ألف.<BR>لام.<BR>راء.<BR>تلك الحروف وأمثالها يتكون منها كلامكم - أيها العرب - هى التى تتكون منها آيات الكتاب المعجز بكل ما فيه.<BR>الواضح الموضح لمن يسترشد به، ويستهديه.<BR>وفى هذه الحروف الصوتية تنبيه لهم، فيستمعوا ولو اتفقوا على عدم السماع.
إنا أنزلنا على رسولنا بلغتكم - أيها العرب - كلامًا عربيًا يُقرأ ويحفظ، لكى تفهموه وتبلغوا الناس ما فيه.
نحن نلقى عليك - أيها النبى - أحسن القصص بإيحائنا إليك هذا الكتاب، وقد كنت قبل تلقيه من الذين غفلوا عما فيه، وعما اشتمل عليه من عظات وآيات بينات.
من ذلك القصص - أيها النبى - قصة يوسف (1)، إذ قال لأبيه: يا أبت، إنى رأيت فى منامى أحد عشر كوكبًا، والشمس والقمر، رأيتهم جميعًا خاضعين لى ساجدين أمامى.<BR>_______<BR>(1) يوسف - عليه السلام - هو ولد يعقوب العبرانى الكنعانى وقد بيع فى مصر فى عهد الغزاة الأجانب الذين يسمون بالهكسوس وهم فيما يبدو ساميون قدموا إلى مصر من بلاد الشام حيث احتلوا دلتا النيل حوالى عام 1730ق.<BR>م.<BR>قبل نهاية الأسرة الثالثة عشرة وحكموا مصر حوالى قرن ونصف قرن من الزمان حيث طردوا حوالى عام 1580ق.<BR>م.<BR>على يد أحمس الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة إلى ما وراء الحدود المصرية.
قال أبوه: يا بُنى، لا تَحْك لأخوتك هذه الرؤيا، فإنها تثير فى نفوسهم الحسد، فيغريهم الشيطان بتدبير الحيل ضدك.<BR>يحتالون للكيد لك ويمكرون بك، إن الشيطان للإنسان عدو ظاهر العداوة.
وكما رأيت نفسك فى المنام سيدًا مطاعًا، ذا شرف وسلطان، يصطفيك ربك ويختارك ويعلمك تفسير الرؤى، وبيان ما تؤول إليه، فيعظم قدرك وذكرك، ويتم الله نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، بالنبوة والرسالة كما أتمها على أبويك من قبل أبيك يعقوب، وهما إبراهيم وإسحاق، إن ربك كثير الحكمة فلا يخطئ، كثير العلم فيصطفى من عباده من يعلم أنه أهل للاصطفاء.
لقد كان فى قصة يوسف واخوته دلائل وعبر، للسائلين عنها والراغبين فى معرفتها.
إذ قال اخوة يوسف لأبيه فيما بينهم: لَيوسف وأخوه الشقيق أحب إلى أبينا منا، ونحن جماعة قوية هى أنفع له منهما، إن أبانا بإيثاره يوسف وأخاه علينا لفى خطأ وبعد عن الحق، والصواب واضح، ظاهر الوضوح.
اقتلوا يوسف أو ألقوا به فى أرض بعيدة عن أبيه، لا يصل إليها، يخلص لكم حب أبيكم وإقباله عليكم، وتكونوا من بعد إبعاد يوسف عنه بالقتل أو النفى قومًا صالحين إذ يقبل الله توبتكم، ويقبل أبوكم اعتذاركم.
قال أحد المتحدثين منهم: لا تقتلوا يوسف، فإن ذلك جرم عظيم، وألقوه فيما يغيب عن العيون من غور البئر، يلتقطه بعض السائرين فى الطريق، إذا ألقى دلوه فى البئر، فيذهب به بعيدًا عنكم وعن أبيه، إن كنتم مصرين على إبعاده وتحقيق غرضكم بالفعل.
قالوا بعد أن تم اتفاقهم على إبعاد يوسف: يا أبانا ما الذى رابك منا حتى تبعد يوسف عنا، ولا تشعر بالأمن إذا كان معنا؟ نحن نؤكد لك أننا نحبه، ونشفق عليه، ونريد له الخير، ونرشده إليه، وما وجد منا غير الحب وخالص النصح.
أرسله معنا إلى المراعى غدًا، يتمتع بالأكل الطيب، ويلعب ويمرح وإنا لحريصون على المحافظة عليه، ودفع الأذى عنه.
قال: إننى لأشعر بالحزن إذا ذهبتم بعيدًا عنى.<BR>.<BR>وأخاف إذا أمنتكم عليه أن يأكله الذئب وأنتم فى غفلة عنه.
قالوا: نقسم لك، لئن أكله الذئب، ونحن جماعة قوية، ليكونن ذلك العار والخسار، إنا إذا حدث هذا الذى تخشاه، لخاسرون لكل ما يجب الحرص عليه وعدم التفريط فيه.<BR>فاطمئن فلن نتهاون فى المحافظة عليه لأننا بذلك نعرّض أنفسنا للضياع والهوان.
فلما مضوا به بعيدًا عن أبيه، وأجمعوا رأيهم فى إلقائه فى غور البئر، أنفذوا ما عزموا عليه، وألهمناه الاطمئنان والثقة بالله وأنه سيخبرهم بأمرهم هذا الذى دَبَّروه وقدموا عليه، وهم لا يشعرون حين تخبرهم أنك أخوهم يوسف الذى ائتمروا به، وظنوا أنهم قضوا عليه واستراحوا منه.
ورجعوا إلى أبيهم وقت العشاء، يظهرون الحزن ويرفعون أصواتهم بالبكاء.
قالوا: يا أبانا، إننا مضينا نتسابق فى الرمى والجرى، وتركنا يوسف عند متاعنا ليحرسه، فأكله الذئب ونحن بعيدون عنه، مشغولون بالتسابق دونه، وما أنت بمصدق لنا فيما نقوله لك، ولو كان ما نقوله: الحق والصدق.
وأحضروا قميصه وعليه دم يشهد بادعائهم، إذ زعموا أنه دم يوسف ليصدقهم أبوهم، ولكنه قال: إن الذئب لم يأكله كما زعمتم، بل قد سولت لكم أنفسكم أمرًا عظيمًا فأقدمتم عليه، فشأنى صبر جميل لا يصحبه الجزع على ما أصابنى منكم، والله - وحده - الذى يُطْلَب منه العون على ما تزعمون وتدعون من الباطل.
وجاءت جهة البئر جماعة كانت تسرع فى السير إلى مصر، فأرسلوا مَن يرد الماء منهم ويعود إليهم من البئر بما يسقيهم، فألقى دلوه فيه ورفعه منه فإذا يوسف متعلق به.<BR>.<BR>قال واردهم يعلن ابتهاجه وفرحه يا للخير ويا للخبر السار.<BR>.<BR>هذا غلام.<BR>.<BR>وأخفوه فى أمتعتهم، وجعلوه بضاعة تُباع، والله محيط علمه بما كانوا يعملون.
وباعوه فى مصر بثمن دون قيمته، كان الثمن دراهم قليلة، وكانوا فى يوسف من الزاهدين الراغبين عنه، لخوفهم أن يدركهم أهله ويعرفوه بينهم وينتزعوه منهم.
وقال الذى اشتراه من مصر لزوجته: أحسنى معاملته وأكرميه حتى تطيب له الإقامة معنا، لعله ينفعنا أو نتبناه ونتخذه ولدًا لنا، وكما كانت هذه المكانة عظيمة وهذه الإقامة كريمة جعلنا ليوسف فى أرض مصر مكانة أخرى كبرى، ليتصرف فيها بالعدل وحسن التدبير، لنعلمه تفسير الأحاديث والرؤى فيعرف منها ما سيقع قبل أن يقع ويستعد له، والله قوى قادر على تنفيذ كل أمر يريده، لا يُعجزه شىء عن شىء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون خفايا حكمته ولطف تدبيره.
ولما بلغ يوسف أقصى قوته أعطيناه حكمًا صائبًا، وعلمًا نافعًا، ومثل هذا الجزاء الذى أعطيناه إياه على إحسانه، نجزى المحسنين على إحسانهم.
وأرادت التى هى كان هو يعيش فى بيتها، ويشعر بسلطانها، أن تغريه بنفسها، لتصرفه عن نفسه الطاهرة إلى مواقعتها، فأخذت تذهب وتجىء أمامه، وتعرض عليه محاسنها ومفاتنها، وأوصدت الأبواب الكثيرة، وأحكمت إغلاقها، وقالت: أقبل علّى فقد هيأت لك نفسى، قال: إنى ألجأ إلى الله ليحمينى من الشر، وكيف أرتكبه معك وزوجك العزيز سيدى الذى أحسن مقامى؟ إنه لا يفوز الذين يظلمون الناس بالغدر والخيانة فيوقعون أنفسهم فى معصية الزنى.
ولقد عزمت أن تخالطه ونازعته نفسه إليها، لولا أن رأى نور الله الحق نُصْبَ عينيه قد استضاء به، ولم يطاوع ميل النفس، وارتفع عن الهوى، فامتنع عن المعصية والخيانة وثبت على طهره وعفته.<BR>وهكذا ثبتنا يوسف على الطهر والعفاف لنصرف عنه سوء الخيانة ومعصية الزنى، إنه من عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله.
وأسرع يوسف إلى الباب يريد الخروج منه، فأسرعت تحاول أن تسبقه إليه، لتحول دون خروجه، وجذبت قميصه من خلفه تمنعه، وقطعته.<BR>.<BR>ووجدا عند الباب زوجها، قالت تثيره عليه: لا جزاء لمن أراد بزوجك ما يسوؤك إلا السجن يوضع فيه، أو عذاب مؤلم يقع عليه.
قال يوسف يدافع عن نفسه: هى طلبتنى، وحاولت أن تخدعنى عن نفسى، وتخاصما فى الاتهام، فحكم حكَم من أهلها فقال: إن كان قميصه شق من أمام، فقد صدقت فى ادعائها، وهو من الكاذبين فيما أخبر به.
وإن كان قميصه شق من خلف، فقد كذبت فى قولها، وهو من الصادقين فيما قال.
فلما رأى الزوج قميص يوسف قُدَّ مِن خلف، قال لزوجته: إن اتهامك له بما وقعت أنت فيه مع براءته هو من كيدكن - معشر النسوة - إن مكركن عظيم.
يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، واكتمه ولا تذكره، واستغفرى أنت لذنبك، إنك كنتِ من الآثمين الذين تعمدوا الوقوع فى الخطأ وارتكاب الإثم، واتهموا غيرهم بما أثموا هم به.
وانتهى الخبر إلى جماعة من النساء فى المدينة، فتحدثن وقلن: إن امرأة العزيز تغرى خادمها وتخدعه عن نفسه ليطيعها فيما تريده منه، قد خالط حبُّه شغاف قلبها حتى وصل إلى صميمه، إنا نعتقد أنها بمسلكها معه فى ضلال واضح وخطأ بيِّن.
فلما سمعت باغتيابهن وسوء كلامهن فيها، دعتهن إلى بيتها، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا، بعد أن حضرن وجلسن متكئات، وقُدِّم لهن الطعام ليأكلن بالسكاكين ما تناله منه أيديهن.<BR>وقالت ليوسف: اخرج عليهن، فلما ظهر ورأينه أعظمنه وأخذهن حسنُه الرائع وجماله البارع، فجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، وهن يأكلْن طعامهن، قلن متعجبات مندهشات: تنزيهًا لله، ما هذا الذى نراه بشرًا؛ لأن البشر لا يكون على هذا الحسن والجمال والصفاء والنقاء، ما هذا إلا ملك كثير المحاسن طيب الشمائل، سخى الصفات.
قالت امرأة العزيز تُعقّب على كلامهن: فذلك الفتى الذى بهركن حسنه، وأذهلكن عن أنفسكن حتى حصل ما حصل، هو الذى لُمْتُنَّنى فى شأنه، ولقد طلبته وحاولت إغراءه ليستجيب لى فامتنع وتأبى، كأنه فى عصمة كان يستزيد منها، وأُقسم إن لم يفعل ما آمره به ليعاقبن بالسجن وليكونَنّ من الأذلاء المهينين.
قال يوسف - وقد سمع منها التهديد والوعيد، وسمع منهن النصح بمطاوعتها - يا رب: السجن أحب إلى نفسى مما يطلبنه منى لأن فى هذا معصيتك، وإن لم تحوّل عنى شر مكرهن وكيدهن أمِل إليهن، وأكن من السفهاء الطائشين.
فاستجاب الله له، فصرف عنه شر مكرهن، إنه هو - وحده - السميع لدعوات الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم.
ثم ظهر رأى للعزيز وأهله، من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف فأجمعوا على هذا الرأى، وأقسموا على تنفيذه، وهو أن يدخلوه السجن إلى زمن يقصر أو يطول، لكى يدفع مقالة السوء عن امرأته ويُبْعدها عن الغواية.
ودخل السجن مع يوسف فتيان من خدام الملك، قال له أحدهما: لقد رأيت فى منامى أنى أعصر عنبًا ليكون خمرًا، وقال له الآخر: لقد رأيت أنى أحمل فوق رأسى خبزًا تأكل منه الطير، خبّرنا يا يوسف بتفسير هذا الذى رأيناه ومآل أمرنا على هداه.<BR>إنا نعتقد أنك من الذين يتصفون بالإحسان وإجادة تفسير الرؤى.
قال لهما - يؤكد ما علماه عنه - لا يأتيكما طعام يُساق إليكما رزقًا مقدرًا لكما إلا أخبرتكما بمآله إليكما قبل أن يأتيكما، وذكرت لكما صنعته وكيفيته، ذلكما التأويل للرؤيا والإخبار بالمغيبات مما علمنى ربى وأوحى به إلىَّ.<BR>لأنى أخلصت له عبادتى، ورفضت أن أشرك به شيئًا، وابتعدت عن دين قوم لا يصدقون بالله، ولا يؤمنون به على وجه صحيح، وهم بالآخرة وحسابها منكرون كافرون.
تركت ملة هؤلاء الكافرين، واتبعت دين آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فعبدت الله - وحده - فما صح لنا أن نجعل لله أى شريك من أى شىء كان، من مَلَك أو جنى أو إنسى، فضلا عن الأصنام التى لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، ذلك التوحيد مما تفضل به الله علينا وعلى الناس، إذ أُمرنا بتبليغه إليهم، ولكن أكثر الناس لا يتلقون هذا الفضل بالشكر بل بالكفر.
يا صاحبى فى السجن: أأرباب شتى كثيرة يخضع المرء لكل واحد منها خير، أم الله الواحد الذى لا يغالب؟.
ما تعبدون من غير الله إلا أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم على أوهام لا وجود لها، ما أنزل الله بتسميتها آلهة من حُجة وبرهان، ما الحكم فى أمر العبادة وفيما يصح أن يعبد وما لا تصح عبادته، إلا لله أمر ألا تخضعوا لغيره وأن تعبدوه - وحده - ذلك الدين السليم القويم الذى تهدى إليه الأدلة والبراهين، ولكن أكثر الناس لا يسترشدون بهذه الأدلة، ولا يعلمون ما هم عليه من جهل وضلال.
يا صاحبى فى السجن، إليكما تفسير مناميكما: أمَّا أحدكما الذى عصر العنب فى رؤياه فيخرج من السجن ويكون ساقى الخمر للملك، وأما الثانى فيُصلَب ويُترك مصلوبًا فتقع عليه الطير وتأكل من رأسه، تم الأمر على الوجه الذى بينته فيما تطلبان فيه تأويل الرؤيا.
وقال للذى توقع النجاة منهما: اذكرنى عند الملك بصفتى وقصتى عساه ينصفنى وينقذنى مما أعانيه، فشغله الشيطان وأنساه أن يذكر للملك قصة يوسف، فمكث يوسف فى السجن سنين لا تقل عن ثلاث.
وقال الملك: إنى رأيت فى منامى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ضعاف، ورأيت سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات أخر يابسات.<BR>.<BR>يا أيها الكبراء من العلماء والحكماء أفتونى فى رؤياى هذه إن كنتم تعرفون تفسير الرؤى وتفتون فيها.
قالوا: هذه أخلاط أحلام باطلة، ووساوس تهجس فى النفس، وما نحن بتفسير الأحلام الباطلة بعالمين.
وقال الذى نجا من صاحبى يوسف فى السجن، وتذكَّر بعد مضى مدة طويلة وصية يوسف، أنا أخبركم بتأويل الحديث الذى ذكره الملك، فأرسلونى إلى من عنده علم بتأويله آتكم بنبئه.
مضى الساقى إلى يوسف حتى جاءه فناداه: يوسف - أيها الحريص على الصدق - أفتنا فى رؤيا سبع بقرات سمان يأكلهن سبع ضعاف، وفى رؤيا سبع سنبلات خضر وأخر يابسات.<BR>أرجو أن أرجع إلى الناس بفتواك عساهم يعلمون معناها، ويعرفون لك علمك وفضلك.
قال يوسف: تفسير هذه الرؤيا أنكم تزرعون الأرض قمحًا وشعيرًا سبع سنين متواليات دائبين على العمل فى الزراعة، فما تحصدونه احفظوه فاتركوه فى سنبله، إلا قليلا مما تأكلونه فى هذه السنين، مع الحرص على الاقتصاد (1).<BR>________<BR>(1) تتفق هذه الآية مع ما وصل إليه العلم من أن ترك الحب فى سنابله عند تخزينه وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات، وفوق ذلك يبقيه محافظًا على محتوياته الغذائية كاملة.
ثم يأتى بعد هذه السنين المخصبة سبع سنين مجدبة، تأكل ما ادخرتم لها، إلا قليلا مما تخبئونه وتحفظونه، ليكون بذرًا لما تزرعونه بعد ذلك.
تنبه الملك إلى يوسف بسبب تعبيره لرؤياه، وعزم على استدعائه فأمر أعوانه أن يحضروه، فلما أتاه من يبلغه رغبة الملك لم يستخِفَّه الخبر، رغم ما يحمل من بشرى الفرج ولم تزعزع حلمه لهفة السجين على الخلاص من ضيق السجن ووحشته، وآثر التمهل حتى تظهر براءته، على التعجل بالخروج وآثار التهمة عالقة بأردافه، فقال للرسول: عُدْ إلى سيدك واطلب منه أن يعود إلى تحقيق تهمتى، فيسأل النسوة اللواتى جمعتهن امرأة العزيز كيدًا لى، فغلبهن الدهش وقطعن أيديهن: هل خرجن من التجربة معتقدات براءتى وطهرى، أو دنسى وعهرى؟ إنى أطلب ذلك كشفًا للحقيقة فى عيون الناس، أما ربى فإنه راسخ العلم باحتيالهن.
فاستحضر الملك النسوة وسألهن: ماذا كان حالكن حين حاولتن خداع يوسف ليغفل عن عصمته وطهارة نفسه؟ هل وجدتن منه ميلا إليكن؟ فأجبنه: تنزه الله عن أن يكون نسى عبده حتى تلوث طهره، فما لمسنا فيه شيئا يشين.<BR>وحينئذٍ قويت نزعة الخير فى نفس امرأة العزيز، فاندفعت تقول: الآن وضح الحق وظهر.<BR>أنا التى خاتَلْته وحاولت فتنته عن نفسه بالإغراء فاستمسك بعصمته، وأؤكد أنه من أهل الصدق والحق حين رد التهمة علىّ ونسبها إلىّ.
هذا اعتراف منى بالحق أُقَدِّمه، ليستيقن يوسف أنى لم أستغل غيبته فى السجن، وأتمادى فى الخيانة، وأعول على تثبيت اتهامه، ولأن الله لا ينجح تدبير الخائنين.
وما أدَّعى عِصمةَ نفسى من الزلل، فإن النفس تميل بطبعها إلى الشهوات وتزيين السوء والشر، إلا نفس من حفظه الله وصرفه عن السوء.<BR>وإنى لأطمع فى رحمة الله وغفرانه، لأنه واسع الغفران لذنوب التائبين، قريب لا ينجح تدبير الخائنين.
فلما ظهرت براءة يوسف عند الملك، صمم على استدعائه، وكلف رجاله أن يحضروه ليجعله من خاصته وخلصائه، فلما حضر إليه وجرى بينهما الحديث، تجلى له من يوسف ما تجلى من طهارة النفس وثقوب الرأى فقال له: إن لك فى نفسى لمقامًا كريمًا ثابتًا وأنت الأمين الموثوق به.
وعلم الملك منه حسن التدبير وكفاءته لما يقوم به، وأحسَّ يوسف بذلك، وحينئذ طلب منه أن يستوزره قائلا له: وَلّنى على خزائن ملكك ومستودعات غلات أرضك، لأنى كما تأكد لديك ضابط لأمور المملكة، حافظ لها، خبير بالتدبير وتصريف الأمور.
وقبل الملك عرضه، فاستوزره، وبذلك أنعم الله على يوسف نعمة جليلة، فجعل له سلطانًا وقدرة فى أرض مصر، ينزل منها بأى مكان يريد.<BR>وهذا شأن الله فى عباده، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ولا يهدر ثوابهم وإنما يؤتيهم أجورهم على الإحسان بالإحسان فى الدنيا.
وأن ثوابه فى الآخرة لأفضل وأوفى لمن صدقوا به وبرسله، وكانوا يراقبونه ويخافون يوم الحساب.
واشتد القحط بما حول مصر، ونزل بآل يعقوب ما نزل بغيرهم من الشدة، وقصد الناس مصر من كل مكان، بعد ما علموا من تدبير يوسف للمؤن، واستعداده لسنوات الجدب.<BR>فبعث يعقوب إليها أبناءه طلبًا للطعام، واحتجز معه ابنه شقيق يوسف خوفًا عليه، فلما بلغ أبناؤه مصر توجهوا من فورهم إلى يوسف، فعرفهم دون أن يعرفوه.
وأمر يوسف أن يُكرَّموا فى ضيافته، ويُدفع لهم من الميرة ما طلبوه فتم لهم ذلك، وأخذ يُحدثهم، ويسأل عن أحوالهم سؤال الجاهل بها، وهو بها عليم، فأخبروه أنهم تركوا أخا لهم حرص أبوهم ألا يفارقه، وهو بنيامين شقيق يوسف، فقال: ليحضر معكم أخوكم، ولا تخافوا شيئًا، فقد رأيتم إيفاء كيلكم وإكرامى لكم فى نزولكم.
فإن لم تحضروا أخاكم هذا، فليس عندى لكم طعام، ولا تحاولوا أن تأتونى مرة أخرى.
قال إخوته: سنحتال على أبيه لينزل عن إرادته ولا يخاف عليه، ونؤكد لك أننا لن نقصر فى ذلك أو نتوانى فيه.
ولما هموا بالرحيل، قال لأتباعه: ضعوا ما قدَّموه من ثمن بضاعتهم فى أمتعتهم، عساهم يرونها إذا عادوا إلى أهلهم، فيكون ذلك أرجى لعودتهم مؤملين فى إعطائهم الطعام، واثقين بالوفاء بالعهد، وآمنين على أخيهم وليبعثوا الطمأنينة فى نفس أبيهم.
فلما عادوا إلى أبيهم قصوا عليه قصتهم مع عزيز مصر، وتلطفه بهم، وأنه أنذرهم بمنع الكيل لهم فى المستقبل إن لم يكن معهم بنيامين، وواعدهم بوفاء الكيل لهم، وإكرام منزلتهم إن عادوا إليه بأخيهم، وقالوا له: ابعث معنا أخانا فإنك إن بعثته اكْتلنا ما نحتاج إليه من الطعام وافيًا، ونعدك وعدًا مؤكدًا أنا سنبذل الجهد فى المحافظة عليه.
وثارت فى نفس يعقوب ذكريات الماضى، فربطها بالحاضر، وقال لبنيه: إن أمرى إذا استجبت لكم لعجيب فلن تكون حالى حين آمنكم على أخيكم إلا مثل حالى حين ائتمنتكم على يوسف فأخذتموه، ثم عدتم تقولون: أكله الذئب، فالله حسبى فى حماية ابنى، ولا أعتمد إلا عليه، فهو أقوى حافظ، ورحمته أوسع من أن يفجعنى بعد يوسف فى أخيه.
وكان إخوة يوسف يجهلون أن يوسف وضع أموالهم فى حقائبهم، فلما فتحوها ووجدوا الأموال عرفوا جميل ما صنع بهم يوسف، وتذرعوا بذلك إلى بث الطمأنينة فى قلب يعقوب، وإقناعه بالاستجابة إلى ما طلب العزيز وبالغوا فى استمالته، فذكروه بما بينه وبينهم من رباط الأبوة، فقالوا: يا أبانا أى شىء تريده أجمل مما جرى وينتظر أن تجرى به الأحداث؟ هذه أموالنا أعيدت إلينا دون أن يحتجز منها شىء، فنسافر مع أخينا ونجلب الميرة لأهلنا، ونرعى أخانا، ويزيد ميرتنا حمل بعير لحق أخينا، فقد رسم العزيز أن يعطى الرجل حمل بعير.
ونجحت محاولة أبناء يعقوب فى إقناعه، وأثَّر مقالهم فيه، فنزل عن التشدد فى احتجاز ابنه وحبسه عن الذهاب مع إخوته إلى مصر، ولكن قلبه لا يزال فى حاجة إلى ما يزيد اطمئنانه ولذلك قال لهم: لن أبعثه معكم إلا بعد أن تعطونى ضمانًا قويًا، فتعاهدوا الله عهدًا موثقًا أن تعيدوه إلىّ، وألا يمنعكم عن ردِّه إلا أن تُهلكوا أو يحيط بكم عدو يغلبكم عليه فاستجابوا له، وقدَّموا ما طلب من المواثيق، وعندئذ أشهد الله على عهودهم وأيمانهم بقوله: الله على ما دار بيننا مطلع رقيب.
اطمأن يعقوب إلى عهد أبنائه، ثم دفعته الشفقة عليهم إلا أن يوصيهم عند دخولهم مصر بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، لكيلا يلفتوا الأنظار عند دخولهم، ولا تترقبهم الأعين، وقد يكون ما يسيئهم، وليس فى قدرتى أن أدفع عنكم أذى، فالدافع للأذى هو الله وله - وحده - الحكم، وقد توكلت عليه وفوضت إليه أمرى وأمركم، وعليه - وحده - يتوكل الذين يفوضون أمورهم إليه مؤمنين به.
لقد استجابوا لوصية أبيهم، فدخلوا من أبواب متفرقة، وما كان ذلك ليدفع عنهم أذى كتبه الله لهم، وإن يعقوب ليعلم ذلك، فإنه ذو علم علَّمناه إيَّاه، ولكن وصيته كانت لحاجة فى نفسه، وهى شفقة الأب على أبنائه أعلنها فى هذه الوصية، وأن أكثر الناس لا يعلمون مثل علم يعقوب، فيفوضون لله ويحترسون.
ولما دخلوا على يوسف أنزلهم منزلاً كريمًا، واختص أخاه شقيقه بأن آواه إليه، وأسرَّ إليه قائلاً: إنى أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يصنعون معك وما صنعوه معى.
فبعد أن أكرم وفادتهم، وكالهم الطعام، وزادهم حملا لأخيه، أعد رحالهم للسفر، ثم أمر أعوانه أن يدسوا إناء شرب الماء فى حمل بنيامين، ثم نادى أحد أعوان يوسف: - أيها الركب القافلون بأحمالكم - قفوا إنكم لسارقون.
فارتاع إخوة يوسف للنداء، واتجهوا إلى المنادين يسألونهم، ما الذى ضاع منكم وعم تبحثون؟.
فأجابهم الأعوان: نبحث عن الصواع، وهو إناء الملك الذى يشرب به، ومكافأة من يأتى به حمل جمل من الطعام، وأكد رئيسهم ذلك، فقال: وأنا بهذا الوعد ضامن وكفيل.
قال إخوة يوسف: إن اتهامكم إيّانا بالسرقة لعجيب، ونؤكد بالقسم أن فيما ظهر لكم من أخلاقنا وتمسكنا بديننا فى مرتى مجيئنا ما يؤكد علمكم أننا لم نأت بغية الإفساد فى بلادكم، وما كان من أخلاقنا أن نكون من السارقين.
وكان يوسف قد أوحى إلى أتباعه أن يكلوا إلى إخوته تقدير الجزاء الذى يستحقه من وجد الصواع عنده، تمهيدًا لأخذ أخيه منهم بحكمهم، وليكون قضاؤهم مبرمًا لا وجه للشفاعة فيه، فقالوا لهم: فماذا يكون جزاء السارقين عندكم إن ظهر أنه منكم؟
ولوثوق أبناء يعقوب بأنهم لم يسرقوا الصواع، قالوا غير متلجلجين: جزاء من أخذ الصواع أن يؤخذ رقيقًا، فبمثل هذا الجزاء نجازى الظالمين الذين يأخذون أموال الناس.
وانتهى الأمر إلى تفتيش الرحال، وكان لابد من الإحكام حتى لا يظهر فى تنفيذ الخطة افتعال، وتولى يوسف التفتيش بنفسه، بعد أن مهّد الأمر، فبدأ بتفتيش أوعية العشرة الأشقاء، ثم انتهى إلى تفتيش وعاء أخيه، فأخرج السقاية منه، وبذلك نجحت حيلته، وحق له بقضاء إخوته أن يحتجز بنيامين، وهكذا دبَّر الله الأمر ليوسف فما كان فى استطاعته أخذ أخيه بمقتضى شريعة ملك مصر إلا بإرادة الله وقد أرادها فدبَّرنا الأمر ليوسف ووفقناه إلى ترتيب الأسباب وإحكام التدبير والتلطف فى الاحتيال، وهذا من فضل الله الذى يعلى فى العلم منازل من أراد، وفوق كل صاحب علم مَن هو أعظم، فهناك من يفوقه فى علمه.
وكان إخراج الصواع من حقيبة أخيه مفاجأة أخجلت إخوته، فتنصلوا باعتذار يبرئ جماعتهم دونه، ويطعنه هو ويوسف، ويوحى بأن السرقة طبع ورثاه من قبل الأم، وقالوا: ليس بعجيب أن تقع منه سرقة إذ سبقه إلى ذلك أخوه الشقيق، وفطن يوسف إلى طعنهم الخفى، فساءه، ولكنه كتم ذلك، وأضمر فى نفسه جوابًا لو صارحهم به لكان هذا الجواب: أنتم أسوأ منزلة وأحط قدرا، والله أعلم وأصدق علمًا بكلامكم الذى تصفون به أخاه بوصمة السرقة.
ولم يكن بد من محاولة لتخليص أخيهم أو افتدائه، رجاء أن تصدق مواثيقهم ليعقوب، فاتجهوا إلى ترقيق قلب يوسف بحديث الأبوة فى شيخوختها وقالوا له: - يا أيها العزيز - إن لأخينا أبًا طاعنًا فى السن، فإن رحمته قبلت واحدًا منا ليلقى الجزاء بدل ابنه هذا الذى تعلق به قلبه، وأملنا أن تقبل الرجاء، فقد جربنا عادتك الكريمة، وتأكد لنا انطباعكم عن حب الإحسان وعمل المعروف.
وما كان ليوسف أن ينقض تدبيرا وفَّقه الله إليه، ويفلت من يده أخاه، ولذلك لم يلنه استعطافهم، وردَّهم ردَّاً حاسمًا، وقال لهم: إنى ألجأ إلى الله منزهًا نفسى عن الظلم فأحتجز غير من عثرنا على ما لنا معه، إذ لو أخذنا سواه بعقوبته لكنا من المعتدين الذين يأخذون البرىء بذنب المسىء.
فلما انقطع منهم الأمل، ويئسوا من قبول الرجاء، اختلوا بأنفسهم يتشاورون فى موقفهم من أبيهم، فلما انتهى الرأى إلى كبيرهم المدبر لشئونهم قال لهم: ما كان ينبغى أن تنسوا عهدكم الموثق بيمين الله لأبيكم أن تحافظوا على أخيكم حتى تردوه إليه، ولأنكم عاقدتموه من قبل على صيانة يوسف ثم ضيعتموه، ولذلك سأبقى بمصر لا أفارقها، إلا إذا فهم أبى الوضع على حقيقته، وسمح لى بالرجوع إليه، أو قضى الله لى بالرجوع الكريم، ويسره لى بسبب من الأسباب، وهو أعدل الحاكمين.
عودوا - أنتم - إلى أبيكم وقصوا له القصة، وقولوا: له إن يد ابنك امتدت إلى صواع الملك فسرقها وقد ضبطت فى حقيبته وعوقب على ذلك باسترقاقه وما أخبرناك إلا بما عايناه، وما كنا مطلعين على المستور من قضاء الله حين طلبناه وأعطيناك على حفظه وردِّه إليك العهود والمواثيق وهو أعدل الحاكمين.
وإن كنت فى شك مما بلغناك، فأرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واستشهد أنت بنفسك رفاقنا الذين عدنا معهم فى القافلة، لتظهر لك براءتنا، ونؤكد لك أننا صادقون فيما نقول.
فرجع بقية الأبناء إلى يعقوب، وخبَّروه كما وصَّاهم أخوهم الكبير فَهَيَّج الخبر أحزانه، وضاعف منها فقد ابنه الثانى، ولم تطب نفسه ببراءتهم من التسبب فى ضياعه وهو المفجوع بما صنعوا من قبل فى يوسف، وصرح باتهامهم قائلا لهم: ما سلمت نيتكم فى المحافظة على ابنى، ولكن زينت لكم نفوسكم أن تخلصتم منه مثلما تخلصتم من أخيه، فلولا فتواكم وحكمكم أن يؤخذ السارق رقيقًا عقوبة له على السرقة، ما أخذ العزيز ابنى، ولا تخلف أخوكم الكبير بمصر، ولا حيلة لى إلا أن أتجمل فى مصيبتى بالعزاء الحميد، راجيًا أن يرد الله على جميع أبنائى، فهو صاحب العلم المحيط بحالى وحالهم، وله الحكمة البالغة، فيما يصنع لى ويُدبِّر.
وضاق بما قالوا فأعرض عنهم خاليًا بنفسه، مشغولا بأساه وأسفه على فَقْد يوسف فذهب سواد عينيه من شدة الحزن، وقد كظم غيظه وألمه أشد الكظم (1).<BR>يا بنى ارجعوا إلى مصر فانضموا إلى أخيكم الكبير، وابحثوا عن يوسف وأخيه وتطلَّبوا أخبارهما فى رفق لا يشعر به الناس، ولا تقنطوا من أن يرحمنا اللَّه بردهما، لأنه لا يقنط من رحمة اللَّه غير الجاحدين.
وتوالت الأيام ويعقوب مسترسل فى لوعته، وخشى أبناؤه سوء العاقبة، فاتجهوا إلى مراجعته وحمله على التخفيف من شدة حزنه، وقالوا له - وهم بين الإشفاق عليه والغيظ من دوام ذكره ليوسف -: لئن لم تخفف عن نفسك لتزيدن ذكرى يوسف آلامك وأوجاعك، إلى أن يذيبك الغم فتشرف على الموت، أو تصبح فى عداد الميتين.
ولم يؤثر قولهم فيه، فردهم قائلاً: ما شكوت لكم، ولا طلبت منكم تخفيف لوعتى، وليس لى إلا اللَّه أضرع إليه وأشكو له همومى صعبها وسهلها، وما أستطيع كتمانه منها وما لا أستطيع، لأنى أدرك من حسن صنعه وسعة رحمته ما لا تدركون.
والثقة فى اللَّه تحيى الأمل ولذلك لم يذهب الغم برجاء يعقوب فى عودة ولديه إليه، وألقى فى روعه أنهما من الأحياء، وأن موعد التقائه بهما قد حان، فأمر بنيه أن ينقبوا عنهما، قائلا لهم:
واستجاب إخوة يوسف لطلب أبيهم، فذهبوا إلى مصر، وتحايلوا لمقابلة حاكمها الذى ظهر لهم من بعد أنه يوسف، فلما دخلوا عليه، قالوا - يا أيها العزيز - مسَّنا نحن وعشيرتنا الجوع وما يتبعه من ضر الأجسام والنفوس، وجئنا إليك بأموال قليلة هى بضاعتنا وهى ترد لقلتها ورداءتها، وليست كفاء ما نرجوه منك، لأننا نرجو منك وفاء الكيل فأوفه لنا، وأجعل الزائد عن حقنا صدقة علينا، إن اللَّه تعالى يثيب المتصدقين بأحسن الثواب.
أخذت يوسف الشفقة الأخوية الرحيمة التى تعفو عن الإساءة، وابتدأ يكشف أمره لهم قائلا فى عتب، هل أدركتم قبح ما فعلتموه بيوسف من إلقائه فى الجب، وبأخيه من أذى، مندفعين فى ذلك بجهل أنساكم الرحمة والأخوة؟
نبهتهم تلك المفاجأة السارة إلى إدراك أن هذا يوسف، فتفحصوه، ثم قالوا مؤكدين: إنك لأنت يوسف حقا وصدقا، فقال يوسف الكريم مصدقا لهم: أنا يوسف، وهذا أخى، قد مَنَّ اللَّه علينا بالسلامة من المهالك، وبالكرامة والسلطان، وكان ذلك جزاء من اللَّه لإخلاصى وإحسانى، وإن اللَّه لا يضيع أجر من يُحسن ويستمر على الإحسان.
فقالوا: صدقت فيما قلت، ونؤكد لك بالقسم أن الله فضَّلك بالتقوى والصبر وحسن السيرة وأثابك بالملك وعلو المكانة، وإنما كنا آثمين فيما فعلنا بك وبأخيك، فأذلنا اللَّه لك، وجزانا جزاء الآثمين.
فرد عليهم - النبى الكريم - قائلاً: لا لوم عليكم اليوم، ولا تأنيب، ولكم عندى الصفح الجميل لحرمة النسب وحق الأخوة، وأدعوا اللَّه لكم بالعفو والغفران، وهو صاحب الرحمة العظمى.
ثم سألهم يوسف عن أبيه، فلما أخبروه عن سوء حاله وسوء بصره من كثرة غمه وبكائه: أعطاهم قميصه، وقال لهم: عودوا به إلى أبى فاطرحوه على وجهه، فسيؤكد له ذلك سلامتى، وتملأ قلبه الفرحة، ويجعله اللَّه سببا لعودة بصره، وحينئذ تعالوا إلىَّ به، وبأهلكم أجمعين.
وارتحلوا بالقميص، وكان قلب يعقوب مستغرقا فى ترقب ما تأتى به رحلة بنيه، وكان اللَّه معه فى هذا الترقب فوصل روحه بأرواحهم، فحين تجاوزت قافلتهم أرض مصر فى طريقها إليه، شرح اللَّه صدره بالأمل، وأحاطه بجو من الطمأنينة إلى اقتراب البشرى بسلامة يوسف، وأخبر أهله بذلك إذ يقول: إنى أشعر برائحة يوسف المحبوبة تغمرنى، ولولا خشية أن تتهمونى فى قولى لأنبأتكم عن يوسف بأكثر من الشعور والوجدان.
فرد عليه أهله ردا خشنا، حالفين باللَّه أنه لا يزال ذاهبا عن صوابه هائما فى خياله، فتهيأ له ما تهيأ من فرط محبته ليوسف، ولهجه بذكراه، ورجائه للقياه.
واستمر على أمله منتظرا رحمة اللَّه، واستمر أهله على سوء الظن به إلى أن أتاه منْ يحمل القميص ويبشره بسلامة يوسف، فحين طرح القميص على وجه يعقوب نفحته رائحة يوسف وغمرت قلبه الفرحة، فعاد إليه بصره ولما حدثه الرسول بحال يوسف، وأنه يطلب رحلته إليه بأهله اتجه إلى من حوله يذكرهم بنبوءته، ويُعاتبهم على تكذيبه، ويوجه أذهانهم إلى ذكر ما أكده لهم آنفا من أنه يدرك من رحمة اللَّه وفضله ما لا يُدْرِكون.
فأقبلوا عليه معتذرين عمَّا كان منهم، راجين أن يصفح عنهم، وأن يطلب من اللَّه التجاوز عن آثامهم، لأنهم كما أكدوا فى اعتذارهم كانوا آثمين.
فقال يعقوب: سأداوم طلب العفو من اللَّه عن سيئاتكم، إنه - وحده - صاحب المغفرة الثابتة والرحمة الدائمة.
رحل يعقوب إلى مصر، وسار بأهله حتى بلغها، فحين دخلوا على يوسف - وكان قد استقبلهم فى مدخل مصر - عجَّل به الحنان والشوق إلى أبيه وأمه، فقربهما إليه، وطلب منهما ومن أهله أن يقيموا فى مصر آمنين سالمين بإذن اللَّه.
وسار الركب داخل مصر حتى بلغ دار يوسف، فدخلوها وصدَّر يوسف أبويه، فأجلسهما على سرير، وغمر يعقوب وأهله شعور بجليل ما هيأ اللَّه لهم على يدى يوسف، إذ جمع به شمل الأسرة بعد الشتات ونقلها إلى مكان عظيم من العزة والتكريم، فحَّيوه تحية مألوفة تعارف الناس عليها فى القديم للرؤساء والحاكمين، وأظهروا الخضوع لحكمه، فأثار ذلك فى نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير، فقال لأبيه: هذا تفسير ما قصصت عليك من قبل من رؤيا، حين رأيت فى المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين لى، قد حققه ربى، وقد أكرمنى وأحسن إلىَّ، فأظهر براءتى، وخلصنى من السجن، وأتى بكم من البادية لنلتقى من بعد أن أفسد الشيطان بينى وبين اخوتى، وأغراهم بى، وما كان لهذا كله أن يتم بغير صنع اللَّه، فهو رفيق التدبير والتسخير لتنفيذ ما يريد، وهو المحيط علما بكل شىء، البالغ حكمه فى كل تصرف وقضاء.
واتجه يوسف إلى اللَّه، يشكره بإحصاء نعمه عليه، ويرجوه المزيد من فضله، قائلا: يا رب ما أكثر نعمك علىَّ، وما أعظمها , لقد منحتنى من الملك ما أحمدك عليه، ووهبتنى من العلم بتفسير الأحلام ما وهبت، يا خالق السموات والأرض وبارئهما، أنت مالك أمرى ومتولى نعمتى فى محياى وبعد مماتى، اقبضنى إليك على ما ارتضيت لأنبيائك من دين الإسلام، وأدخلنى فى زمرة من هديتهم إلى الصلاح من آبائى وعبادك الصالحين المخلصين.
ذلك الذى قصصنا عليك - أيها النبى - من أخبار الماضى السحيق، لم يأتك إلا بإيحاء منا، وما كنت حاضرا اخوة يوسف وهم يدبرون له من المكائد وما علمت بكيدهم إلا عن طريقنا.
وفى أغلب الطباع مرض يجعلها غير قابلة لتصديق ما أوحى إليك مهما تعلق قلبك بأن يؤمنوا أو أجهدت نفسك أن يكونوا من المهتدين.
وما نقصد بما تحدثهم به من أحاديث الهدى نيل الجزاء أو منفعة، فإن لم يهتدوا فلا تحزن عليهم، وسيهدى اللَّه قوما غيرهم، فما أنزلناه إليهم خاصة، وما هو إلا موعظة وعبرة لكل من خلق اللَّه فى السموات والأرض.
وما أكثر الدلائل على وجود الخالق ووحدانيته وكماله، الثابتة فى السموات والأرض، يشاهدها قومك ويتولون عنها مكابرين غير معتبرين.
وفيهم مصدقون باللَّه معترفون بربوبيته وأنه خالق كل شىء، ولكن إيمان أكثرهم لا يقوم على أساس سليم من التوحيد، فلا يعترفون بوحدانية اللَّه اعترافاً خالصاً، ولكنه مقترن فى نفوسهم بشوائب تسلكهم فى مسلك المشركين.
أتَّخذوا عند اللَّه عهدا بعدم تعذيبهم، فضمنوا الأمن والسلامة من أن يصيبهم اللَّه بعذاب غامر، ويغشاهم بنقمته، كما فعل بأسلافهم من قبل؟ أو أن تفاجئهم القيامة وتبغتهم وهم مقيمون على الشرك والكفر ثم يكون مصيرهم إلى النار؟!.
نبِّههم يا محمد إلى سمو غايتك، وبصِّرهم بنبل مهمتك، فقل لهم: هذه سنتى وطريقتى، أدعو الناس إلى طريق اللَّه وأنا متثبت من أمرى، وكذلك يدعو إليها كل من تبعنى وآمن بشريعتى، وأنزَّه اللَّه عما لا يليق به، ولست مشركًا به أحدًا سواه.
وما تحولنا عن سنتنا فى اختبار الرسل حين اخترناك - أيها النبى - ولا خرجت حال قومك عن أحوال الأمم السابقة فما بعثنا من قبلك ملائكة، وإنما اخترنا رجالا من أهل الأمصار ننزل عليهم الوحى، ونرسلهم مبشرين ومنذرين، فيستجيب لهم المهتدون، ويعاندهم الضالون! فهل غفل قومك عن هذه الحقيقة، وهل قعد بهم العجز عن السعى فأهلكناهم فى الدنيا ومصيرهم إلى النار، وآمن من آمن فنجيناهم ونصرناهم فى الدنيا، ولثواب الآخرة أفضل لمن خافوا اللَّه فلم يشركوا به ولم يعصوه، أسلبت عقولكم - أيها المعاندون - فلا تفكروا ولا تتدبروا؟!.
ولا تستبطئ يا محمد نصرى، فإن نصرى قريب أكيد، وقد أرسلنا من قبلك رسلا فاقتضت حكمتنا أن يتراخى عنهم نصرنا، ويتطاول عليهم التكذيب من قومهم، حتى إذا زلزلت نفوس واستشعرت القنوط أدركهم نصرنا، فأنعمنا بالنجاة والسلامة على الذين يستأهلون منا إرادة النجاة وهم المؤمنون، وأدرنا دائرة السوء على الذين أجرموا بالعناد وأصروا على الشرك، ولا يدفع عذابنا وبطشنا دافع عن القوم المجرمين.
وقد أوحينا إليك ما أوحينا من قصص الأنبياء، تثبيتا لفؤادك، وهداية لقومك، وأودعناه من العبر والعظات ما يستنير به أصحاب العقول والفطن ويدركون أن القرآن حق وصدق، فما كان حديثًا مختلقًا ولا أساطير مفتراة، وإنما هو حق ووحى، ويؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل: ويبين كل ما يحتاج إلى تفصيله من أمور الدين، ويهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويفتح أبواب رحمة اللَّه لمن اهتدى بهديه وكان من المؤمنين الصادقين.