{ الر } أنا الله الرحمن { تلك } هذه { آيات الكتاب المبين } للحلال والحرام ، والأحكام ، يعني : القرآن .
{ إنا أنزلناه } يعني : الكتاب { قرآنا عربيا } بلغة العرب { لعلكم تعقلون } كي تفهموا .
{ نحن نقص عليك أحسن القصص } نبين لك أحسن البيان { بما أوحينا } بإيماننا { إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } وما كنت من قبل أن يوحى إليك إلا من الغافلين .
{ إذ قال } اذكر إذ قال { يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم } الآية . رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا ، فلما قصها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له ، فقال :
{ يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } يحتالوا في هلاكك ، لأنهم لا يعلمون تأويلها .
{ وكذلك } ومثل ما رأيت { يجتبيك ربك } يصطفيك ويختارك { ويعلمك من تأويل الأحاديث } تعبير الأحلام { ويتم نعمته عليك } بالنبوة { وعلى آل يعقوب } يعني : المختصين منهم بالنبوة { على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم } حيث يضع النبوة { حكيم } في خلقه .
{ لقد كان في يوسف وإخوته } أي : في خبرهم وقصصهم { آيات } عبر وعجائب { للسائلين } الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأخبرهم بها وهو غافل عنها لم يقرأ كتابا ، فكان في ذلك أوضح دلالة على صدقه .
{ إذ قالوا } يعني : إخوة يوسف : { ليوسف وأخوه } لأبيه وأمه { أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } جماعة { إن أبانا لفي ضلال مبين } ضل بإيثاره يوسف وأخاه علينا . ضلال : خطأ .
{ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا } في أرض يبعد فيها عن أبيه { يخل لكم وجه أبيكم } يقبل بكليته عليكم { وتكونوا من بعده قوما صالحين } تحدثوا توبة بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم .
{ قال قائل منهم } وهو يهوذا أكبر إخوته : { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب } في موضع مظلم من البئر لا يلحقه نظر الناظرين { يلتقطه بعض السيارة } مارة الطريق { إن كنتم فاعلين } ما قصدتم من التفريق بينه وبين أبيه ، فلما تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر .
{ قالوا } لأبيهم { ما لك لا تأمنا على يوسف } لم تخافنا عليه ؟ { وإنا له لناصحون } في الرحمة والبر والشفقة .
{ أرسله معنا غدا } إلى الصحراء { يرتع ويلعب } نسعى وننشط { وإنا له لحافظون } من كل ما تخافه عليه .
{ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به } ذهابكم به يحززني ، لأنه يفارقني ، فلا أراه { وأخاف أن يأكله الذئب } وذلك أن أرضهم كانت مذأبة { وأنتم عنه غافلون } مشتغلون برعيتكم .
{ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة } جماعة بحضرته { إنا إذا لخاسرون } لعاجزون .
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقوية لقلبه : لتصدقن رؤياك ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم { وهم لا يشعرون } بأنك يوسف في وقت إخبارك إياهم .
{وجاؤوا أباهم عشاء يبكون}.
{ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا { وتركنا يوسف عند متاعنا } ثيابنا { فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } في كل الأشياء لأنك اتهمتنا في هذه القصة .
{ وجاؤوا على قميصه بدم كذب } لأنه لم يكن دمه ، إنما كان دم سخلة { قال } يعقوب عليه السلام : { بل } أي : ليس كما تقولون { سولت لكم } زينت لكم { أنفسكم } في شأنه { أمرا } غير ما تصفون { فصبر } أي : فشأني صبر { جميل } وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى { والله المستعان على ما تصفون } أي : به أستعين في مكابدة هذا الأمر .
{ وجاءت سيارة } رفقة تسير للسفر { فأرسلوا واردهم } وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم { فأدلى دلوه } أرسلها في البئر ، فتشبت يوسف عليه السلام بالرشاء فأخبره الوارد ، فلما رآه { قال يا بشرى } أي : يا فرحتا { هذا غلام وأسروه بضاعة } أسره الوارد ومن كان معه من التجار من غيرهم ، وقالوا : هذه بضاعة استبضعها بعض أهل الماء { والله عليم بما يعملون } بيوسف ، فلما علم إخوته ذلك أتوهم ، وقالوا : هذا عبد آبق منا ، فقالوا لهم : فبيعوناه ، فباعوه منهم ، وذلك قوله : { وشروه بثمن بخس } حرام ، لأن ثمن الحر حرام { دراهم معدودة } باثنين وعشرين درهما { وكانوا } يعني : إخوته { فيه } في يوسف { من الزاهدين } لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه .
{وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}.
{ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته } وهو العزيز صاحب ملك مصر : { أكرمي مثواه } أحسني إليه طول مقامه عندنا { عسى أن ينفعنا } أي : يكفينا _ إذا بلغ وفهم الأمور _ بعض شؤوننا { أو نتخذه ولدا } وكان حصورا لا يولد له . { وكذلك } وكما نجيناه من القتل والبئر { مكنا ليوسف في الأرض } يعني : أرض مصر حتى بلغ ما بلغ { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } فعلنا ذلك تصديقا لقوله { ويعلمك من تأويل الأحاديث } . { والله غالب على أمره } على ما أراد من قضائه ، لا يغلب غالب على أمره ، ولا يبطل إرادته منازع { ولكن أكثر الناس } هم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر { لا يعلمون } أن قدرة الله غالبة ، ومشيئته نافذة .
{ ولما بلغ أشده } ثلاثين سنة { آتيناه حكما وعلما } عقلا وفهما { وكذلك } ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف { نجزي المحسنين } الصابرين على النوائب ، كما يوسف عليه السلام .
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } يعني : امرأة العزيز طلبت منه أن يواقعها { وغلقت الأبواب } أي : أغلقتها { وقالت هيت لك } أي : هلم وتعال { قال معاذ الله } أعوذ بالله أن أفعل هذا { إنه ربي } إن الذي اشتراني هو سيدي { أحسن مثواي } أنعم علي بإكرامي ، فلا أخونه في حرمته { إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد الزناة .
{ ولقد همت به وهم بها } طمعت فيه وطمع فيها { لولا أن رأى برهان ربه } وهو أنه مثل له يعقوب عليه السلام عاضا على أصابعه يقول : أتعمل عمل الفجار ، وأنت مكتوب في الأنبياء ، فاستحيا منه ، وجواب لولا محذوف ، على معنى : لولا أن لاأى برهان ربه لأمضى ما هم به { كذلك } أي : أريناه البرهان { لنصرف عنه السوء } وهو حيانة صاحبه { والفحشاء } ركوب الفاحشة { إنه من عبادنا المخلصين } الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه .
{ واستبقا الباب } وذلك أن يوسف عليه السلام لما رأى البرهان قام مبادرا إلى الباب ، واتبعته المرأة تبغي التشبث به ، فلم تصل إلا إلى دبر قميصه ، فقدته ، ووجدا زوج المرأة عند الباب ، فحضرها في الوقت كيد ، فأوهمت زوجها أن الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف فـ { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } تريد الزنا { إلا أن يسجن } يحبس في الحبس { أو عذاب أليم } بالضرب ، فلما قالت ذلك غضب يوسف و { قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد } وحكم حاكم ، وبين مبين { من أهلها } وهو ابن عم المرأة ، فقال : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } .
{قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين}.
{ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } .
{ فلما رأى قميصه قد من دبر } من حكم الشاهد وبيانه ما يوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصادق ، فلما رأى زوج المرأة قميص يوسف قد من دبر { قال إنه من كيدكن } أي : قولك : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } الآية .
{ يوسف } يا يوسف { أعرض عن هذا } اترك هذا الأمر فلا تذكره { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } الآثمين ، ثم شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدثت بذلك النساء ، وخضن فيه وهو قوله :
{ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها } غلامها { عن نفسه قد شغفها حبا } قد دخل حبه في شغاف قلبها ، وهو موضع الدم الذي يكون داخل القلب { إنا لنراها في ضلال } عن طريق الرشد بحبها إياه .
{ فلما سمعت } امرأة العزيز { بمكرهن } مقالتهن ، وشميت مكرا لأنهن قصدن بهذه الماقلة أن تريهن يوسف ، ليقوم لها العذر في حبه إذا رأين جماله ، وكن مشتهين ذلك ، لأن يوسف وصف لهن بالجمال { أرسلت إليهن } تدعوهن { وأعتدت } وأعدت { لهن متكئا } طعاما يقطع بالسكين . قيل : هو الأترج { وآتت } وناولت { كل واحدة منهن سكينا وقالت } ليوسف : { اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه } أعظمنه وهالهن أمره وبهتن { وقطعن أيديهن } حززنها بالسكاكين ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف { وقلن حاش لله } بعد يوسف عن أن يكون بشرا { إن هذا } ما هذا { إلا ملك كريم } فلما رأت امرأة العزيز ذلك قالت :
{ فذلكن الذي لمتنني فيه } في حبه والشغف فيه ، ثم أقرت عندهن بما فعلت فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فامتنع وأبى ، وتوعدته بالسجن فقالت : { ولئن لم يفعل } الآية . فأمرنه بطاعتها ، وقلن له : إنك الظالم وهي المظلومة ، فقال يوسف :
{ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } من معصيتك { وإلا تصرف عني كيدهن } كيد جميع النساء { أصب إليهن } أمل إليهن { وأكن من الجاهلين } المذنبين .
{ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } حتى لم يقع في شيء مما يطالبنه به { إنه هو السميع } لدعائه { العليم } بما يخاف من الإثم .
{ ثم بدا لهم } للعزيز وأصحابه { من بعد ما رأوا الآيات } آيات براءة يوسف { ليسجننه حتى حين } وذلك أن المرأة قالت : إن هذا العبد فضحني في الناس يخبرهم أني راودته عن نفسه ، فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة ، فذلك قوله : { حتى حين } أي : إلى انقطاع اللائمة .
{ ودخل معه السجن فتيان } غلامان للملك الأكبر ، رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه ، وصاحب شرابه مالأه على ذلك ، فأدخلهما السجن ، ورأيا يوسف يعبر الرؤيا ، فقالا : لنجرب هذا العبد العبراني ، فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئا ، وهو قوله { قال أحدهما } وهو الساقي : { إني أراني أعصر خمرا } أي : عنبا ، وقال صاحب الطعام : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } رأيت كأن فوق رأسي خبزا { تأكل الطير منه } فإذا سباع الطير ينهشن منه { نبئنا بتأويله } أي : خبرنا بتفسير الرؤيا { إنا نراك من المحسنين } تؤثر الإحسان ، وتأتي جميل الأفعال ، فعدل يوسف عليه السلام عن جواب مسألتهما ، ودلهما أولا على أنه عالم بتفسير الرؤيا فقال :
{ لا يأتيكما طعام ترزقانه} تأكلان منه في منامكما { إلا نبأتكما بتأويله} في اليقظة { قبل أن يأتيكما } التأويل {ذلكما مما علمني ربي} أي : لست أخبركما على جهة التكهن والتنجم ، إنما ذلك بوحي من الله عز وجل وعلم ، ثم أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية ، وقوله :
{ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } يريد : إن الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به { ذلك من فضل الله علينا } أي :اتباعنا للإيمان يتوفيق الله تعالى وتفضله علينا { وعلى الناس } وعلى من عصمه الله من الشرك حتى اتبع دينه { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعمة الله بتوحيده ، والإيمان برسله ، ثم دعاهما إلى الإيمان ، فقال :
{ يا صاحبي السجن } يعني : يا ساكنيه : { أأرباب متفرقون } يعني : الأصنام { خير } أعظم في صفة المدح { أم الله الواحد القهار } الذي يقهر كل شيء .
{ ما تعبدون من دونه } أنتما ومن على مثل حالكما من دون الله { إلا أسماء } لا معاني وراءها { سميتموها أنتم } ، { إن الحكم إلا لله } ما الفضل بالأمر والنهي إلا لله { ذلك الدين القيم } المستقيم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } مل للمطيعين من الثواب ، وللعاصين من العقاب ، ثم ذكر تأويل رؤياهما بقوله :
{ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } فقالا :ما رأينا شيئا ، فقال : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } يعني : سيقع بكما ما عبرت لكما ، صدقتما أم كذبتما .
{ وقال } يوسف { للذي ظن } علم { أنه ناج منهما } وهو الساقي : { اذكرني عند ربك } عند الملك صاحبك ، وقل له : إن في السجن غلاما محبوسا ظلما { فأنساه الشيطان ذكر ربه } أنسى الشيطان يوسف الاستغاثة بربه ، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك ، فعوقب بأن { لبث في السجن بضع سنين } سبع سنين ، فلما دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا ، وهو قوله :
{ وقال الملك إني أرى } الآية . فلما استفتاهم فيها .
{ قالوا أضغاث أحلام } أحلام مختلطة لا تأويل لها عندنا { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمي } أقروا بالعجز عن تأويلها .
{ وقال الذي نجا منهما } وهو الساقي { وادكر بعد أمة } وتذكر أمر يوسف بعد حين من الدهر : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } فأرسل ، فأتى يوسف فقال :
{ يوسف } أي : يا يوسف { أيها الصديق } الكثير الصدق ، وقوله { لعلي أرجع إلى الناس } يعني : أصحاب الملك { لعلهم يعلمون } تأويل رؤيا الملك من جهتك .
{ قال تزرعون } أي : ازرعوا { سبع سنين دأبا } متتابعة ، وهذه السبع تأويل البقرات السمان { فما حصدتم } مما زرعتم { فذروه في سنبله } لأنه أبقى له وأبعد من الفساد { إلا قليلا مما تأكلون } فإنكم تدوسونه .
{ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد } مجدبات صعاب ، وهذه تأويل البقرات العجاف { يأكلن } يفنين ويذهبن { ما قدمتم لهن } من الحب { إلا قليلا مما تحصنون } تحرزون وتدخرون .
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السمسم الدهن ، ومن العنب الخمر ، ومن الزيتون الزيت ، فرجع الرسول بتأويل الرؤيا إلى الملك ، فعرف الملك أن ذلك تأويل صحيح ، فقال :
{ ائتوني } بالذي عبر رؤياي ، فجاء الرسول يوسف ، وقال : أجب الملك فقال للرسول : { ارجع إلى ربك } يعني : الملك { فاسأله } أن يسأل { ما بال النسوة } ما حالهن وشأنهن ، ليعلم صحة براءتي مما قذفت به ، وذلك أن النسوة كن قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهن ، وهو قولها :{ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فأحب يوسف عليه السلام أن يعلم الملك أنه حبس ظلما ، وأنه برئ مما قذف به ، فسأله أن يستعلم النسوة عن ذلك { إن ربي بكيدهن } ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي { عليم } فدعا الملك النسوة فقال :
{ ما خطبكن } ما قصتكن وما شأنكن { إذ راودتن يوسف عن نفسه } جمعهن في المراودة ، لأنه يعلم من كانت المراودة { قلن حاش لله } بعد يوسف عما يتهم به { ما علمنا عليه من سوء } من زنا ، فلما برأنه أقرت امرأة العزيز فقالت : { الآن حصحص الحق } أي : بان ووضح ، وذلك أنها خافت إن كذبت شهدت عليها النسوة فقالت : { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في قوله : { هي راودتني عن نفسي } .
{ ذلك } أي : ما فعله يوسف من رد الرسول إلى الملك { ليعلم } وزير الملك ـ وهو الذي اشتراه ـ { أني لم أخنه } في زوجته { بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} لا يرشد من خان أمانته ، أي : إنه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عز وجل ، فلما قال يوسف عليه السلام : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال جبريل عليه السلام : ولا حين هممت بها يوسف ، فقال :
{ وما أبرئ نفسي } وما أزكي نفسي { إن النفس لأمارة بالسوء } بالقبيح وما لا يحب الله { إلا ما } من { رحم ربي} فعصمه .
{ وقال الملك ائتوني به } بيوسف { أستخلصه لنفسي } أجعله خالصا لي لا يشركني فيه أحد { فلما كلمه } يوسف { قال إنك اليوم لدينا مكين } وجيه ذو مكانة { أمين} قد عرفنا أمانتك وبراءتك ، ثم سأله الملك أن يعبر رؤياه شفاها ، فأجابه يوسف بذلك ، فقال له : ما ترى أن تصنع ؟ قال : تجمع الطعام في السنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك ، فقال : من لي بهذا ومن يجمعه ؟ فقال يوسف :
{ قال اجعلني على خزائن الأرض } على حفظها ، وأراد بالأرض أرض مصر { إني حفيظ عليم } كاتب حاسب .
{ وكذلك } وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السجن { مكنا ليوسف } أقدرناه على ما يريد { في الأرض } أرض مصر { يتبوأ منها حيث يشاء } هذا تفسير التمكين في الأرض { نصيب برحمتنا من نشاء } أتفضل على من أشاء برحمتي { ولا نضيع أجر المحسنين } ثواب الموحدين .
{ ولأجر الآخرة خير } الآية . أي : ما يعطي الله من ثواب الآخرة خير للمؤمنين ، والمعنى : إن ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا ، ثم دخل أعوام القحط على الناس ، فأصاب إخوة يوسف المجاعة ، فأتوه ممتارين ، فذلك قوله :
{ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } لأنهم رأوه على زي الملوك ، وكان قد تقرر في أنفسهم هلاك يوسف . وقيل : لأنهم رأوه من وراء ستر .
{ ولما جهزهم بجهازهم } يعني : حمل لكل رجل منهم بعيرا { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } يعني : بنيامين ، وذلك أنه سألهم عن عددهم فأخبروه ، وقالوا : خلفنا أحدنا عند أبينا ، فقال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم . { ألا ترون أني أوفي الكيل } أتمه من غير بخس { وأنا خير المنزلين } وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ بقوله :
{ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } .
{ قالوا سنراود عنه أباه } نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا { وإنا لفاعلون } ما وعدناك من المراودة .
{ وقال } يوسف { لفتيانه } لغلمانه : { اجعلوا بضاعتهم } التي أتوا بها لثمن الميرة ، وكانت دراهم { في رحالهم } أو عيتهم { لعلهم يعرفونها } عساهم يعرفون أنها بضاعتهم بعينها { إذا انقلبوا إلى أهلهم } وفتحوا أوعيتهم { لعلهم يرجعون } عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك ، لأنهم لا يستحلون إمساكها .
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل } حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا . يعنون قوله : { فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } . { فأرسل معنا أخانا نكتل } نأخذ كيلنا .
{ قال هل آمنكم عليه } الآية ، يقول : لا آمنكم على بنيامين إلا كأمني على يوسف ، يريد : إنه لم ينفعه ذلك الأمن ، فإنهم خانوه ، فهو _ وإن أمنهم في هذا _ خاف خيانتهم أيضا ، ثم قال : { فالله خير حافظا } .
{ ولما فتحوا متاعهم } ما حملوه من مصر { وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي } منك شيئا تردنا به وتصرفنا إلى مصر { هذه بضاعتنا ردت إلينا } فنتصرف بها { ونمير أهلنا } نجلب إليهم الطعام { ونزداد كيل بعير } نزيد حمل بعير من الطعام ، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير { ذلك كيل يسير } متيسر على من يكبل لنا لسخائه .
{ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله } حتى تحلفوا بالله { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } إلا أن تموتوا كلكم { فلما آتوه موثقهم } عهدهم ويمينهم { قال } يعقوب عليه السلام : { الله على ما نقول وكيل } شهيد ، فلما أرادوا الخروج من عنده قال :
{ يا بني لا تدخلوا } مصر { من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } خاف عليهم العين ، فأمرهم بالتفرقة { وما أغني عنكم من الله من شيء } يعني : إن الحذر لا يغني ولا ينفع من القدر .
{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } وذلك أنهم دخلوا مصر متفرقين من أربعة أبواب { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } ما كان ذلك ليرد قضاء قضاه الله سبحانه { إلا حاجة } لكن حاجة . يعني : إن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام ، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة شفقة عليهم { وإنه لذو علم لما علمناه } لذو يقين ومعرفة بالله سبحانه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن يعقوب عليه السلام بهذه الصفة .
{ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } ضمه إليه وأنزله عند نفسه { قال إني أنا أخوك } اعترف له بالنسب ، وقال : لا تخبرهم بما ألقيت إليك { فلا تبتئس } فلا تحزن ولا تغتم { بما كانوا يعملون } من الحسد لنا ، وصرف وجه أبينا عنا .
{ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية } وهو إناء من ذهب مرصع بالجواهر { في رحل أخيه } بنيامين { ثم أذن مؤذن } نادى مناد { أيتها العير } الرفقة { إنكم لسارقون } .
{ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } ؟
{ قالوا نفقد صواع الملك } يعني : السقاية { ولمن جاء به حمل بعير } أي : من الطعام { وأنا به زعيم } كفيل .
{ قالوا تالله لقد علمتم } حلفوا على أنهم يعلمون صلاحهم وتجنبهم الفساد ، وذلك أنهم كانوا معروفين بأنهم لا يظلمون أحدا ، ولا يرزأون شيئا لأحد .
{ قالوا فما جزاؤه } أي : ما جزاء السارق { إن كنتم كاذبين } في قولكم : ما كنا سارقين .
{ قالوا جزاؤه من وجد في رحله } وكانوا يستعبدون كل سارق بسرقته ، فلذلك قالوا : جزاؤه من وجد في رحله أي : جزاء السرق ، من وجد في رحله المسروق { فهو جزاؤه } أي : فالسرق جزاء السارق { كذلك نجزي الظالمين } أي : إذا سرق سارق استرق ، فلما أقروا بهذا الحكم صرف بهم إلى يوسف عليه السلام ليفتش أمتعتهم .
{ فبدأ } يوسف { بأوعيتهم } وهي كل ما استودع شيئا من جراب وجوالق ومخلاة { قبل وعاء أخيه } نفيا للتهمة { ثم استخرجها } يعني : السقاية { من وعاء أخيه كذلك كدنا } ألهمنا { ليوسف } أي : ألهمناه مثل ذلك الكيد ، حتى ضممنا أخاه إليه { ما كان ليأخذ أخاه } ويستوجب ضمه إليه { في دين الملك } في حكمه وسيرته وعادته { إلا } بمشيئة الله تعالى ، وذلك أن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق ، فلم يكن يوسف يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفا ، حتى وجد السبيل إلى ذلك ، وهو ما أجري على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق ، { نرفع درجات من نشاء } بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كل شيء { وفوق كل ذي علم عليم } يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه . فلما خرج الصواع من رحل بنيامين .
{ قالوا } ليوسف { إن يسرق } الصواع { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون : يوسف عليه السلام ، وذلك أنه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا منهم ، فيتصدق به في المجاعة ، حتى فطن به إخوته { فأسرها يوسف في نفسه } أي : أسر الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا { ولم يبدها لهم } وهو أنه قال في نفسه : { أنتم شر مكانا } عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم { والله أعلم بما تصفون } أي : قد علم أن الذي تذكرونه كذب .
{ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } في السن { فخذ أحدنا مكانه } واحدا منا تستعبده بدله { إنا نراك من المحسنين } إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا .
{قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون}.
{ فلما استيأسوا } يئسوا { منه خلصوا نجيا } انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم { قال كبيرهم } وهو روبيل ، وكان أكبرهم سنا : { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله } في خفظ الأخ ورده إليه { ومن قبل ما فرطتم في يوسف } ما زائدة ، أي : قصرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه { فلن أبرح الأرض } لن أخرج من أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } يبعث إلي أن آتيه { أو يحكم الله لي } يقضي في أمري شيئا { وهو خير الحاكمين } أعدلهم ، وقال لإخوته :
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } يعنون في ظاهر الأمر { وما شهدنا إلا بما علمنا } لأنه وجدت السرقة في رحله ونحن ننظر { وما كنا للغيب حافظين } ما كنا نحفظه إذا غاب عنا .
{ واسأل القرية التي كنا فيها } أي : أهل مصر { والعير التي أقبلنا فيها } يريد : أهل الرفقة ، فلما رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام قالوا له هذا ، فقال :
{ بل سولت لكم أنفسكم أمرا } زينته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة ، فعاد من ذلك شر وضرر .
{ وتولى عنهم } أعرض عن بنيه ، وتجدد وجده بيوسف { وقال يا أسفى على يوسف } يا طول حزني عليه { وابيضت عيناه } انقلبت إلى حال البياض ، فلم يبصر بهما ، { من الحزن } من البكاء { فهو كظيم } مغموم مكروب لا يظهر حزنه بجزع أو شكوى .
{ قالوا تالله تفتأ } لا تزال { تذكر يوسف } لا تفتر من ذكره { حتى تكون حرضا } فاسدا دنفا { أو تكون من الهالكين } الميتين . والمعنى : لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه ، أو تموت بغمه ، فلما أغلظوا له في القول .
{ قال إنما أشكو بثي } ما بي من البث ، وهو الهم الذي تفضي به إلى صاحبك { وحزني إلى الله } لا إليكم { وأعلم من الله ما لا تعلمون } وهو أنه علم أن يوسف حي ، أخبره بذلك ملك الموت ، وقال له : اطلبه من هاهنا ، وأشار له إلى ناحية مصر ، ولذلك قال :
{ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف } تبحثوا عنه { ولا تيأسوا من روح الله } من الفرج الذي يأتي به { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } يريد : إن المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد ، والكافر ليس كذلك ، فخرجوا إلى مصر .
{ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أصابنا ومن يختص بنا الجوع { وجئنا ببضاعة مزجاة } ندافع بها الأيام ونتفوت ، وليس مما يتشبع به ، وكانت دراهم زيوفا { فأوف لنا الكيل } سألوه مساهلتهم في النقد ، وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد { وتصدق علينا } بما بين القيمتين { إن الله يجزي } يتولى جزاء { المتصدقين } فلما قالوا هذا أدركته الرقة ودمعت عيناه ، وقال توبيخا لهم وتعظيما لما فعلوا :
{ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } بإدخال الغم عليه بإفراده من يوسف { إذ أنتم جاهلون } آثمون بيعقوب أبيكم ، وقطع رحم أخيكم منكم ، ولما قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب فقالوا :
{ أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف } الذي فعلتم به ما فعلتم { وهذا } المظلوم من جهتكم { قد من الله علينا} بالجمع بيننا بعد ما فرقتم { إنه من يتق } الله { ويصبر} على المصائب { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أجر من كان هذا حاله .
{ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} فضلك الله علينا بالعقل والعلم ، والفضل الحسن { وإن كنا لخاطئين} آثمين في أمرك .
{ قال لا تثريب عليكم اليوم } لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ، ثم جعلهم في حل ، وسأل لهم المغفرة فقال : { يغفر الله لكم } الآية ، ثم سألهم عن أبيه فقالوا : ذهبت عيناه ، فقال :
{ اذهبوا بقميصي هذا} وكان قد نزل به جبريل عليه السلام على إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار ، وكان فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلي ولا سقيم إلا صح ، فذلك قوله : { فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } يرجع ويعد بصيرا .
{ ولما فصلت العير} خرجت من مصر متوجهة إلى كنعان { قال أبوهم} لمن حضره : { إني لأجد ريح يوسف } وذلك أنه هاجت الريح فحملت ريح القميص واتصلت بيعقوب ، فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص { ولا أن تفندون } تسفهوني وتجهلوني .
{ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} شقائك القديم مما تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النزاع إليه على عهده منك ، وكان عندهم أنه قد مات ،وقوله :
{ فارتد بصيرا} أي : عاد ورجع بصيرا ، وقوله :
{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}.
{ سوف أستغفر لكم ربي} أخر ذلك إلى السحر ، ليكون أقرب إلى الإجابة ، وكان قد بعث يوسف عليه السلام مع البشير إلى يعقوب عليه السلام عدة المسير إليه ، فتهيأ يعقوب وخرج مع أهله إليه ، فذلك قوله :
{ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه} أي : ضم إليه { أبويه} أباه وخالته ، وكانت أمه قد ماتت { وقال ادخلوا مصر} وذلك أنه كان قد استقبلهم ، فقال لهم قبل دخول مصر : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلا بجواز من ملوكهم .
{ ورفع أبويه على العرش } أجلسهما على السرير {وخروا له سجدا } سجدوا ليوسف سجدة التحية وهو الانحناء . { وقد أحسن بي } إلي { إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو } وهو البسيط من الأرض ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية { من بعد أن نزغ الشيطان} أفسد { بيني وبين إخوتي } بالحسد { إن ربي لطيف لما يشاء} عالم بدقائق الأمور { إنه هو العليم } بخلقه { الحكيم } فيهم بما شاء ، ثم دعا ربه وشكره فقال :
{ رب قد آتيتني من الملك } ملك مصر {وعلمتني من تأويل الأحاديث} يريد : تفسير الأحلام { فاطر السماوات والأرض } خالقهما ابتداء { توفني مسلما} اقبضني على الإسلام { وألحقني بالصالحين} من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام . يريد : ارفعني إلى درجاتهم .
{ ذلك } الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك ، وهو قوله : { من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } لدى إخوة يوسف { إذ أجمعوا أمرهم } عزموا على أمرهم { وهم يمكرون }
{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لما سألوه عن قصة يوسف ، فشرحها لهم فخالفوا ظنه ، فقال الله : { وما أكثر الناس ولو حرصت } على إيمانهم { بمؤمنين } لأنك لا تهدي من أحببت ، لكن الله يهدي من يشاء .
{ وما تسألهم عليه} على القرآن { من أجر } مال يعطونك { إن هو } ما هو { إلا ذكر للعالمين} تذكرة لهم بما هو صلاحهم . يريد : إنا أزحنا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغا بلا أجر ، غير أنه لا يؤمن إلا من شاء الله سبحانه وإن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .
{ وكأين } وكم {من آية} دلالة تدل على التوحيد { في السماوات والأرض } من الشمس والقمر والنجوم والجبال وغيرها { يمرون عليها} يتجاوزونها غير متفكرين ولا معتبرين ، فقال المشركون : فإنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ، فقال :{ وما يؤمن أكثرهم بالله } في إقراره بأن الله خلقه ، وخلق السماوات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن .
{ أفأمنوا } يعني : المشركين { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم .
{ قل } لهم { هذه } الطريقة التي أنا عليها { سبيلي } سنتي ومنهاجي { أدعو إلى الله } وتم الكلام ، ثم قال : { على بصيرة أنا } أي : على دين ويقين { ومن اتبعني } يعني : أصحابه ، وكانوا على أحسن طريقة { وسبحان الله } أي : وقل : سبحان الله تنزيها لله تعالى عما أشركوا { وما أنا من المشركين } الذين اتخذوا مع الله ندا .
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } يريد : لم نبعث قبلك نبيا إلا رجالا غير امرأة ، وكانوا من أهل الأمصار ، ولم نبعث من بادية ، وهذا رد لإنكارهم نبوته . يريد : إن الرسل من قبلك كانوا على مثل حالك ، ومن قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم ، فأهلكناهم ، فذلك قوله : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا } إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بهم { ولدار الآخرة } يعني : الجنة { خير للذين اتقوا } الشرك في الدنيا { أفلا تعقلون } هذا حتى تؤمنوا ؟!
{ حتى إذا استيأس الرسل } يئسوا من قومهم أن يؤمنوا { وظنوا أنهم قد كذبوا } أيقنوا أن قومهم قد كذبوهم { جاءهم نصرنا فنجي من نشاء } وهم المؤمنون أتباع الأنبياء { ولا يرد بأسنا } عذابنا .
{ لقد كان في قصصهم } يعني : إخوة يوسف { عبرة } فكرة وتدبر { لأولي الألباب } وذلك أن من قدر على إعزاز يوسف ، وتمليكه مصر بعد ما كان عبدا لبعض أهلها قادر على أن يعز محمد عليه السلام وينصره . { ما كان } القرآن { حديثا يفترى } يتقوله بشر { ولكن تصديق الذي بين يديه } ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه من أمور الدين { وهدى } وبيانا { ورحمة لقوم يؤمنون } يصدقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .