1ـ " الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض " خلقاً ونعمة ، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته . " وله الحمد في الآخرة " لأن ما في الآخرة أيضاً كذلك ، وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها ، وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة . " وهو الحكيم " الذي أحكم أمور الدارين . " الخبير " ببواطن الأشياء .
2ـ " يعلم ما يلج في الأرض " كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات . " وما يخرج منها " كالحيوان والنبات والفلزات وماء العيون . " وما ينزل من السماء " كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصواعق . " وما يعرج فيها " كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة . " وهو الرحيم الغفور " للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها ، أو في الآخرة مع ماله من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر .
3ـ " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة " إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به . " قل بلى " رد لكلامهم وإثبات لما نفوه . " وربي لتأتينكم عالم الغيب " تكرير لإيجابه مؤكداً بالقسم مقرراً لوصف المقسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة ، وقرأ حمزة و الكسائي (( علام الغيب )) للمبالغة ، و نافع و ابن عمر و رويس (( عالم الغيب )) بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره : " لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض " وقرأ الكسائي (( لا يعزب )) بالكسر . " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " جملة مؤكدة لنفي العزوب ، ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس ، ولا يجوز عطف المرفوع على " مثقال " والمفتوح على " ذرة " بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لأن الاستثناء يمنعه ، اللهم إلا إذا جعل الضمير في " عنه " للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجاً عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطوراً في اللوح .
4ـ " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات " علة لقوله " لتأتينكم " وبيان لما يقتضي إتيانهها . " أولئك لهم مغفرة ورزق كريم " لا تعب فيه ولا من عليه .
5ـ " والذين سعوا في آياتنا " بإبطال وتزهيد الناس فيها . " معاجزين " مسابقين كي يفوتونا . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو " معجزين " أي مثبطين عن الإيمان من أراده . " أولئك لهم عذاب من رجز " من سيء العذاب . " أليم " مؤلم ، ورفعه ابن كثير و يعقوب و حفص .
6ـ " ويرى الذين أوتوا العلم " ويعلم أولوا العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة ، أو من مسلمي أهل الكتاب . " الذي أنزل إليك من ربك " القرآن . " هو الحق " ومن رفع " الحق " جعل هو مبتدأ و " الحق " خبره والجملة ثاني مفعولي " يرى " ، وهو مرفوع مستأنف الاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات . وقيل منصوب معطوف على " ليجزي " أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً " ويهدي إلى صراط العزيز الحميد " الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى .
7ـ " وقال الذين كفروا " قال بعضهم لبعض . " هل ندلكم على رجل " يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام . " ينبئكم " يحدثكم بأعجب الأعاجيب . " إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد " إنكم تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير تراباً ، وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه ، وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه ، أو محجوب بينه وبينه بأن و " ممزق " يحتمل أن يكون مكاناً بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح وجديد بمعنى فاعل من جد كحديد من حد ، وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه .
8ـ " أفترى على الله كذباً أم به جنة " جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ، واستدل بجعلهم إياه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين لأن الافتراء أخص من الكذب . " بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد " رد من الله تعالى عليهم ترديدهم وإثبات لهم ما هو أفظع من القسمين ، وهو الضلال البعيد عن الصواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤداه من لعذاب ، وجعله رسيلا له في الوقوع ومقدماً عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له ، والبعد في الأصل صفة الضال ووصف الضلال به على الإسناد المجازي .
9ـ " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء " تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى جعلوه افتراء وهزؤاً ، وتهديداً عليها والمعنى أعموا فيم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقاً ، أم السماء ، وإنا " إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً " ، لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات . وقرأ حمزة و الكسائي (( يشأ )) و (( يخسف )) و (( يسقط )) بالياء لقوله : " افترى على الله " . و الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء و حفص (( كسفاً )) بالتحريك . " إن في ذلك " النظر والتفكر فيهما وما يدلان عليه . " لآيةً " لدلالة . " لكل عبد منيب " راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره .
10ـ " ولقد آتينا داود منا فضلاً " أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد ، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن . " يا جبال أوبي معه " رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب ، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، أو سيري معه حيث سار . وقرئ (( أوبي )) من الأوب أي ارجعى في التسبيح كلما رجع فيه ، وهو بدل من " فضلاً " أو من " آتينا " بإضمار قولنا أو قلنا . " والطير " عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على " فضلاً " ، أو مفعول معه لـ " أوبي " وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال والطير ، فبدل بهذا النظم لما فقيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها . " وألنا له الحديد " جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإلانته أو بقوته .
11ـ " من عمل " أمرناه أن اعمل فـ " أن " مفسرة أو مصدرية . " سابغات " دروعاً واسعات ، وقرئ (( صابغات )) وهو أول من اتخذها . " وقدر في السرد "وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها ، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتنخرق . ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة ويؤيده قوله : " وألنا له الحديد " . " واعملوا صالحاً " الضمير فيه لداود وأهله . " إني بما تعملون بصير " فأجازيكم عليه .
12ـ " ولسليمان الريح " أي وسخرنا له الريح ، وقرئ " الريح " بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ (( الرياح )) . " غدوها شهر ورواحها شهر " جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك ، وقرئ (( غدوتها )) (( وروحتها )) . " وأسلنا له عين القطر " النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ، ولذلك سماه عيناً وكان ذلك باليمن . " ومن الجن من يعمل بين يديه " عطف على " الريح " " ومن الجن " حال مقدمة ، أو جملة " من " مبتدأ وخبر . " بإذن ربه " بأمره . " ومن يزغ منهم " ومن يعدل منهم . " عن أمرنا " عما أمرناه من طاعة سليمان ، وقرئ " يزغ " من أزاغه . " نذقه من عذاب السعير " عذاب الآخرة .
13ـ " يعملون له ما يشاء من محاريب " قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها . " وتماثيل " وصوراً هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد . روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . " وجفان " وصحاف . " كالجواب " كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة . " وقدور راسيات " ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . " اعملوا آل داود شكراً " حكاية عما قيل لهم " واشكروا " نصب على العلة أي : اعملوا له واعبدوه شكراً ، أو المصدر لأن العمل له شكراً أو الوصف له أو الحال أو المفعول به . " وقليل من عبادي الشكور " المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفي حقه ، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهايته ، ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر .
14ـ " فلما قضينا عليه الموت " أي على سليمان . " ما دلهم على موته " ما دل الجن وقيل آله . " إلا دابة الأرض " أي الأرضة أضيفت إلى فعلها ، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضاً فأرضت أرضاً مثل أكلت القوادح الأسنان أكلاً فأكلت أكلاً . " تأكل منسأته " عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين ، و " منسأته " على مفعالة كميضاءة في ميضاة و " منسأته " أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس ، وفيه لغتان كما في قحة وقحة ، وقرأ نافع و أبو عمرو (( منساته )) بألف بدلاً منه الهمزة و ابن ذكوان بهمزة ساكنة و وحمزة إذا وقف جعلها بين بين . " فلما خر تبينت الجن " علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم . " أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولاً في تسخيره إلى أن خر ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب . وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه ، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به ، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتمون فدعاهم فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخر ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوماً وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
15ـ " لقد كان لسبإ " لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومنع الصرف عنه ابن كثير و أبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفاً ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب . " في مساكنهم " في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها مأرب . بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، وقرأ حمزة و حفص بالإفراد والفتح ، و الكسائي بالكسر حملاً على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع . " آيةً " علامة دالة على وجود الصانع المختار ، وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما قي قصتي داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام . " جنتان " بدل من " آية " أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان ، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين . " عن يمين وشمال " جماعة يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة ، أو بستاناً كل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله . " كلوا من رزق ربكم واشكروا له " حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك . " بلدةً طيبة ورب غفور " اسئناف للدلالة على موجب الشكر ، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره . وقرئ الكل بالنصب على المدح . قيل كانتا أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة .
16ـ " فأعرضوا " عن الشكر . " فأرسلنا عليهم سيل العرم " سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم ، وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، أو المطر الشديد أو الجرذ ، أضاف إليه الـ " سيل " لأنه نقي عليهم سكراً ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقباً على مقدار ما يحتاجون إليه ، أو المسناة التي عقدت سكراً على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة . وقيل اسم واد جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة ، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له ، والتقدير كل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامة في كونه بدلاً ، أو عطف بيان . " وأثل وشيء من سدر قليل " معطوفان على " أكل " لا على " خمط " ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له ، وقرئا بالنصب عطفاً على " جنتين " ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين ، وتسمية البدل " جنتين " للمشاكلة والتهكم . وقرأ أبو عمرو (( ذاتي )) أكل بغير تنوين اللام وقرأ الحرماين بتخفيف " أكل " .
17ـ " ذلك جزيناهم بما كفروا " بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل ، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم ، وتقديم المفعول للتعظم لا للتخصيص . " وهل نجازي إلا الكفور " وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر . وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص " نجازي " بالنون و " الكفور " بالنصب .
18ـ " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " بالتوسعة على أهلها هي قرى الشأم . " قرى ظاهرةً " متواصلة يظهر بعضها لبعض ، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل . " وقدرنا فيها السير " بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام . " سيروا فيها " على إرادة القول بلسان الحال أو المقال . " ليالي وأياماً " متى شئتم من ليل أو نهار . " آمنين " لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها ، أن سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن .
19ـ " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزوج الأزواد ، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و هشام (( بعد )) ، و يعقوب " ربنا باعد " بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه ، ومثله قراءة من قرأ (( ربنا بعد )) أو (( بعد )) على النداء وإسناد الفعل إلى " بين " . " وظلموا أنفسهم " حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها . " فجعلناهم أحاديث" يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ . " ومزقناهم كل ممزق " ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان . " إن في ذلك " فيما ذكر . " لآيات لكل صبار " عن المعاصي . " شكور " على النعم .
20ـ " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك ، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في : " صدقنا وعده " . لأنه نوع من القول ، وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقاً . وقرئ بنصب " إبليس " ورفع الظن من التشديد بمعنى وجد ظنه صادقاً ، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب ، أو سمع من الملائكة قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها " فقال : " لأضلنهم " و " لأغوينهم " . " فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين " إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه ، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون .
21ـ " وما كان له عليهم من سلطان " تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء . " إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك " إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقاً يترتب عليه الجزاء أو ليتميز المؤمن من الشاك ، أو ليؤمن من قدر إيمانه وسيشك من قدر ضلاله ، والمراد من حصول العلم حصول متعلقة مبالغة ، في نظم الصلتين نكتة لا تخفى . " وربك على كل شيء حفيظ " محافظ والزنتان متآخيتان .
22ـ " قل " للمشركين . " ادعوا الذين زعمتم " أي زعمتموهم آلهة ، وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه ، ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاماً ولا " لا يملكون " لأنهم لا يزعمونه . " من دون الله " والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : " لا يملكون مثقال ذرة " من خير أو شر . " في السموات ولا في الأرض " في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي ، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام ، أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم . " وما لهم فيهما من شرك " من شركة لا خلقاً ولا ملكاً . " وما له منهم من ظهير " يعينه على تدبير أمرهما .
23ـ " ولا تنفع الشفاعة عنده " فلا ينفعهم شفاعة أيضاً كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله . " إلا من أذن له " أذن له أن يشفع ، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك ، واللام على الأول كاللام في قولك : الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك : جئتك لزيد ، وقرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بضم الهمزة . " حتى إذا فزع عن قلوبهم " غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظاراً للإذن أي : يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإذن ، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمناً وقرأ ابن عامر و يعقوب " فزع " على البناء للفاعل . وقرئ (( فرغ )) أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني . " قالوا " قال بعضهم لبعض . " ماذا قال ربكم " في الشفاعة . " قالوا الحق " قالوا قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون ، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق . " وهو العلي الكبير " ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه .
24ـ " قل من يرزقكم من السماوات والأرض " يريد به تقرير قوله " لا يملكون " . " قل الله " إذ لا جواب سواه ، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم . " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " أي وإن أحد الفريقن من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة ، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين ، وهو بعد ما تقدم من التقرير اليليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب ، ونظيره قوله حسان : أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر ، واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد مناراً ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جواداً يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئاً أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها .
25ـ " قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون " هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخباث حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين .
26ـ " قل يجمع بيننا ربنا " يوم القيامة . " ثم يفتح بيننا بالحق " يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار . " وهو الفتاح " الحاكم الفاصل في القضايا المتعلقة . " العليم " بما ينبغي أن يقضى به .
27ـ " قل أروني الذين ألحقتم به شركاء " لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة ، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم . " كلا " ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة . " بل هو الله العزيز الحكيم " الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة ، وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأساً ، والضمير لله أو للشأن .
28 -" وما أرسلناك إلا كافةً للناس " إلا إرسالة عامة لهم من الكف إنها إذا عمتهم قد كفتهم أن يخرج منها أحد مهم ، أو إلا جامعاً لهم في الإبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة ، ولا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار . " بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فيحملهم جهلهم على مخالفتك .
29ـ " ويقولون " من فرط جهلهم . " متى هذا الوعد " يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى : " يجمع بيننا ربنا " " إن كنتم صادقين " يخاطبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
30ـ " قل لكم ميعاد يوم " وعد يوم أو زمان وعد ، وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرئ " يوم " على البدل ، وقرئ " يوم " بإضمار أعني . " لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون " إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقاً فلما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار .
31ـ " وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه " ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت . قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك ، وقيل الذي بين يديه يوم القيامة . " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم " أي في موضع المحاسبة . " يرجع بعضهم إلى بعض القول " يتحاورون ويتراجعون القول . " يقول الذين استضعفوا " يقول الأتباع . " للذين استكبروا " للرؤساء . " لولا أنتم " لولا إضلالك وصدكم إيانا عن الإيمان . " لكنا مؤمنين " باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
32ـ " قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين " أنكروا أنهم كانوا صادين لهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه ، ولذلك بنوا الإنكار على الاسم .
33ـ " وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار " إضراب عن إضرابهم أي : لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً حتى أعورتم علينا رأينا . " إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً " والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة الـ " مكر" إلى الظرف على الاتساع ، وقرئ " مكر الليل " بالنصب على المصدر و " مكر الليل " بالتنوين ونصب الظرف و " مكر الليل " من الكرور . " وأسروا الندامة لما رأوا العذاب " وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عين صاحبه مخافة التعبير ، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته . " وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا " أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وإشعاراً بموجب أغلالهم " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم ، وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض .
34ـ " وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها " تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه ، وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها ، ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا : " إنا بما أرسلتم به كافرون " على مقابلة الجمع بالجمع .
35ـ " وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً " فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن . " وما نحن بمعذبين " إما لأن العذاب لا يكون ، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب .
36ـ " قل " لحسبانهم . " إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات ، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال :
37ـ " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى " قربة والتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم ، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة . وقرئ (( بالذي )) أي بالشيء الذي يقربكم . " إلا من آمن وعمل صالحاً " استثناء من مفعول " تقربكم " ، أي الأموال والأولاد لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح ، أو من " أموالكم " و " أولادكم " على حذف المضاف . " فأولئك لهم جزاء الضعف " أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه ، والإضافة إضافة المصدر إلى المفعول ، وقرئ بالأعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف ، ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الذي دل عليه لهم . " بما عملوا وهم في الغرفات آمنون " من المكاره ، وقرىء بفتح الراء وسكونه ، وقرأ حمزة (( في الغرفة )) على إرادة الجنس .
38ـ " والذين يسعون في آياتنا " بالرد والطعن فيها . " معاجزين " مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا . " أولئك في العذاب محضرون " .
39ـ " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى ، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير . " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه " عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً " وهو خير الرازقين " فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته .
40ـ " ويوم نحشرهم جميعاً " المستكبرين والمستضعفين . " ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " تقريعاً للمشركين وتبكيتاً لهم وإقناطاً لهم عما يتوقعون من شفاعتهم ، وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم ، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله . وقرأ حفص و يعقوب بالياء فيهما .
41ـ " قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم " أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم ، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم : " بل كانوا يعبدون الجن " أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله . وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدوهم . " أكثرهم بهم مؤمنون " الضمير الأول للإنس أو المشركين ، والأكثر بمعنى الكل والثاني لـ " الجن " .
42ـ " فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً " إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده . " ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون " عطف على " لا يملك " مبين للمقصود من تمهيده .
43ـ " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا " يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام . " إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم " فيستتبعكم بما يستبدعه . " وقالوا ما هذا " يعنون القرآن . " إلا إفك " لعدم مطابقة ما فيه الواقع . " مفترى " بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى . " وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم " لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن ، والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه . " إن هذا إلا سحر مبين " ظاهر سحريته ، وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائين والقول فيه ، وما في " لما " من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه .
44ـ " وما آتيناهم من كتب يدرسونها " فيها دليل على صحة الإشراك . " وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير " يدعوهم إليه وينذرهم على تركه ، وقد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة ، وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال :
45ـ " وكذب الذين من قبلهم " كما كذبوا . " وما بلغوا معشار ما آتيناهم " وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال ، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى . " فكذبوا رسلي فكيف كان نكير " فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله ، ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب ، أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء .
46ـ " قل إنما أعظكم بواحدة " أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : " أن تقوموا لله " وهو القيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الانتصاب في الأمر خالصاً لوجه الله معرضاً عن المراء والتقليد. " مثنى وفرادى " متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً ، ، فإن الازدحام يشوش الخاطر وبخلط القول . " ثم تتفكروا " في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أعني . " ما بصاحبكم من جنة " فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك ، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق ووثوق ببرهان ، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة . وقيل " ما " استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : " إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة .
47ـ " قل ما سألتكم من أجر " أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة . " فهو لكم " والمراد نفي السؤال عنه ، كأن جعل التنبي مستلزماً لأحد الأمرين إما الجنون وإما توقع نفع دنيوي عليه ، لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره وأياً ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلاً منهما . وقبل " ما " موصولة مراد بها ما سألهم بقوله : " ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً " وقوله : " لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " واتخاذ السبيل ينفعهم وقرباه قرباهم . " إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد " مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي ، وقرأ ابن كثير و أبو بكر و وحمزة و الكسائي بإسكان الياء .
48ـ " قل إن ربي يقذف بالحق " يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده ، أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإفشائه . وقرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء . " علام الغيوب " صفة محمولة على محل " إن " واسمها ، أو بدل من المستكن في " يقذف " أو خبر ثان أو خبر محذوف . وقرئ بالنصب صفة لـ " ربي " أو مقدراً بأعني . وقرأ حمزة و أبو بكر (( الغيوب )) بالكسر كالبيوت وبالضم كالعشور ، وقرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب .
49ـ " قل جاء الحق " أي الإسلام . " وما يبدئ الباطل وما يعيد " وزهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي ، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة قال : أقفز من أهله عبيد فاليوم لا يبدي ولا يعيد وقيل الباطل إبليس أو الصنم ، والمعنى لا ينشئ خلقاً و لا يعيده ، أو لا يبدئ خيراً لأهله ولا يعيده . وقيل " ما " استفهامية منتصبة بما بعدها .
50ـ " قل إن ضللت " عن الحق . " فإنما أضل على نفسي " فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء ، وبهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله : " وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي " فإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه . " إنه سميع قريب " يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه .
51ـ " ولو ترى إذ فزعوا " عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، وجواب " لو " محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً . " فلا فوت " فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن . " وأخذوا من مكان قريب " من ظهر الأرض إلى باطنها ، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب ، والعطف على " فزعوا " أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ (( وأخذ )) عطفاً على محله أي : فلا فوت هناك وهناك أخذ .
52ـ " وقالوا آمنا به " بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وقد مر ذكره في قوله : " ما بصاحبكم " . " وأنى لهم التناوش " ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولاً سهلاً . " من مكان بعيد " فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم ، وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعدما فات عنهم أوانه وبعد عنهم ، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها . أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة : أقحمني جار أبي الجاموش إليك نأش القدر التؤوش أم من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله : تمنى نشيشاً أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور فيكون بمعنى التناول من بعد .
53ـ " وقد كفروا به " بمحمد عليه الصلاة والسلام أو بالعذاب . " من قبل " من قبل ذلك أوان التكليف . " ويقذفون بالغيب " ويرجمون بالظن ويتكلون بما لم يظهر لهم الرسول عليه الصلاة والسلام من المطاعن ، أو في العذاب من البث على نفيه . " من مكان بعيد " من جانب بعيد من أمره ، وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو حال الآخرة كما حكاه من قبل . ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، وقرئ (( ويقذفون )) على أن الشيطان يلقي إليهن ويلقنهم ذلك ، والعطف على " وقد كفروا " على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلاً لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا .
54ـ " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " من نفع الإيمان والنجاة به من النار ، وقرأ ابن عمر و الكسائي بإشمام الضم للحاء . " كما فعل بأشياعهم من قبل " بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة ، " إنهم كانوا في شك مريب " موقع في الريبة ، أو ذي ريبة منقول من المشكك ، أو الشك نعت به الشك للمبالغة . عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً " .