وَقَوْله : { إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ رَبّك يَا مُحَمَّد لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَصَصْت عَلَيْك قَصَصهمْ , وَلِضُرَبَائِهِمْ مِنْ أَهْل الْكُفْر بِهِ , لَبِالْمِرْصَادِ يَرْصُدهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة , عَلَى قَنَاطِر جَهَنَّم , لِيُكَرْدِسهُمْ فِيهَا إِذَا وَرَدُوهَا يَوْم الْقِيَامَة . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله , فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَى قَوْله : { لَبِالْمِرْصَادِ } بِحَيْثُ يَرَى وَيَسْمَع . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 28789 - حَدَّثَنِي عَلِيّ , قَالَ : ثَنَا أَبُو صَالِح , قَالَ : ثَنِي مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : ( { إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ } يَقُول : يَرَى وَيَسْمَع .) وَقَالَ آخَرُونَ : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ بِمَرْصَدٍ لِأَهْلِ الظُّلْم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 28790 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثَنَا مِهْرَان , عَنْ الْمُبَارَك بْن مُجَاهِد , عَنْ جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي هَذِهِ الْآيَة , قَالَ : (إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة , يَأْمُر الرَّبّ بِكُرْسِيِّهِ , فَيُوضَع عَلَى النَّار , فَيَسْتَوِي عَلَيْهِ , ثُمَّ يَقُول : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي , لَا يَتَجَاوَزنِي الْيَوْم ذُو مَظْلِمَة , فَذَلِكَ قَوْله : { لَبِالْمِرْصَادِ } . )28791 - قَالَ : ثَنَا الْحَكَم بْن بَشِير , قَالَ : ثَنَا عَمْرو بْن قَيْس , قَالَ : (بَلَغَنِي أَنَّ عَلَى جَهَنَّم ثَلَاث قَنَاطِر : قَنْطَرَة عَلَيْهَا الْأَمَانَة , إِذَا مَرُّوا بِهَا تَقُول : يَا رَبّ هَذَا أَمِين , يَا رَبّ هَذَا خَائِن ; وَقَنْطَرَة عَلَيْهَا الرَّحِم , إِذَا مَرُّوا بِهَا تَقُول : يَا رَبّ هَذَا وَاصِل , يَا رَبّ هَذَا قَاطِع ; وَقَنْطَرَة عَلَيْهَا الرَّبّ { إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ } . )28792 - قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَان , عَنْ سُفْيَان ( { إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ } يَعْنِي : جَهَنَّم عَلَيْهَا ثَلَاث قَنَاطِر : قَنْطَرَة فِيهَا الرَّحْمَة , وَقَنْطَرَة فِيهَا الْأَمَانَة , وَقَنْطَرَة فِيهَا الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . )28793 - حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثَنَا اِبْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ الْحَسَن ( { إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ } قَالَ : مِرْصَاد عَمَل بَنِي آدَم .)
وَقَوْله : { فَأَمَّا الْإِنْسَان إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ رَبّه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : فَأَمَّا الْإِنْسَان إِذَا مَا اِمْتَحَنَهُ رَبّه بِالنِّعَمِ وَالْغِنَى { فَأَكْرَمَهُ } بِالْمَالِ , وَأَفْضَلَ عَلَيْهِ , { وَنَعَّمَهُ } بِمَا أَوْسَعَ عَلَيْهِ مِنْ فَضْله { فَيَقُول رَبِّي أَكْرَمَنِ } فَيَفْرَح بِذَلِكَ , وَيُسَرّ بِهِ وَيَقُول : رَبِّي أَكْرَمَنِي بِهَذِهِ الْكَرَامَة , كَمَا : 28794 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثَنَا يَزِيد , قَالَ : ثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله ( { فَأَمَّا الْإِنْسَان إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ رَبّه فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُول رَبِّي أَكْرَمَنِ } وَحَقّ لَهُ .)
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِي } </subtitle>وَقَوْله : { وَأَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه } يَقُول : وَأَمَّا إِذَا مَا اِمْتَحَنَهُ رَبّه بِالْفَقْرِ { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه } يَقُول : فَضَيَّقَ عَلَيْهِ رِزْقه وَقَتَرَهُ , فَلَمْ يُكْثِر مَاله , وَلَمْ يُوَسِّع عَلَيْهِ { فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِي } يَقُول : فَيَقُول ذَلِكَ الْإِنْسَان : رَبِّي أَهَانَنِي , يَقُول : أَذَلَّنِي بِالْفَقْرِ , وَلَمْ يَشْكُر اللَّه عَلَى مَا وَهَبَ لَهُ مِنْ سَلَامَة جَوَارِحه , وَرَزَقَهُ مِنْ الْعَافِيَة فِي جِسْمه . 28795- حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثَنَا يَزِيد , قَالَ : ثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة ( { وَأَمَّا إِذَا اِبْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِي } مَا أَسْرَع كُفْر اِبْن آدَم . )28796 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , قَوْله : ( { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه } قَالَ : ضَيَّقَهُ . )وَاخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَوْله { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه } فَقَرَأَتْ عَامَّة قُرَّاء الْأَمْصَار ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ , فَقَدَرَ : بِمَعْنَى فَقَتَرَ , خَلَا أَبِي جَعْفَر الْقَارِي , فَإِنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّشْدِيدِ : | فَقَدَّرَ | . وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ كَانَ يَقُول : قَدَّرَ , بِمَعْنَى يُعْطِيه مَا يَكْفِيه , وَيَقُول : لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ مَا قَالَ رَبِّي أَهَانَنِي . وَالصَّوَاب مِنْ قِرَاءَة ذَلِكَ عِنْدنَا بِالتَّخْفِيفِ , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء عَلَيْهِ .
وَقَوْله : { كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم } اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ : { كَلَّا } فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَمَا الَّذِي أَنْكَرَ بِذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : أَنْكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَكُون سَبَب كَرَامَته مَنْ أَكْرَم كَثْرَة مَاله , وَسَبَب إِهَانَته مَنْ أَهَانَ قِلَّة مَاله . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 28797 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثَنَا يَزِيد , قَالَ : ثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : ( { وَأَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِي } مَا أَسْرَع مَا كَفَرَ اِبْن آدَم ! يَقُول اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : كَلَّا إِنِّي لَا أُكْرِم مَنْ أَكْرَمْت بِكَثْرَةِ الدُّنْيَا , وَلَا أُهِين مَنْ أَهَنْت بِقِلَّتِهَا , وَلَكِنْ إِنَّمَا أُكْرِم مَنْ أَكْرَمْت بِطَاعَتِي , وَأُهِين مَنْ أَهَنْت بِمَعْصِيَتِي. )وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَنْكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَمْد الْإِنْسَان رَبّه عَلَى نِعَمه دُون فَقْره , وَشَكْوَاهُ الْفَاقَة. وَقَالُوا : مَعْنَى الْكَلَام : كَلَّا , أَيْ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون هَكَذَا , وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمَدهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا , عَلَى الْغِنَى وَالْفَقْر . وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ : الْقَوْل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ قَتَادَة , لِدَلَالَةِ قَوْله { بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم } وَالْآيَات الَّتِي بَعْدهَا , عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَهَانَ مَنْ أَهَانَ بِأَنَّهُ لَا يُكْرِم الْيَتِيم , وَلَا يَحُضّ عَلَى طَعَام الْمِسْكِين , وَسَائِر الْمَعَانِي الَّتِي عَدَّدَ , وَفِي إِبَانَته عَنْ السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله أَهَانَ مَنْ أَهَانَ , الدَّلَالَة الْوَاضِحَة عَلَى سَبَب تَكْرِيمه مَنْ أَكْرَمَ , وَفِي تَبْيِينه ذَلِكَ عَقِيب قَوْله : { فَأَمَّا الْإِنْسَان إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ رَبّه فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُول رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِي } بَيَان وَاضِح عَنْ الَّذِي أَنْكَرَ مِنْ قَوْله مَا وَصَفْنَا . وَقَوْله : { بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : بَلْ إِنَّمَا أَهَنْت مَنْ أَهَنْت مِنْ أَجْل أَنَّهُ لَا يُكْرِم الْيَتِيم , فَأَخْرَجَ الْكَلَام عَلَى الْخِطَاب , فَقَالَ : بَلْ لَسْتُمْ تُكْرِمُونَ الْيَتِيم , فَلِذَلِكَ أَهَنْتُكُمْ
اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة أَبُو جَعْفَر وَعَامَّة قُرَّاء الْكُوفَة { بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم وَلَا تَحَاضُّونَ } بِالتَّاءِ أَيْضًا وَفَتْحهَا , وَإِثْبَات الْأَلِف فِيهَا , بِمَعْنَى : وَلَا يَحُضّ بَعْضكُمْ بَعْضًا عَلَى طَعَام الْمِسْكِين . وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض قُرَّاء مَكَّة وَعَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة , بِالتَّاءِ وَفَتْحهَا وَحَذْف الْأَلِف : | وَلَا تَحُضُّونَ | بِمَعْنَى : وَلَا تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِين . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْبَصْرَة : | يَحُضُّونَ | بِالْيَاءِ وَحَذْف الْأَلِف , بِمَعْنَى : وَلَا يُكْرِم الْقَائِلُونَ إِذَا مَا اِبْتَلَاهُ رَبّه فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ رَبِّي أَكْرَمَنِي , وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه رَبِّي أَهَانَنِي الْيَتِيم , | وَلَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَام الْمِسْكِين | وَكَذَلِكَ يَقْرَأ الَّذِينَ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْل الْبَصْرَة | يُكْرِمُونَ | وَسَائِر الْحُرُوف مَعَهَا بِالْيَاءِ , عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ الَّذِينَ ذَكَرْت . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَرَأَ : | تُحَاضُّونَ | بِالتَّاءِ وَضَمّهَا وَإِثْبَات الْأَلِف , بِمَعْنَى : وَلَا تُحَافِظُونَ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي : أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَات مَعْرُوفَات فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار , أَعْنِي الْقِرَاءَات الثَّلَاث صَحِيحَات الْمَعَانِي , فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب .