تعالى أمر الله وتزايد خيره، هو الذى نزل القرآن فارقًا بين الحق والباطل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم، ليكون نذيرًا به مبلغًا إياه إلى العالمين.
هو سبحانه الذى يملك - وحده - السموات والأرض، والمنزه عن اتخاذ الولد، ولم يكن له أى شريك فى ملكه، وقد خلق كل شىء وقدَّره تقديرًا دقيقًا بنواميس تكفل له أداء مهمته بنظام (1).<BR>________<BR>(1) {الذى له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، وخلق كل شىء فقدره تقديرا}: أثبت العلم الحديث أن كل الموجودات تسير بحكم تكوينها وما يجرى عليها من تطورات مختلفة وفق نظام دقيق ثابت لا يقدر عليه إلا خالق قدير مبدع.<BR>فمن حيث التكوين فقد تبين أن جميع هذه الموجودات والمخلوقات على اختلاف أشكالها وتباين صورها تتألف من اتحاد عناصر محدودة العدد، إذ يبلغ عددها قرابة المائة عنصر " منها 96 معروفة حتى الآن " وهى تتدرج فى صفاتها الطبيعية والكيميائية وأوزانها الذرية وتبدأ بالعنصر رقم " 1 " وهو الأيدروجين ووزنه الذرى " 1 " وتنتهى - حتى الآن - بالعنصر رقم 96 وهو عنصر اليوريوم ووزنه الذرى غير معلوم، وآخر عنصر علم وزنه الذرى هو اليورانيوم ويبلغ وزنه الذرى 57ر238، وتسير هذه العناصر فى اتحادها لتكوين المركبات حسب قوانين ثابتة لا تحيد عنها، وكذلك النبات والحيوان فإن كلا منها ينقسم إلى أسر وفصائل وأنواع تتدرج صفاتها فى مدارج الرقى من الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة مثل الميكروبات إلى كائنات متعددة الخلايا إلى الإنسان وهو أكملها.<BR>ولكل من هذه الأنواع صفات خاصة تتوارث فيما بينها جيلا بعد جيل وكل هذا يسير تبعًا لقوانين ونظم ثابتة دقيقة تنبئ بجلاء ووضوح عن عظمة الخالق وقدرته.<BR>فسبحانه وتعالى عما يشركون.
ومع ذلك ترك الكافرون عبادته، واتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله من أصنام وكواكب وأشخاص وهم لا يستطيعون أن يخلقوا شيئًا ما، وهم مخلوقون لله، ولا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ولا جلب خير لها، ولا يملكون إماتة أحد ولا إحياءه، ولا بعث الأموات من قبورهم، وكل من لا يملك شيئًا من ذلك لا يستحق أن يعبد، وما أجهل من يعبده، والمستحق للعبادة وحده هو مالك كل هذا.
وطعن الكفار فى القرآن وقالوا: إنه كذب اخترعه محمد من عند نفسه ونسبه إلى الله، وساعده فى اختراعه جماعة آخرون من أهل الكتاب، فارتكب الكفار بقولهم هذا ظلمًا فى الحكم واعتداء على الحق، وجاءوا بزور لا دليل عليه، لأن من أشاروا إليهم من أهل الكتاب لسانهم أعجمى، والقرآن لسان عربى مبين.
وقالوا عن القرآن أيضًا: إنه أكاذيب السابقين سطَّروها فى كتبهم، ثم طلب منهم أن تُكتب له وتُقرأ عليه على الدوام صباحًا ومساء حتى يحفظها ويقولها.
قل لهم - أيها النبى -: إن القرآن أنزله الله الذى يعلم الأسرار الخفية فى السموات والأرض، وقد أودعها فى القرآن المعجز دليلا على أنه وحيه سبحانه، إن الله واسع المغفرة والرحمة، يتجاوز عن العاصين إذا تابوا ولا يعجل بعقوبتهم.
وسَخِروا من محمد فقالوا: أى شىء يمتاز به هذا الذى يزعم أنه رسول حتى إنه يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد فى الأسواق لكسب عيشه كما يفعل سائر البشر؟ لو كان رسولا لكفاه الله ذلك، ولسأل ربه أن ينزل له ملكًا من السماء يساعده على الإنذار والتبليغ ويصدقه فى دعواه فنؤمن به.
وهلا سأل أن يكفيه مؤونة التردد على الأسواق فيلقى إليه كنزًا من السماء ينفق منه، أو يجعل له حديقة يقتات من ثمارها؟ وقال كبار الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر صادين الناس عن الإيمان بمحمد، ومحاولين تشكيك المؤمنين: ما تتبعون إلا رجلاً مسحورًا عقلُه، فهو يهذى بما لا حقيقة له.
انظر - أيها النبى - كيف ضربوا لك الأمثال، فمثلوك مرة بمسحور، وأخرى بمجنون، وثالثة بكذاب، ورابعة بتلقى القرآن عن أعاجم، إنهم بذلك قد ضلوا طريق الحق والمحاجة الصحيحة فلا يجدون إليهما سبيلا.
تعالى الله وتزايد خيره، هو الذى إن شاء جعل لك فى الدنيا أحسن مما اقترحوا، فيجعل لك فيها مثل ما وعدك فى الآخرة من جنات كثيرة تجرى الأنهار فى جنباتها وخلال أشجارها، ومن قصور مشيدة.<BR>
والحقيقة أنهم جاحدون بكل آية، لأنهم كذَّبوا بالبعث ويوم القيامة، فهم لهذا يتعللون بهذه المطالب ليصرفوا الناس إلى باطلهم، وقد أعددنا لمن كذب بيوم القيامة نارًا مستعرة شديدة الالتهاب.
إذا رأوها ورأتهم من بعيد سمعوا لها صوتًا متغيظًا متحفزًا لإهلاكهم، وفيه مثل الزفرات التى تخرج من صدر متغيظ علامة على ما هى عليه من شدة.
وإذا ألقوا فى مكان ضيق منها يتناسب مع جرمهم وهم مقرونة أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال، نادوا هناك طالبين تعجيل هلاكهم ليستريحوا من هول العذاب.
فيقال لهم توبيخًا وسخرية: لا تطلبوا هلاكًا واحدًا بل اطلبوه مرارًا، فلن تجدوا خلاصًا مما أنتم فيه، وإن أنواع عذابهم كثيرة.
قل - يا أيها النبى - للكافرين: أهذا المصير الذى أوعد به الكافرون خير، أم الجنة الدائم نعيمها والتى وعد المؤمنون الأتقياء بأن تكون لهم ثوابًا ومصيرًا يصيرون إليه بعد البعث والحساب؟.
لهم فيها ما يرغبون وينعمون به نعيمًا دون انقطاع، وكان هذا النعيم وعدًا من الله لهم، سألوا ربهم تحقيقه فأجابهم إلى ما سألوه، لأن وعده لا يتخلف.
واذكر - للعظة - يوم يحشر الله المشركين للحساب فى يوم القيامة مع مَن عبدوهم فى الدنيا من دون الله، كعيسى وعزير والملائكة، فيسأل الله المعبودين: أأنتم الذين أضللتم عبادى فأمرتموهم بأن يعبدوكم، أم هم الذين ضلوا السبيل باختيارهم فعبدوكم؟.
فيكون جوابهم: تنزَّهت وتقَّدست، ما كان يحق لنا أبدًا أن نطلب من دونك وليًا ينصرنا ويتولى أمرنا، فكيف مع هذا ندعو أحدًا أن يعبدنا دونك؟ ولكن السبب فى كفرهم هو إنعامك عليهم بأن متّعتهم طويلا بالدنيا هم وآباؤهم، فأطغاهم ذلك ونسوا شكرك والتوجه إليك - وحدك - بالعبادة، وكانوا بذلك الطغيان والكفر قومًا مستحقين للهلاك.
فيقال للعابدين المشركين: لقد كذَّبكم مَن عبدتموه فيما زعمتم من إضلالهم إياكم.<BR>فأنتم اليوم إلى العذاب صائرون، لا تملكون حيلة لصرفه عنكم، ولا تجدون نصرًا من أحد يخلصكم منه، وليعلم العباد جميعًا أن من يظلم نفسه بالكفر والطغيان كما فعل أولئك فإننا نعذَّبه عذابًا شديدًا.
وإذا كان المشركون يعيبونك - أيها النبى - بأكلك الطعام ومشيك فى الأسواق للعمل والكسب فتلك سنة الله فى المرسلين من قبلك، ما أرسلنا أحدًا منهم إلا كان يأكل الطعام ويتردد فى الأسواق.<BR>وجعلنا بعضكم - أيها الناس - ابتلاء لبعض، والمفسدون يحاولون سد الطريق إلى الهداية والحق بشتى الأساليب، فهل تصبرون على حقكم - أيها المؤمنون - وتتمسكون بدينكم حتى يأتى أمر الله بالنصر؟ اصبروا فالله مطلع على كل شىء ويجازى كلا بما عمل.
وقال الذين ينكرون البعث ولا يتوقعون الجزاء على أعمالهم: لماذا لا تنزل علينا الملائكة بتأييدك، أو يتراءى لنا الله فيخبرنا بأنه أرسلك؟.<BR>لقد تمكن الكبر من نفوسهم وجاوزوا الحد فى الظلم والطغيان.
يوم القيامة يرون الملائكة كما تمنوا، وسيكون ذلك مصدر تنفير لهم لا بشارة.<BR>يستعيذون منهم كما كانوا يستعيذون مما يفزعهم فى الدنيا.
ويوم القيامة نأتى إلى ما عملوه من مظاهر البر والإحسان فى الدنيا فنحبطه ونحرمهم ثوابه، لعدم إيمانهم الذى به تعتبر الأعمال.
أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرًا وأحسن منزلا ومأوى للاسترواح، لأنه الجنة المعدة للمؤمنين لا النار المعدة للكافرين.
واذكر - أيها النبى - يوم تنفرج السماء وتنفتح، ويظهر من فُرَجها الغمام، وتنزل الملائكة نزولاً مؤكدًا.
فى هذا اليوم تبطل أملاك المالكين من الناس وتنقطع دعاواهم، ويخلص الملك للرحمن - وحده - ويكون يومًا شديدًا عصيبًا على الكافرين.
يوم القيامة يعض الظالم لنفسه - بالكفر ومخالفة الرسل - على يديه أسفًا وندمًا يقول متمنيًا: يا ليتنى اتبعت الرسل فسلكت طريق الجنة وتجنبت طريق النار.
يقول نادمًا على اتِّباع مَنْ أضلوه: يا ليتنى لم أصادق فلانًا الذى ملَّكته قيادى.
لقد أبعدنى هذا الصديق عن ذكر الله وذكر القرآن بعد أن يُسِّر لى، وهكذا يخذل الشيطان الإنسان ويسلمه إلى ما فيه هلكته.
وقال الرسول يشكو إلى الله ما يلاقيه من تعنت قومه: إنهم تركوا القرآن وهجروه، وتمادوا فى إعراضهم وعنادهم وعدائهم.
قل أيضًا - يا أيها النبى - للمؤمنات: إنهن مأمورات بكف نظرهن عما يحرم النظر إليه، وأن يَصُنَّ فروجهن بالستر وعدم الاتصال غير المشروع، وألا يُظهرن للرجال ما يغريهم من المحاسن الخلقية والزينة كالصدر والعضد والقلادة، إلا ما يظهر من غير إظهار كالوجه واليد، واطلب منهن - يا أيها النبى - أن يسترن المواضع التى تبدو من فتحات الملابس، كالعنق والصدر، وذلك بأن يسترن عليها أغطية رؤوسهن، وألا يسمحن بظهور محاسنهن، إلا لأزواجهن والأقارب الذين يحرم عليهم التزوج منهن تحريمًا مؤبدًا كآبائهن أو آباء أزواجهن، أو أبنائهن أو أبناء أزواجهن من غيرهن، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن، ومثل هؤلاء صواحبهن، وسواء منهن الحرائر والمملوكات، والرجال الذين يعيشون معهن، ولا يوجد عندهم الحاجة والميل للنساء كالطاعنين فى السن، وكذلك الأطفال الذين لم يبلْغوا حد الشهوة، واطلب منهن أيضًا ألا يفعلن شيئًا يلفت أنظار الرجال إلى ما خفى من الزينة، وذلك كالضرب فى الأرض بأرجلهن، ليسمع صوت خلاخيلهن المستترة بالثياب، وتوبوا إلى الله جميعًا - أيها المؤمنون - فيما خالفتم فيه أمر الله، والتزموا آداب الدين لتسعدوا فى دنياكم وأخراكم.
وقال الذين كفروا طعنًا فى القرآن: لِمَ لَمْ ينزل دفعة واحدة، لقد أنزلناه كذلك مفرقًا ليثبت به فؤادك بأُنسك به وحفظك له، ورتَّلناه.<BR>فرقنا آيه، أو قرأناه على لسان جبريل شيئًا فشيئًا على تؤدة وتمهل.
ولا يأتونك بحال من الاعتراضات الواهية إلا جئناك بالحق نبيِّنه ونُفسِّره أحسن تفسير.
والذين كفروا برسالتك سيُسحبون إلى النار على وجوههم أذلاء، وهم شر الناس منزلة وأوغلُهم فى الضلال.
ويُسَلّى الرسول مما وقع للرسل قبله، ولقد نزلنا على موسى التوراة وكلفناه أن يقوم بتبليغ رسالتنا، وأيدناه بأخيه هارون وزيرًا له ومعينًا فى أمره.
فقلنا: اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه.<BR>وأيدناه بالمعجزات التى تدل على صدقه، فلم يؤمنوا بها وكذبوه، فكان عاقبتهم أن أهلكناهم ومحقناهم محقًا.
وكذلك فعلنا من قبل موسى مع قوم نوح لما كذَّبوه - ومن كذَّب رسولا فقد كذّب الرسل أجمعين - فقد أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم عبرة للناس، وجعلنا لهم ولكل مشرك فى الآخرة عذابًا أليمًا.
وكذلك أهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرسَ (1) لما كذبوا رسلهم، وأهلكنا أممًا كثيرة كانوا بين أمة نوح وبين عاد فأصابهم جزاء الظالمين.<BR>_________<BR>(1) الرَّس: كما جاء فى مفردات الراغب الأصفهانى: هو واد، وقد استشهد بقول الشاعر: ( وهن الوادى الرس كاليد للفم ) وأصحاب الرس كما جاء فى الآية الكريمة: قوم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله شعيبًا لهم، فهم ممن أرسل فيهم شعيب - عليه السلام - وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن قوم شعيب مرة بأصحاب الأيكة - وهو المكان الذى يكثر فيه شجر امتاز بالنعومة - ومرة بأصحاب الرس - وهو واد فيه خير عظيم - للإشارة إلى ما كانوا فيه من نعيم أنعم الله به عليهم، فكفروا بأنعمه، وعبدوا الأوثان.
ولقد أنذرنا هؤلاء الأقوام كلهم، وذكرنا لهم العظات والأمثال الصحيحة النافعة، ولكنهم لم يتعظوا فأخذناهم كلهم بالعذاب وأهلكناهم ودمرنا ديارهم تدميرًا.
وهؤلاء - قريش - يمرون فى أسفارهم إلى الشام على قرية قوم لوط التى أمطرنا عليها شر مطر وأسوأه - حجارة من سجيل - أفلم يروا هذه القرية فيتعظوا بما حل لأهلها؟.<BR>إنهم يرونها ولكن لا بأعين الاتعاظ والاعتبار، إذ كانوا لا يؤمنون بمعاد ولا بعث، ولا يتوقعون يومًا ينشرون فيه إلى الحساب.
وإذا أبصرك هؤلاء لا يتخذونك إلا موضع هزؤ وسخرية، ويقول بعضهم لبعض: أهذا هو الذى بعثه الله رسولاً إلينا نتبعه ونسير وراءه؟!
لقد أوتى هذا الرجل من حُسْن البيان وقوة الحُجة ما يجذب السامعين، ولقد نال من عقائدنا حتى لقد كاد يُزحزحنا عن آلهتنا ويميلنا إلى إلهه، ولكننا ثبتنا على آلهتنا وديننا.<BR>سنبين لهم جلية الأمر حين يرون العذاب يوم القيامة ويعلمون من هو أثبت فى الضلال والغواية.
أرأيت - أيها الرسول - ضلال من اتَّبع هواه وشهواته حتى إنه ليعبد حجارة لا تضر ولا تنفع؟ وأنت قد بعثت نذيرًا وبشيرًا ولست موكلا بإيمانهم وهدايتهم.
وهل تظن أن أكثرهم يسمعون سماع الفهم أو يهتدون بعقولهم؟! لقد نبذوا ما تأمرهم به أحلامهم، وصاروا كالبهائم لا همّ لهم إلا الأكل والشرب ومتاع الحياة الدنيا، ولا تفكير لهم فيما وراء ذلك، بل هم شر مكانًا من البهائم، فالبهائم تنقاد لأصحابها إلى ما فيه خيرها، وتنأى عما يضرها، وهؤلاء يلقون بأنفسهم فيما يهلكهم.
لقد نصبنا من الدلائل على التوحيد ما يهدى ذوى الألباب، انظر إلى الظل فقد بسطه الله وجعله ساكنًا أول النهار، ثم سلطنا الشمس تزيل منه بما يحل محله من أشعتها، فكانت الشمس دالة عليه ولولاها ما عرف الظل، ولو شاء الله لجعل الظل ساكنًا مطبقًا على الناس فتفوت مصالحهم ومرافقهم (1).<BR>________<BR>(1) {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنًا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}: هذه الآية تظهر عناية الخالق وقدرته.<BR>فمد الظل يدل على دوران الأرض وعلى ميل محور دورانها، ولو أن الأرض سكنت بحيث أنها ظلت غير متحركة حول الشمس، وكذلك انعدم دورانها حول محورها لسكن الظل ولظلت أشعة الشمس مسلطة على نصف الأرض بينما يظل النصف الآخر ليلا مما يحدث اختلاف التوازن الحرارى، ويؤدى إلى انعدام الحياة على الأرض وكذلك إذا كان هو حال الأرض فإن الظل يظل ساكنًا.<BR>وهذا أيضًا يحدث إذا كانت فترة دوران الأرض حول محورها هى نفسها فترة دورانها من حول الشمس، أى أن اليوم يصبح سنة كاملة، ولكن لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله، هذا فضلا عن أن الظل ذاته نعمة من نعم الله، ولو أن الله خلق الأشياء كلها شفافة لما وجد الظل ولأنعدمت فرص الحياة أمام الكائنات التى تحتاج إليه.
ولقد كان نسخنا للظل بالشمس تدريجيًا بمقدار ولم يكن دفعة واحدة، وفى ذلك منافع للناس.
ومن آيات التوحيد أن جعل الليل سترًا بظلامه، يدخل فيه الخلق فيحيطهم إحاطة الثوب بلابسه.<BR>وهيَّأ الناس للنوم فكان راحة لهم يستجمون به من التعب، ثم يأتى النهار بضيائه ناشرًا للناس باحثين عن معايشهم طالبين لرزقهم.
وهو الذى سخر الرياح فتسوق السحب وتبشر الناس بالمطر الذى هو رحمة منه لهم، ولقد أنزلنا من السماء ماء طاهرًا مُطهرًا مزيلا للأنجاس والأوساخ (1).<BR>_________<BR>(1) {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا}: فى هذه الآية الكريمة: يمن الله على البشر بإنزال الماء طاهرًا إليهم من السماء، وتتضمن الآية الإشارة إلى أن ماء المطر عند بدء تكوينه يكون فى أعلى درجات النقاء، وعلى الرغم من أن حمله بعد ذلك ما فى الجو من أجسام وذرات فإنه يكون فى أعلى درجات الطهارة.
أنزلنا المطر لينبت به الزرع، فتحيا به الأرض الجدبة بعد موتها، وينتفع به السقيا مما خلق أنعامًا وأناسى كثيرًا.
وهذا القرآن قد بيَّنا آياته وصرَّفناها، ليتذكر الناس ربهم وليتعظوا ويعملوا بموجبه، ولكن أكثر الناس أبوا إلا الكفر والعناد.
ولو شئنا لبعثنا فى كل بلدة نذيرًا، فاجتهد فى دعوتك، ودع كلام الكافرين، وانبذ ما يأتون به.
واستمر فى دعوتك إلى الحق وتبليغ رسالة ربك، وإن قاوموا دعوتك واعتدوا على المؤمنين فحاربهم وجاهد فى ذلك جهادًا عظيمًا.
والله هو الذى أجرى البحرين: البحر العذب والبحر الملح، وجعل المجرى لكل واحد يجاور المجرى الآخر، ومع ذلك لا يختلطان، نعمة ورحمة بالناس (1).<BR>________<BR>(1) {وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا}: قد تشير هذه الآية إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار فى الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطًا تامًا بل إنما يلتقيان مجرد تلاق، يطفو العذب منها فوق الملح كأن بينهما برزخًا يمنع بغى أحدهما على الآخر، وحجرًا محجورًا، أى حاجزًا خفيا مستورًا لا نراه.<BR>وليس هذا فقط، بل إن هناك قانونًا ثابتًا يحكم هذه العلاقة ويتحكم فيها لمصلحة البشر ممن يسكنون فى تلك المناطق وتتوقف حياتهم على توفر الماء العذب، فقد ثبت أن طبقة الماء العذب العليا يزداد سمكها مع زيادة الارتفاع عن منسوب البحر بعلاقة منتظمة حتى أنه يمكن حساب العمق الأقصى للماء العذب الذى يمكن الوصول إليه، فهو يساوى قدر الفرق بين منسوب الأرض ومنسوب البحر أربعين مرة.
والله هو الذى خلق من النطفة هؤلاء الناس، وجعلهم ذكورًا وإناثًا ذوى قرابات بالنسب أو المصاهرة، وكان الله قديرًا على ما يريد إذ خلق من النطفة الواحدة نوعين متمايزين.
وبعد هذه الآيات الدالة على استحقاق الله - وحده - العبادة، وأن لا إله سواه، يعبد فريق من الناس ما لا ينفع ولا يضر من الأوثان، وهؤلاء بعملهم هذا يعاونون الشيطان وهو يضلهم، فهم متظاهرون على الحق الذى دعاهم إليه الله.
وليس عليك - أيها النبى - إلا تبليغ ما أرسلت به، وتبشير المؤمنين بالجنة، وتخويف الكافرين ما سيلقونه، وليس عليك بعد ذلك شىء تطالب به.
وقل لهم: إنى لا أبتغى على دعوتكم إلى الإسلام أجرًا وجزاء، إلا أن يهتدى أحدكم ويسلك سبيل الحق ويرجع إلى ربه.
وتوكل فى أمورك على الله الحى الذى لا يمكن أن يموت، ونزّهه وقدسه حامدًا أنعمه، ودع من خرج عن الجادة، فالله خبير بهم مكافئ لهم على ذنوبهم.
والله هو الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، وقد استولى على العرش والملكوت وعم سلطانه كل شىء، وهو الرحمن، وإن ابتغيت أن تعرف شيئًا من صفاته فاسأل الخبير عنه يجبك وهو الله العليم الحكيم (1).<BR>___________<BR>(1) {الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن فاسأل به خبيرا}: الستة أيام تعبير من جانب الله - عز وجل - عن الزمن، وهو تعالى أعلم بمقدار اليوم، ومن الوجهة العلمية تتطلب عملية خلْق الكون المرور بمراحل وأدوار مختلفة {السموات والأرض وما بينهما} تشير إلى سائر أجرام السماء من نجوم وشموس وكواكب وأقمار وأتربة كونية، وغازات وطاقات يتألف الكون منها {ثم استوى على العرش} ثبت أن للكون بداية من حيث الزمن وأن نشوء الكون لازمته نظم كونية أو إلهية منظمة له، وبتنظيم الكون على الوجه التفصيلى الكامل الذى شمل كل شىء اتضح استيلاء الله - سبحانه - على الكون إجمالا وتفصيلا.<BR>{فاسأل به خبيرًا} فى هذه الجملة من الآية الكريمة توجيه علمى من الله إلى ضرورة البحث والتنقيب فيما يمكن بحثه من مظاهر الكون ونظمه المختلفة للوقوف على أسرار قدرة الله فى إبداع الكون.
وإذا قيل لهؤلاء الكفار: اخضعوا للرحمن واعبدوه.<BR>كان جوابهم بالإنكار وتجاهل الرحمن وقالوا: من هو الرحمن؟! نحن لا نعلمه حتى نسجد له، فهل نخضع لأمرك وحسب؟، وازدادوا عن الإيمان بُعْدًا ونفورًا.
تعالى الرحمن وتزايد فضله، أنشأ الكواكب فى السموات وجعل لها منازل تسير فيها، وجعل من الكواكب الشمس سراجًا مضيئًا والقمر منيرًا (1).<BR>_______<BR>(1) {تبارك الذى جعل فى السماء بروجًا وجعل فيها سراجا وقمرًا منيرًا}: تشير الآية الكريمة إلى المعانى العلمية المتضمنة فى نظام الكون الذى خلقه الله - سبحانه وتعالى - وتزايد فضله.<BR>وإننا لنشاهد نجوم السماء على هيئة مجموعات تكاد تحتفظ بصورها على مر الأجيال، والبروج: هى تلك المجموعات من النجوم التى تمر أمامها الشمس أثناء دورانها الظاهرى من حول الأرض، فالبروج كأنها منازل الشمس فى دورانها أثناء السنة، وكل ثلاثة منها تؤلف فصلا من فصول السنة، وهى كمفردات مبتدئين بفصل الربيع: الحمل - الثور - الجوزاء - السرطان - السنبلة – الميزان - العقرب - القوس - الجدى - الدلو - الحوت.<BR>والشمس هى إحدى النجوم المتوسطة القدر وهى كسائر النجوم مضيئة بذاتها نظرًا للتفاعلات الذرية فى داخلها، فالإشعاع الشمسى المنبعث من هذه الطاقة يسقط على الكواكب والأرض والأقمار وسائر أجرام السماء غير المضيئة بذاتها فينيرها، أى أن الشمس هى سراج وهاج.<BR>أما القمر فينير بضياء الشمس المرتد من سطحه، وأن فى وصف الشمس بأنها سراج ووصف القمر بأنه منير إشارة إلى أن الشمس مصدر الطاقة الحرارية.
والرحمن هو الذى جعل الليل والنهار متعاقبين: يخلف أحدهما الآخر، وقد دبرنا هذا ليتذكر من شاء هذا التدبير، فيعرف حكمة الله وقدرته، أو يشكره على هذه النعمة الجليلة.
فعباد الرحمن هم الذين يتواضعون فى الدنيا، إذا مَشوْا على الأرض مشوا فى سكينة ووقار، وكذلك فى سائر أعمالهم، وإذا سابَّهم السفهاء من المشركين تركوهم وشأنهم وقالوا لهم: لا شأن لنا بكم بل أمرنا سلام عليكم.
والذين يبيتون على التعبد والصلاة ويذكرون الله كثيرًا.
والذين يغلِّبون الخوف على الرجاء - شأن الأتقياء - فيخافون عذاب الآخرة، يكون دأبهم أن يدعوا الله أن ينجيهم من عذاب جهنم، فإن عذابها إذا نزل بمجرم يلزمه ولا يفارقه.
وأن جهنم شر مستقر لمن يستقر فيها، وشر مقام لمن يقيم.
ومن سمات عباد الرحمن: الاعتدال فى إنفاقهم المال على أنفسهم وأسرهم، فهم لا يبذرون ولا يضيقون فى النفقة، بل نفقتهم وسط بين الأمرين.
ومن شأنهم أنهم أخلصوا التوحيد، ونبذوا كل أثر للشرك فى عبادة ربهم، وتنزَّهوا عن قتل النفوس التى نهى الله عن قتلها.<BR>لكن إن اعتدت قُتِلَتْ بالحق.<BR>وقد تجنبوا الزنى، وقصروا أنفسهم على الحلال من أوجه المتاع، لينجوا من عقاب هذه المهلكات، فإن من يفعل هذه الأمور يلق منها شرا وعذابًا.
فإنه سيلقى يوم القيامة عذابًا مضاعفًا، ويخلد فيه ذليلا مهانًا.
ولكن مَن تاب من هذه الذنوب، وصدق فى إيمانه، وأَتبعَ ذلك بالطاعات والأعمال الصالحة، فهؤلاء يغفر لهم رحمة منه، ويجعل لهم مكان السيئات السالفة حسنات يثيبهم عليها أجزل الثواب، وأن الله من شأنه الرحمة والغفران.
وهكذا مضى أمرنا: أن من تاب من إثمه وظهر أثر ذلك فى إقباله على الطاعة واجتنابه المعصية، فهو الذى يقبل الله توبته.<BR>وبها يرجع إلى ربه بعد نِفاره.
ومن أخلاق عباد الرحمن: أنهم يتنزَّهون عن شهادة الزور، وأنهم إذا صادفوا من إنسان ما لا يُحمد من قول أو فعل لم يشتركوا فيه، ورفعوا أنفسهم عن مقارنته.
ومن صفاتهم: أنهم إذا وعظهم واعظ وتلا عليهم آيات الله ألقوا بمسامعهم إليها، فوعتها قلوبهم، وتفتحت لها بصائرهم، ولم يكونوا كأولئك الذين يضطربون عند سماعها معرضين عنها، لا تخرق آذانهم وتنسد عنها أبصارهم.
وهم يسألون ربهم أن يجعل نساءهم وأولادهم موضع أنس أنفسهم بما يعملون من خير، وأن يجعلهم أئمة فى الخير يقتدى بهم الصالحون.
هؤلاء الموصوفون بما وصفناهم عباد الله حقًا، وجزاؤهم غرف الجنة العالية كفاء صبرهم على الطاعات، وسيلقون فى الجنة التحية والتسليم.
ونعيمهم فى الجنة خالد لا انقطاع له، فنعم الجنة مستقرًا ومقامًا.
قل - أيها الرسول - للناس: إن الله لا يعنيه منكم إلا أن تعبدوه وتدعوه فى شئونكم ولا تدعوا غيره، ولذلك خلقكم، ولكن الكافرين منكم كذبوا ما جاء به الرسل، فسيكون عذابهم لازمًا لهم لا منجى لهم منه.