{تبارك} ثبت ودام {الذي نزل الفرقان} القرآن الذي فرق بين الحق والباطل {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ليكون للعالمين} الجن والإنس {نذيرا} مخوفاً من العذاب.
{وخلق كل شيء} مما يطلق في صفة المخلوق {فقدره تقديرا} جعله على مقدار. وقوله:
{نشورا} أي: حياةً بعد الموت.
{وقال الذين كفروا إن هذا} ما هذا القرآن {إلا إفك} كذب {افتراه} اختلقه {وأعانه عليه قوم آخرون} يعنون: اليهود {فقد جاؤوا} بهذا القول {ظلما وزورا} كذباً
{وقالوا أساطير الأولين} أي: هو ما سطره الأولون {اكتتبها} كتبها {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} يعنون أنه يختلف إلى من يعلمه بالغداة والعشي.
{قل} يا محمد لهم: {أنزله} أنزل القرآن {الذي يعلم السر في السماوات والأرض} يعلم بواطن الأمور، فقد أنزله على ما يقتضيه علمه.
{وقالوا مال هذا الرسول } يعنون محمداً عليه السلام {يأكل الطعام} أنكروا أن يكون الرسول بصفة البشر {ويمشي في الأسواق} طلباً للمعاش، يعنون أنه ليس بملك ولام ملك {لولا} هلا {أنزل إليه ملك} يصدقه {فيكون معه نذيرا} داعياً إلى الله يشاركه في النبوة.
{أو يلقى إليه كنز} يستغنى به عن طلب المعاش {وقال الظالمون} المشركون: {إن تتبعون} ما تتبعون {إلا رجلاً مسحورا} مخدوعاً.
{انظر} يا محمد {كيف ضربوا لك الأمثال} إذ مثلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً، والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك ملك {فضلوا} بهذا القول عن الدين والإيمان {فلا يستطيعون سبيلا} إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم.
{تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك} الذي قالوه من إلقاء الكنز، وجعل الجنة، ثم بين ذلك فقال: {جنات تجري من تحتها الأنهار} يعني: في الدنيا، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة. وقوله:
{سمعوا لها تغيظا } أي: صوتاً بغيظ، وهو التغضب {وزفيرا} صوتاً شديداً.
{إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا}.
{وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا} وذلك أنهم يدفعون في النار كما يدفع الوتد في الحائط {مقرنين} مقرونين مع الشيطان {دعوا هنالك ثبورا} ويلاً وهلاكاً، فيقال لهم:
{لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا}.
{قل أذلك} الذي ذكرت من موضع أهل النار ومصيرهم {خير أم جنة الخلد} الآية. وقوله:
{وعدا مسؤولا} لأن الملائكة سألت ذلك لهم في قوله تعالى: {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم}.
{ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله} الأصنام، والملائكة، والمسيح، وعزيراً {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} هذا توبيخ للكفار، كقوله لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}؟!
{قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} أن نوالي أعداءك، وفي هذا براءة معبوديهم منهم {ولكن متعتهم وآباءهم} في الدنيا بالصحة والنعمة {حتى نسوا الذكر} تركوا ما وعظوا به {وكانوا قوما بورا} هلكى بكفرهم.
{فقد كذبوكم بما تقولون} بقولكم: إنهم كانوا آلهة {فما تستطيعون} يعني الآلهة {صرفا} للعذاب عنكم {ولا نصرا} لكم {ومن يظلم} أي: يشرك {منكم نذقه عذابا كبيرا}.
{وما أرسلنا قبلك} الآية. هذا جواب لقولهم: {مال هذا الرسول} الآية. أخبر الله سبحان أن كل من خلا من الرسل كان بهذه الصفة {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} الصحيح للمريض، والغني للفقير فيقول الفقير: لو شاء الله لأغناني كما أغنى فلاناً، ويقول المريض، لو شاء الله لعافاني كما عافى فلاناً وكذلك كل الناس مبتلى بعضهم ببعض، فقال الله تعالى: {أتصبرون} على البلاء؟ فقد عرفتم ما وعد الصابرون {وكان ربك بصيرا} بمن يصبر، وبمن يجزع.
{وقال الذين لا يرجون لقاءنا} لا يخافون البعث: {لولا} هلا {أنزل علينا الملائكة} فتخبرنا أن محمداً صادق {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك {لقد استكبروا في أنفسهم} حين طلبوا من الآيات ما لم يطلبه أمة {وعتوا عتوا كبيرا} وغلوا في كفرهم أشد الغلو.
{يوم يرون الملائكة} يعني: إن ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وإن الله سبحانه حرمهم البشرى في ذلك اليوم، وتقول لهم الملائكة: {حجرا محجورا} أي: حراماً محرماً عليهم البشرى.
{وقدمنا} وقصدنا {إلى ما عملوا من عمل} مما كانوا يقصدون به التقرب إلى الله سبحانه {فجعلناه هباء منثورا} باطلاً لا ثواب له، لأنهم عملوه للشيطان، والهباء: دقاق التراب، والمنثور: المتفرق.
{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا} موضع قرار {وأحسن مقيلا} موضع قيلولة.
{ويوم تشقق السماء بالغمام} عن الغمام، وهو السحاب الأبيض الرقيق {ونزل الملائكة تنزيلا} لإكرام المؤمنين.
{الملك يومئذ الحق} أي: الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن يومئذ.
{ويوم يعض الظالم} الكافر، يعني: عقبة بن أبي معيط كان قد آمن ثم ارتد لرضى أبي بن خلف {على يديه} ندماً وتحسراً {يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} طريقاً إلى الجنة بالإسلام.
{يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا} يعني: أبياً {خليلا}.
{لقد أضلني عن الذكر} القرآن {بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} عند البلاء. يعني: إن قبوله قول أبي بن خلف في الكفر كان من عمل الشيطان.
{وقال الرسول} في ذلك اليوم: يا {رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} متروكاً أعرضوا عنه.
{وكذلك} وكما جعلنا لك أعداءً من المشركين {جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا} يهديك وينصرك، فلا تبال بمن يعاديك.
{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} أي: لم نزل عليه متفرقاً؟ وهلا كان دفعةً واحدةً كالتوراة والإنجيل؟ قال الله تعالى: {كذلك} فرقنا تنزيله {لنثبت به فؤادك} لنقوي به قلبك، وذلك أنه كلما نزل عليه وحي جديد ازداد هو قوة قلب {ورتلناه ترتيلا} بيناه تبيناً في تثبت ومهلة.
{ولا يأتونك} يعني: المشركين {بمثل} يضربونهن في إبطال أمرك {إلا جئناك بالحق} بما يرد ما جاؤوا به من المثل {وأحسن تفسيرا} بياناً وتفصيلاً مما ذكروا.
{الذين} أي: هم الذين {يحشرون على وجوههم} يمشيهم الله عليها، فهم يساقون على وجوههم {إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} من كل أحد.
{ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا} أي: معيناً وملجأ.
{فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا} وهم القبط، فكذبوهما {فدمرناهم تدميرا} أهلكناهم إهلاكاً.
{وقوم نوح لما كذبوا الرسل} من كذب نبياً فقد كذب الرسل كلهم، لأنهم لا يفرقون بينهم في الإيمان بهم. {أغرقناهم وجعلناهم للناس آية} عبرةً {وأعتدنا للظالمين } في الآخرة {عذابا أليما} سوى ما ينزل بهم من عاجل العذاب. وقوله:
{وأصحاب الرس} كانوا أهل بئر قعود عليها، وأصحاب مواش يعبدون الأصنام، فأهلكوا بتكذيب نبيهم {وقرونا} وجماعات {بين ذلك} الذين ذكرناهم {كثيرا}.
{وكلا ضربنا له الأمثال } بينا لهم الأشباه في إقامة الحجة عليهم {وكلا تبرنا تتبيرا} أهلكنا إهلاكاً.
{ولقد أتوا} يعني: مشركي مكة {على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني: الحجارة، وهي قرية قوم لوط {أفلم يكونوا يرونها} إذا مروا بها مسافرين فيعتبروا {بل كانوا لا يرجون نشورا} لا يخافون بعثاً.
{وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا} ما يتخذونك إلا مهزوءاً به، ويقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولا} إلينا؟
{إن كاد} إنه كاد {ليضلنا عن آلهتنا} فيصدنا عن عبادتها {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها.
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه} وهو أنهم كانوا يعبدون شيئاً حجراً، أو ما كان، فإذا رأوا حجراً أحسن طرحوا الأول وعبدوا الأحسن، فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم {أفأنت تكون عليه وكيلا} حفيفاً حتى ترده إلى الإيمان، أي: ليس عليك إلا التبليغ. وقيل: إن هذا مما نسخته آية السيف.
{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون} سماع تفهيم {أو يعقلون} بقلوبهم ما تقول لهم: {إن هم} ما هم {إلا كالأنعام} في جهل الآيات وما جعل لهم من الدليل {بل هم أضل سبيلا} لأن النعم تنقاد لمن يتعهده، وهم لا يطيعون مولاهم الذي أنعم عليهم.
{ألم تر} ألم تعلم {إلى ربك كيف مد الظل} وقت الإسفار إلى وقت طلوع الشمس {ولو شاء لجعله} لجعل الظل {ساكنا} ثابتاً دائماً {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا} لأن بالشمس يعرف الظل.
{ثم قبضناه} قبضنا الظل إلينا بارتفاع الشمس {قبضا يسيرا} قيل: خفياً. وقيل: سهلاً.
{وهو الذي جعل لكم الليل لباسا} يستركم {والنوم سباتا} راحةً لأبدانكم {وجعل النهار نشورا} حياة تنتشرون فيه من النوم. وقوله:
{طهورا} هو الطاهر المطهر.
{لنحيي به} بالماء الذي أنزلناه من السماء {بلدة ميتا} بالجدوية {ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} جمع إنسي، وهم الذين سقيناهم المطر.
{ولقد صرفناه} أي: المطر {بينهم} بأنواعه وإبلاً، وطشاً، ورهاماً، ورذاذاً {ليذكروا} ليتذكروا به نعمة الله تعالى {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} جحوداً حين قالوا: سقينا بنوء كذا.
{ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا} لنخفف عليك أعباء النبوة، ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك.
{فلا تطع الكافرين} في هواهم ولا تداهنهم {وجاهدهم به} وجاهد بالقرآن {جهادا كبيرا} لا يخالطه فتور.
{وهو الذي مرج البحرين} خلطهما {هذا عذب فرات} شديد العذوبة {وهذا ملح أجاج} شديد الملوحة {وجعل بينهما} بين العذب والمالح {برزخا} حاجزاً من قدرته حتى لا يختلط أحدهما بالآخر {وحجرا محجورا} حراماً محرماً أن يغلب أحدهما صاحبه.
{وهو الذي خلق من الماء} النطفة {بشرا} آدمياً {فجعله نسبا} لا يحل تزوجه {وصهرا} يحل تزوجه، كإبنة العم والخال، وابنهما {وكان ربك قديرا} قادراً على ما يشاء. وقوله:
{وكان الكافر على ربه ظهيرا} معيناً للشيطان على معصية الله سبحانه.
{وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}.
{قل ما أسألكم عليه} على تبليغ الرسالة والوحي {من أجر} فيقولون: إنه يطلب أموالنا {إلا من شاء} لكن من شاء {أن يتخذ إلى ربه سبيلا} بإنفاق ماله، وقوله:
{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}.
{فاسأل به خبيرا} فأسأل أيها الإنسان الذي لا تعلم صفته خبيراً يخبرك بصفاته.
{وإذا قيل لهم} لهؤلاء المشركين: {اسجدوا للرحمن} وهو اسم الله سبحانه، كانوا لا يعرفونه لذلك قالوا: {وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا} أنت يا محمد {وزادهم} قول القاتل لهم: اسجدوا للرحمن {نفورا} عن الإيمان.
{تبارك الذي جعل في السماء بروجا} أي: منازل الكواكب السبعة {وجعل فيها سراجا} وهو الشمس.
{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } إذا وهب هذا أتى هذا، فأحدهما يخلف الآخر، فمن فاته عمل بالليل فله مستدرك بالنهار، وهو قوله: {لمن أراد أن يذكر} يذكر الله بصلاة وتسبيح وقراءة {أو أراد شكورا} شكراً لنعمته وطاعته.
{وعباد الرحمن} يعني: خواص عباده {الذين يمشون على الأرض هونا} بالسكينة والوقار {وإذا خاطبهم الجاهلون} بما يكرهونه {قالوا سلاما} سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم، وقوله:
{والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}.
{غراما} أي: شراً لازماً.
{إنها ساءت مستقرا ومقاما}.
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} لم يكن إنفاقهم في معصية الله تعالى {ولم يقتروا} لم يمنعوا حق الله سبحانه {وكان} إنفاقهم بين الإسراف والإقتار {قواما} قائماً، قوله:
{يلق أثاما} أي: عقوبةً. وقيل: جزاء الآثام. وقوله:
{يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}.
{يبدل الله سيئاتهم حسنات} يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبقتل المؤمنين قتل المشركين.
{ومن تاب} أي: عزم على التوبة {فإنه يتوب إلى الله متابا} فينبغي أن يبادر إليها ويتوجه بها إلى الله.
{والذين لا يشهدون الزور} لا يشهدون بالكذب {وإذا مروا باللغو مروا كراما} سمعوا من الكفار الشتم والأذى صفحوا وأعرضوا، وهو منسوخ بالقتال على هذا التفسير.
{والذين إذا ذكروا} وعظوا {بآيات ربهم} بالقرآن {لم يخروا عليها صماً وعميانا} لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يروها.
{والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} بأن نراهم مطيعين لك صالحين {واجعلنا للمتقين إماما} أي: اجعلنا ممن يهتدي به المتقون، ويهتدي بالمتقين.
{أولئك يجزون} يثابون {الغرفة} الدرجة في الجنة {بما صبروا} على طاعة الله سبحانه {ويلقون} ويستقبلون {فيها} في الغرفة بالتحية والسلام.
{خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما}.
{قل ما يعبأ بكم} أي: ما يفعل ويصنع، وأي وزن لكم عنده {لولا دعاؤكم} توحيدكم وعبادتكم إياه { فقد كذبتم} يا أهل مكة، فخرجتم عن أن يكون لكم عنده مقدار {فسوف يكون} العذاب لازماً لكم.