيح ، إلى ما لا يحصى من بركاته { مصدق الذي بين يديه } موافق لما قبله من الكتب { ولتنذر أم القرى } أهل مكة { ومن حولها } يعني : أهل سائر الآفاق { والذين يؤمنون بالآخرة } إيمانا حقيقيا { يؤمنون به } بالقرآن .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } نزلت في مسيلمة والأسود العنسي ، ادعيا النبوة ، وأن الله قد أوحى إليهما ، وهذا معنى قوله : { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } يعني : المستهزئون الذين قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } . { ولو ترى } يا محمد { إذ الظالمون } يعني : الذين ذكرهم { في غمرات الموت } شدائده وأهواله { والملائكة باسطوا أيديهم } إليهم بالضرب والتعذيب { أخرجوا أنفسكم } أي : يقولون ذلك ونفس الكافر تخرج بمشقة وكره ، لأنها تصير إلى أشد العذاب ، والملائكة يكرهونهم على نزع الروح ، ويقولون : { أخرجوا أنفسكم } كرها { اليوم تجزون عذاب الهون } أي : العذاب الذي يقع به الهوان الشديد { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } من أنه أوحي إليكم ولم يوح { وكنتم عن آياته تستكبرون } عن الإيمان بها تتعظمون .
{ ولقد جئتمونا فرادى } يقال للكفار في الآخرة : جئتمونا فرادى بلا أهل ، ولا مال ، ولا شيء قدمتموه { كما خلقناكم أول مرة } كما خرجتم من بطون أمهاتكم { وتركتم ما خولناكم } ملكناكم وأعطيناكم من المال والعبيد والمواشي { وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام على أنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده { لقد تقطع بينكم } وصلكم ومودتكم { وضل عنكم } ذهب عنكم { ما كنتم تزعمون } تكذبون في الدنيا .
{ إن الله فالق الحب } شاقه بالنبات { والنوى } بالنخلة { يخرج الحي من الميت } يخرج النطفة بشرا حيا { ومخرج الميت } النطفة { من الحي } وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن { ذلكم الله } الذي فعل هذه الأشياء التي تشاهدونها ربكم { فأنى تؤفكون } فمن أين تصرفون عن الحق بعد البيان !
{ فالق الإصباح } شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده ، على معنى أنه خالقه ومبديه { وجعل الليل سكنا } للخلق يسكنون فيه سكون الراحة { والشمس والقمر حسبانا } وجعل الشمس والقمر بحسبان لا يجاوزانه فيما يدوران في حساب { ذلك تقدير العزيز } في ملكه يصنع ما أراد { العليم } بما قدر من خلقهما .
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}.
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني : آدم { فمستقر } أي : فلكم مستقر في الأرحام { ومستودع } في الأصلاب .
{ وهو الذي أنزل من السماء ماء } يعني : المطر { فأخرجنا به نبات كل شيء } ينبت { فأخرجنا } من ذلك النبات { خضرا } أخضر ، كالقمح ، والشعير ، والذرة ، وما كان رطبا أخضر مما ينبت من الحبوب { نخرج منه } من الخضر { حبا متراكبا } بعضه على بعض في سنبلة واحدة { ومن النخل من طلعها } أول ما يطلع منها { قنوان } يعني : العراجين التي قد تدلت من الطلع { دانية } ممن يجتنيها . يعني : قصار النخل اللاحقة عذوقها بالأرض { وجنات } أي : وأخرجنا بالماء جنات { من أعناب والزيتون } وشجر الزيتون { والرمان } وشجر الرمان { مشتبها } في اللون . يعني : الرماني { وغير متشابه } في الطعم . أي : مختلفة في الطعم . وقيل : مشتبها ورقها ، مختلفا ثمرها { انظروا إلى ثمره } نظر الاستدلال والعبرة أول ما يعقد { وينعه } نضجه { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى .
{ وجعلوا لله شركاء الجن } أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان ، فجعلوهم شركاء لله { وخرقوا له بنين وبنات } افتعلوا ذلك كذبا وكفرا . يعني : الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود والنصارى حين دعوا لله ولدا { بغير علم } لم يذكروه عن علم ، إنما ذكروه تكذبا . وقوله :
{ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } أي : من أين يكون له ولد ؟ ولا يكون الولد إلا من صاحبة ، ولا صاحبة له { وخلق كل شيء } أي : وهو خالق كل شيء .
{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}.
{ لا تدركه الأبصار } في الدنيا ، لأنه وعد في القيامة الرؤية بقوله : {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } الآية . والمطلق يحمل على المقيد . وقيل : لا يحيط بكنهه وحقيقته الأبصار وهي تراه ، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به { وهو يدرك الأبصار } يراها ويحيط بها علما ، لا كالمخلوقين الذين لا يدركون حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما { وهو اللطيف } الرفيق بأوليائه { الخبير } بهم .
{ قد جاءكم بصائر من ربكم } يعني : بينات القرآن { فمن أبصر } اهتدى { فلنفسه } عمل { ومن عمي فعليها } فعلى نفسه جنى العذاب . { وما أنا عليكم بحفيظ } برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها .
{ وكذلك } وكما بينا في هذه السورة { نصرف } نبين { الآيات } في القرآن ندعوهم بها ونخوفهم { وليقولوا درست } عطف على المضمر في المعنى ، والتقدير : نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا درست ،أي : تعلمت من يسار ، وجبر ، واليهود . ومعنى درس : قرأ على غيره ، ومعنى هذه اللام في قوله : { وليقولوا } معنى لم العاقبة ، أي : نصرف الآيات ليكون عاقبة أمرهم تكذيبا للشقاوة التي لحقتهم { ولنبينه لقوم يعلمون } يعني : أولياءه الذين هداهم ، والذين سعدوا بتبيين الحق .
{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}.
{ ولو شاء الله ما أشركوا } أي : ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين { وما جعلناك عليهم حفيظا } لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب ، إنما بعثت مبلغا فلا تهتم لشركهم ، فإن ذلك لمشيئة الله .
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } يعني : أصنامهم ومعبوديهم ، وذلك أن المسلمين كانوا يسبون أصنام الكفار ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك لئلا يسبوا { الله عدوا بغير علم } أي : ظلما بالجهل { كذلك } أي : كما زينا لهؤلاء عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان { زينا لكل أمة عملهم } من الخير والشر .
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } اجتهدوا في المبالغة في اليمين { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } وذلك أنه لما نزل : { إن نشأ ننزل عليهم } الآية . أقسم المشركون بالله لئن جاءنهم آية ليؤمنن بها ، وسأل المسلمون ذلك ، وعلم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون ، فأنزل الله هذه الآية . { قل إنما الآيات عند الله } هو القادر على الإتيان بها { وما يشعركم } وما يدريكم إيمانهم ، أي : هم لا يؤمنون مع مجيء الآيات إياهم ، ثم ابتدأ فقال : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ومن قرأ أنها بفتح الألف كانت بمعنى لعلها ، ويجوز أن تجعل لا زائدة مع فتح أن .
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية بتقليب قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن تكون عليه فلا يؤمنون { كما لم يؤمنوا به } بالقرآن ، أو بمحمد عليه السلام { أول مرة } أتتهم الآيات ، مثل انشقاق القمر وغيره { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون .
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } فرأوهم عيانا { وكلمهم الموتى } فشهدوا لك بالصدق والنبوة { وحشرنا عليهم } وجمعنا عليهم { كل شيء } في الدنيا { قبلا } و { قبلا } أي : معاينة ومواجهة { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق لهم من الشقاء { إلا أن يشاء الله } أن يهديهم { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا .
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا } كما ابتليناك بهؤلاء القوم كذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء ، ليعظم ثوابه ، والعدو هاهنا يراد به الجمع ، ثم بين من هم فقال : { شياطين الإنس } يعني : مردة الإنس ، والشيطان : كل متمرد عات من الجن والإنس { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } يعني : إن شياطين الجن الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإنس ومردتهم ، فيغرونهم بالمؤمنين ، وزخرف القول : باطله الذي زين ووشي بالكذب ، والمعنى أنهم يزينون لهم الأعمال القبيحة غرورا { ولو شاء ربك ما فعلوه } لمنع الشياطين من الوسوسة للإنس .
{ ولتصغى إليه } ولتميل إلى ذلك الزخرف والغرور { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } قلوب الذين لا يصدقون بالبعث { وليرضوه } ليحبوه { وليقترفوا } ليعملوا ما هم عاملون .
{ أفغير الله } أي : قل لأهل مكة : أفغير الله { أبتغي حكما } قاضيا بيني وبينكم { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } القرآن { مفصلا } مبينا فيه أمره ونهيه { والذين آتيناهم الكتاب } من اليهود والنصارى { يعلمون } أن القرآن { منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين } من الشاكين أنهم يعلمون ذلك .
{ وتمت كلمة ربك } أقضيته وعداته لأوليائه في أعدائه { صدقا } فيما وعد { وعدلا } فيما حكم . والمعنى : صادقة عادلة { لا مبدل لكلماته } لا مغير لحكمه ، ولا خلف لوعده { وهو السميع } لتضرع أوليائه ، ولقول أعدائه { العليم } بما في قلوب الفريقين .
{ وإن تطع أكثر من في الأرض } يعني : المشركين { يضلوك عن سبيل الله } دين الله الذي رضيه لك ، وذلك أنهم جادلوه ، في أكل الميتة ، وقالوا : أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم ؟ { إن يتبعون إلا الظن } في تحليل الميتة { وإن هم إلا يخرصون } يكذبون في تحليل ما حرمه الله .
{إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } أي : مما ذكي على اسم الله { إن كنتم بآياته مؤمنين } تأكيد لاستحلال ما أباحه الشرع ثم أبلغ في إباحة ما ذبح على اسم الله بقوله :
{ وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } عند الذبح { وقد فصل } بين { لكم ما حرم عليكم } في قوله : { حرمت عليكم الميتة } الآية . { إلا ما اضطررتم إليه } دعتكم الضرورة إلى أكله مما لا يحل عند الاختيار { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم } أي : الذين يحلون الميتة ، ويناظرونكم في إحلالها ضلوا باتباع أهوائهم { بغير علم } إنما يتبعون فيه الهوى ، ولا بصيرة عندهم ولا علم { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } المتجاوزين الحلال إلى الحرام .
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه } سره وعلانيته ، ثم أوعد بالجزاء فقال : { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } .
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } مما لم يذك ومات { وإنه } وإن أكله { لفسق } خروج عن الحق { وإن الشياطين } يعني : إبليس وجنوده وسوسوا { إلى أوليائهم } من المشركين ليخاصموا محمدا وأصحابه في أكل الميتة { وإن أطعتموهم } في استحلال الميتة { إنكم لمشركون } لأن من أحل شيئا مما حرمه الله فهو مشرك .
{ أو من كان ميتا فأحييناه } ضالا كافرا فهديناه { وجعلنا له نورا } دينا وإيمانا { يمشي به في الناس } مع المسلمين مستضيئا بما قذف الله في قلبه من نور الحكمة والإيمان { كمن مثله } كمن هو { في الظلمات } في ظلمات الكفر والضلالة { ليس بخارج منها } ليس بمؤمن أبدا . نزلت في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب { كذلك } كما زين للمؤمنين الإيمان { زين للكافرين ما كانوا يعملون } من عبادة الأصنام .
{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } يعني : كما أن فساق مكة أكابرها ، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها . يعني : رؤساءها ومترفيها { ليمكروا فيها } بصد الناس عن الإيمان { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وبال مكرهم يعود عليهم { وما يشعرون } أنهم يمكرون بها .
{ وإذا جاءتهم آية } مما أطلع الله عليه نبيه عليه السلام مما يخبرهم به { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فنصدق به ، وذلك أن كل واحد من القوم سأل أن يخص بالوحي ، كما قال الله : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } ، فقال الله سبحانه : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } يعني : أنهم ليسوا بأهل لها ، هو أعلم بمن يختص بالرسالة { سيصيب الذين أجرموا صغار } مذلة وهوان { عند الله } أي : ثابت لهم عند الله ذلك .
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يوسع قلبه ويفتحه ليقبل الإسلام { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } شديد الضيق { كأنما يصعد في السماء } إذا كلف الإيمان لشدته وثقله عليه { كذلك } مثل ما قصصنا عليك { يجعل الله الرجس } العذاب { على الذين لا يؤمنون } .
{ وهذا صراط ربك } هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك { مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } وهم المؤمنون .
{ لهم دار السلام } الجنة { عند ربهم } مضمونة لهم حتى يدخلهموها { وهو وليهم } يتولى إيصال الكرامات إليهم { بما كانوا يعملون } من الطاعات .
{ ويوم يحشرهم جميعا } الجن والإنس ، فيقال لهم : { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي : من إغوائهم وإضلالهم { وقال أولياؤهم } الذين أضلهم الجن { من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } يعني : طاعة الإنس للجن وقبولهم منهم ما كانوا يغرونهم به من الضلالة ، وتزيين الجن للإنس ما كانوا يهوونه حتى يسهل عليهم فعله { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني : الموت ، والظاهر أنه البعث والحشر { قال النار مثواكم } فيها مقامكم { خالدين فيها إلا ما شاء الله } من شاء الله ، وهم من سبق في علم الله أنهم يسلمون { إن ربك حكيم } حكم للذين استثنى بالتوبة والتصديق { عليم } علم ما في قلوبهم من البر .
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } كما خذلنا عصاة الجن والإنس نكل بعض الظالمين إلى بعض حتى يضل بعضهم بعضا .
{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } الرسل كانت من الإنس ، والذين بلغوا الجن منهم عن الرسل كانوا من الجن ، وهم النذر كالذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم من الجن ، فأبلغوه قومهم .
{ ذلك } الذي قصصنا عليك من أمر الرسل لأنه { لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } أي : بذنوبهم ومعاصيهم من قبل أن يأتيهم الرسول فينهاهم ، وهو معنى قوله : { وأهلها غافلون } أي : لكل عامل بطاعة الله درجات في الثواب ، ثم أوعد المشركين ، فقال : { وما ربك بغافل عما يعملون } .
{ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون}.
{ وربك الغني } عن عبادة خلقه { ذو الرحمة } بخلقه فلا يعجل عليهم بالعقوبة { إن يشأ يذهبكم } يعني : أهل مكة { ويستخلف من بعدكم } وينشئ من بعدكم خلقا آخر { كما أنشأكم } خلقكم ابتداء { من ذرية قوم آخرين } يعني : آباءهم الماضين .
{ إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين }.
{ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } على حالاتكم التي أنتم عليها { إني عامل } على مكانتي ، وهذا أمر تهديد . يقول : اعملوا ما أنتم عاملون ، إني عامل ما أنا عامل { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } أينا تكون له الجنة { إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد من كفر بالله وأشرك بالله .
{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام } كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم { نصيبا } وللأوثان نصيبا ، فما كان للصنم أنفق عليه ، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه ، وقالوا : إن الله غني عن هذا ، وإن سقط مما جعلوه للأوثان من نصيب الله التقطوه وردوه إلى نصيب الصنم ، وقالوا : إنه فقير ، فذلك قوله : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } ثم ذم فعلهم فقال : { ساء ما يحكمون } أي : ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوه لله على جهة التبرز إلى الأوثان .
{ وكذلك } ومثل ذلك الفعل القبيح { زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } يعني : الشياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة { ليردوهم } ليهلكوهم في النار { وليلبسوا عليهم دينهم } ليخلطوا ويدخلوا عليهم الشك في دينهم ، ثم أخبر أن جميع ما فعلوه كان بمشيئته ، فقال : { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } من أن لله شريكا .
{ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } حرموا أنعاما وحرثا ، وجعلوها لأصنامهم ، فقالوا : { لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } أعلم الله سبحانه أن هذا التحريم كذب من جهتهم { وأنعام حرمت ظهورها } كالسائبة والبحيرة والحامي { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } يقتلونها لآلتهم خنقا ، أو وقذا { افتراء عليه } أي : يفعلون ذلك للافتراء على الله ، وهو أنهم زعموا أن الله أمرهم بذلك .
{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعني : أجنة ما حرموها من البحائر والسوائب { خالصة لذكورنا } حلال للرجال خاصة دون النساء . هذا إذا خرجت الأجنة أحياء ، وإن كان ميتة اشترك فيها الرجال والنساء { سيجزيهم وصفهم } سيجزيهم الله جزاء وصفهم الذي هو كذب ، أي : سيعذبهم الله بما وصفوه من التحليل والتحريم الذي كله كذب { إنه حكيم عليم } أي : هو أعلم وأحكم من أن يفعل ما يقولون .
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم } بالوأد { سفها } للسفه { وحرموا ما رزقهم الله } من الأنعام . يعني : البحيرة وما ذكر معها .
{ وهو الذي أنشأ } أبدع وخلق { جنات معروشات } يعني : الكرم { وغير معروشات } ما قام على ساق ولم يعرش له ، كالنخل والشجر { والنخل والزرع مختلفا أكله } أكل كل واحد منهما ، وكل نوع من الثمر له طعم غير طعم النوع الآخر ، وكل حب من حبوب الزرع له طعم غير طعم الآخر { كلوا من ثمره إذا أثمر } أمر إباحة { وآتوا حقه يوم حصاده } يعني : العشر ونصف العشر { ولا تسرفوا } فتعطوا كله حتى لا يبقى لعيالكم شيء { إنه لا يحب المسرفين } يعني : المجاوزين أمر الله .
{ ومن الأنعام } وأنشأ من الأنعام { حمولة } وهي كل ما حمل عليها مما أطاق العمل والحمل { وفرشا } وهو الصغار التي لا يحمل عليها ، كالغنم ، والبقر ، والإبل الصغار { كلوا مما رزقكم الله } أي : أحل لكم ذبحه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في تحريم شيء مما أحله الله { إنه لكم عدو مبين } بين العداوة أخرج أباكم من الجنة ، وقال : لأحتنكن ذريته ، ثم فسر الحمولة والفرش فقال :
{ ثمانية أزواج } الذكر زوج ، والأنثى زوج ، وهي الضأن والمعز ، وقد ذكرا في هذه الآية ، والإبل والبقر ذكرا فيما بعد ، وجعلها ثمانية ، لأنه أراد الذكر والأنثى من كل صنف ، وهو قوله :{ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } والضأن : ذوات الصوف من المعز ، والغنم : ذوات الشعر { قل } يا محمد للمشركين الذين يحرمون على أنفسهم ما حرموا من النعم : { آلذكرين } من الضأن والمعز { حرم } الله عليكم { أم الأنثيين } فإن كان حرم من الغنم ذكورها ، فكل ذكورها حرام ، وإن كان حرم الأنثيين ، فكل الإناث حرام { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز ، فقد حرم الأولاد كلها ، وكلها أولاد فكلها حرام { نبئوني بعلم } أي : فسروا ما حرمتم بعلم إن كان لكم علم في تحريمه ، وهو قوله : { إن كنتم صادقين } .
{ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } هل شاهدتم الله قد حرم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول الله ؟! فلما لزمتهم الحجة بين الله تعالى أنهم فعلوا ذلك كذبا على الله ، فقال : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } الآية . يعني : عمرو بن لحي ، وهو الذي غير دين إسماعيل ، وسن هذا التحريم . ثم ذكر المحرمات بوحي الله ، فقال :
{ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } يعني : سائلا { أو فسقا أهل لغير الله به } يعني : ما ذبح على النصب .
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } يعني : الإبل ، والنعامة { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا } وهي المباعر { أو ما اختلط بعظم } فإني لم أحرمه . يعني : ما تعلق من الشحم بهذه الأشياء { ذلك } التحريم { جزيناهم ببغيهم } عاقبناهم بذنوبهم { وإنا لصادقون } في الإخبار عن التحريم ، وعن بغيهم ، فلما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حرم على المسلمين ، وما حرم على اليهود قالوا له : ما أصبت ، وكذبوه ، فأنزل الله تعالى :
{ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة } ولذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة { ولا يرد بأسه } عذابه إذا جاء الوقت { عن القوم المجرمين } يعني : الذين كذبوك بما تقول .
{ سيقول الذين أشركوا } إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب } جعلوا قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } حجة لهم على إقامتهم على الشرك ، وقالوا إن الله رضي منا ما نحن عليه وأراده منا ، وأمرنا به ، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه ، ولا حجة لهم في هذا ، لأنهم تركوا أمر الله وتعلقوا بمشيئته ، وأمر الله بمعزل عن إرادته ، لأنه مريد لجميع الكائنات ، غير آمر بجميع ما يريد ، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتبعه ، وليس له أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر ، فقال الله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي : كما كذبك هؤلاء كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم ، ولم يتعرض لقولهم :{ لو شاء الله } بشيء { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } من كتاب نزل في تحريم ما حرمتم { إن تتبعون إلا الظن } ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن لا العلم واليقين ، { وإن أنتم إلا تخرصون } وما أنتم إلا كاذبين .
{ قل فلله الحجة البالغة } بالكتاب والرسول والبيان { فلو شاء لهداكم أجمعين } إخبار عن تعلق مشيئة الله تعالى بكفرهم ، وأن ذلك حصل بمشيئته ، إذ لو شاء الله لهداهم .
{ قل هلم شهداءكم } أي : هاتوا شهداءكم وقربوهم ، وباقي الآية ظاهر .
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } أقرأ عليكم الذي حرمه الله ، ثم ذكر فقال : { أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } وأوصيكم بالوالدين إحسانا { ولا تقتلوا أولادكم } من أولادكم من مخافة الفقر { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } يعني : سر الزنا وعلانيته { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } يريد القصاص .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وهو أن يصلح ماله ويقوم فيه بما يثمره ، ثم يأكل بالمعروف إن احتاج إليه { حتى يبلغ أشده } أي : احفظوه عليه حتى يحتلم { وأوفوا الكيل } أتموه من غير نقص { والميزان } أي : وزن الميزان { بالقسط } بالعدل لا بخس ولا شطط { لا نكلف نفسا إلا وسعها } إلا ما يسعها ولا تضيق عنه ، وهو أنه لو كلف المعطي الزيادة لضاقت نفسه عنه ، وكذلك لو كلف الآخذ أن يأخذ بالنقصان { وإذا قلتم فاعدلوا } إذا شهدتم أو تكلمتم فقولوا الحق { ولو } كان المشهود له أو عليه { ذا قربى } .
{ وأن هذا } ولأن هذا { صراطي مستقيما } يريد : ديني دين الحنفية أقوم الأديان { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، وعبادة الأوثان { فتفرق بكم عن سبيله } فتضل بكم عن دينه { ذلكم } الذي ذكر { وصاكم } أمركم به في الكتاب { لعلكم تتقون } كي تتقوا السبل .
{ ثم آتينا } أي : ثم أخبركم أنا آتينا { موسى الكتاب تماما على الذي أحسن } أي : على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة ، وكتب الله المتقدمة ، أي : علمه، ومعنى : { تماما } على ذلك أي : زيادة عليه حتى تم له العلم بما آتيناه { وتفصيلا } أي : آتيناه للتمام والتفصيل ، وهو البيان { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب .
{ وهذا كتاب } يعني : القرآن { أنزلناه مبارك } مضى تفسيره في هذه السورة .
{ أن تقولوا } لئلا تقولوا : { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } يعني : اليهود والنصارى { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } وما كنا إلا غافلين عن تلاوة كتبهم ، والخطاب لأهل مكة ، والمراد : إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد عليه السلام كيلا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا ، وكنا غافلين عما فيهما ، وقوله :
{ وصدف عنها } أي : أعرض .
{ هل ينظرون } إذا كذبوك { إلا أن تأتيهم الملائكة } عند الموت لقبض أرواحهم ، وذكرنا معنى { ينظرون } في سورة البقرة { أو يأتي ربك } أي : أمره فيهم بالقتل { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني : طلوع الشمس من مغربها ، والمعنى : إن هؤلاء الذي كذبوك إما أن يموتوا فيقعوا في العذاب ، أو يؤمر فيهم بالسيف ، أو يمهلون قدر مدة الدنيا فيتوالدون ويتنعمون فيها ، فإذا ظهرت أمارات القيامة { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } قدمت طاعة وهي مؤمنة { قل انتظروا } أحد هذه الأشياء { إنا منتظرون } بكم أحدها .
{ إن الذين فرقوا دينهم } يعني : اليهود والنصارى ، أخذوا ببعض ما أمروا ، وتركوا بعضه ، كقوله إخبارا عنهم : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } { وكانوا شيعا } أحزابا مختلفة . بعضهم يكفر بعضا { لست منهم في شيء } يقول : لم تؤمر بقتالهم ، فلما أمر بقتالهم نسخ هذا .
{ من جاء بالحسنة } من عمل من المؤمنين حسنة { فله عشر أمثالها } كتبت له عشر حسنات { ومن جاء بالسيئة } الخطيئة { فلا يجزى إلا مثلها } أي : جزاء مثلها لا يكون أكثر منها { وهم لا يظلمون } لا ينقص ثواب أعمالهم .
{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا } أي : عرفني دينا { قيما } مستقيما .
{ قل إن صلاتي ونسكي } عبادتي من حجي وقرباني { ومحياي ومماتي لله رب العالمين } أي : هو يحييني وهو يميتني ، وأنا أتوجه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله لا إلى غيره ، وقوله :
{ وبذلك أمرت } بذلك أوحي إلي { وأنا أول المسلمين } من هذه الأمة .
{ قل أغير الله أبغي ربا } سيدا وإلها { وهو رب كل شيء } مالكه وسيده { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } لا تجني نفس ذنبا إلا أخذت به { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني : الوليد بن المغيرة ، كان يقول : اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم . فأنزل الله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } لا يحمل أحد جناية غيره حتى لا يؤاخذ بها الجاني .
{ وهو الذي جعلكم } يا أمة محمد { خلائف } الأمم الماضية في { الأرض } بأن أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } بالغنى والرزق { ليبلوكم في ما آتاكم } ليختبركم فيما رزقكم { إن ربك سريع العقاب } لأعدائه { وإنه لغفور } لأوليائه { رحيم } بهم .