1ـ " ألم " سبق القول فيه ، ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه .
2ـ " أحسب الناس " الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله : " أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم " آمنا " ، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم " آمنا " هو الثاني كقولك : حسبت ضربه للتأديب ، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم " آمنا " بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف ، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب . روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين ، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى ، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته .
3ـ " ولقد فتنا الذين من قبلهم " متصل بـ " أحسب " أو بـ " لا يفتنون " ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه . " فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقاً حالياً يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كذبوا فيه ، وينوط به ثوابهم وعقابهم ولذلك قيل المعنى وليميزن أو ليجازين ، وقرئ (( وليعلمن )) من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها .
4ـ " أم حسب الذين يعملون السيئات " الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح . " أن يسبقونا " أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي " حسب " لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن " حسب " معنى قدر أو أم منقطعة والإضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه به : " ساء ما يحكمون " أي بئس الذي يحكمونه ، أو حكماً يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم .
5ـ " من كان يرجو لقاء الله " في الجنة ، وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه ، أو إلى العاقبة من الموت والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله ، فأما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها . " فإن أجل الله " فإن الوقت المضروب للقائه . " لآت " لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء كائناً لا محالة ، فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا . " وهو السميع " لأقول العباد . " العليم " بعقائدهم وأفعالهم .
6ـ " ومن جاهد " نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات . " فإنما يجاهد لنفسه " لأن منفعته لها . " إن الله لغني عن العالمين " فلا حاجة به إلى طاعتهم ، وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم .
7ـ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم " الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات . " ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون " أي أحسن جزاء أعمالهم .
8ـ " ووصينا الإنسان بوالديه حسناً " بإيتائهما فعلاً ذا حسن ، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفاً . وقيل هو بمعنى قال أي وقلنا له أحسن بوالديك " حسناً " ، وقيل " حسناً " منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما " حسناً " وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على " بوالديه " ، وقرئ " حسناً " و (( إحساناً )) . " وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم " بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعاراً بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلاً عما علم بطلانه . " فلا تطعهما " في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل . " إلي مرجعكم " مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق . " فأنبئكم بما كنتم تعملون " بالجزاء عليه ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة ، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في (( لقمان )) و (( الأحقاف )) .
9ـ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين " في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين ، أو في مدخلهم وهو الجنة .
10ـ " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله " بأن عذبهم الكفرة على الإيمان . " جعل فتنة الناس " ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإيمان . " كعذاب الله " في الصرف عن الكفر . " ولئن جاء نصر من ربك " فتح وغنيمة . " ليقولن إنا كنا معكم " في الدين فأشركونا فيه ، والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول . " أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين " من الإخلاص والنفاق .
11ـ " وليعلمن الله الذين آمنوا " بقلوبهم . " وليعلمن المنافقين " فيجازي الفريقين .
12ـ " وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا " الذي نسلكه في ديننا . " ولنحمل خطاياكم " إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة ، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنه إن كانت تشجيعاً لهم عليه ، وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله : " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون " من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير : وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم .
13ـ " وليحملن أثقالهم " أثقال ما اقترفته أنفسهم . " وأثقالاً مع أثقالهم " وأثقالاً أخر معها لما تسببوا له بالإضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء . " وليسألن يوم القيامة " سؤال تقريع وتبكيت . " عما كانوا يفترون " من الأباطيل التي أضلوا بها .
14ـ " ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " بعد المبعث ، إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوماً تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين ، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع ، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة . " فأخذهم الطوفان " طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما . " وهم ظالمون " بالكفر .
15ـ " فأنجيناه " أي نوحاً عليه الصلاة والسلام . " وأصحاب السفينة " ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين . وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث . " وجعلناها " أي السفينة أو الحادثة . " آيةً للعالمين " يتعظون ويستدلون بها .
16ـ " وإبراهيم " عطف على " نوحاً " أو نصب بإضمار اذكر ، وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم . " إذ قال لقومه اعبدوا الله " ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف بالحق وأمر الناس به ، أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر . " واتقوه ذلكم خير لكم " مما أنتم عليه . " إن كنتم تعلمون " الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر ، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل .
17ـ " إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً " وتكذبون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى ، أو تعملونها وتنحتونها للإفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل ، وقرئ (( تخلقون )) من خلق للتكثير (( وتخلقون )) من تخلق للتكلف ، و " إفكاً " على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقاً ذا إفك . " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً " دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدر بطائل ، و " رزقاً " يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم . " فابتغوا عند الله الرزق " كله فإنه المالك له . " واعبدوه واشكروا له " متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره ، أو مستعدين للقائه بهما ، فإنه : " إليه ترجعون " وقرئ بفتح التاء .
18ـ " وإن تكذبوا " وإن تكذبوني . " فقد كذب أمم من قبلكم " من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم . " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " الذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، فلآية وما بعدها من جملة قصة " إبراهيم " إلى قوله " فما كان جواب قومه " ويحتمل أن تكون اعتراضاً بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم ، توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنفيس عنه ، بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنواً بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه .
19ـ " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق " من مادة ومن غيرها ، وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ (( يبدأ )) . " ثم يعيده" إخبار بالإعادة بعد الموت معطوف على " أولم يروا " لا على " يبدئ " ، فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على " يبدئ " . " إن ذلك " الإشارة إلى الإعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين . " على الله يسير " إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء .
20ـ " قل سيروا في الأرض " حكاية كلام الله لإبراهيم أو محمد عليها الصلاة والسلام . " فانظروا كيف بدأ الخلق " على اختلاف الأجناس والأحوال . " ثم الله ينشئ النشأة الآخرة " بعد النشأة الأولى التي هي الإداء ، فإنه والإعادة نشأتان من حيث أن كلاً اختراع وإخراج من العدم ، والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة ، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر ، وقرئ (( النشاءة )) كالرآفة . " إن الله على كل شيء قدير " لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى .
21ـ " يعذب من يشاء " تعذيبه . " ويرحم من يشاء " رحمته . " وإليه تقلبون " تردون .
22ـ" وما أنتم بمعجزين " ربكم عن إدراككم . " في الأرض ولا في السماء " إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها ، و التحصن " في السماء " أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان : أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم .
23ـ " والذين كفروا بآيات الله " بدلائل وحدانيته أو بكتبه . " ولقائه " بالبعث . " أولئك يئسوا من رحمتي " أي ييأسون منها يوم القيام ، فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة ، أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء . " وأولئك لهم عذاب أليم " بكفرهم .
24ـ " فما كان جواب قومه " قوم إبراهيم له . وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر . " إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه " وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم . " فأنجاه الله من النار " أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً . " إن في ذلك " في إنجائه منها . " لآيات " هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها . " لقوم يؤمنون " لأنههم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها .
25ـ " وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا " أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، وثاني مفعولي " اتخذتم " محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثان سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة ، وقرأها نافع و أبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق ، و ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و رويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم ، والجملة صفة " أوثاناً " أو خبر إن على " إنما " مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول , وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح " بينكم " كما قرئ " لقد تقطع بينكم " وقرئ (( إنما مودة بينكم . " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً " أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم ، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : " ويكونون عليهم ضداً " . " ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " يخلصونكم منها .
26ـ " فآمن له لوط " هو ابن أخيه وأول من آمن به ، وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه . " وقال إني مهاجر " من قومي . " إلى ربي " إلى حيث أمرني . " إنه هو العزيز " الذي يمنعني من أعدائي . " الحكيم " الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي . روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم .
27ـ " ووهبنا له إسحاق ويعقوب " ولداً ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل . " وجعلنا في ذريته النبوة " فكثر منهم الأنبياء . " والكتاب " يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة . " وآتيناه أجره " على هجرته إلينا . " في الدنيا " بإعطاء الولد في غير أوانه ، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وإنماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر . " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " لفي عداد الكاملين في الصلاح .
28ـ " ولوطاً " عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه . " إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة " الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الحرميان و ابن عامر و حفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني . " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليها لخبث طينتهم.
29ـ " أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل " وتتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة حتى انقطعت الطرق ، أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث . " وتأتون في ناديكم " في مجالسكم الغاصة بأهلها ولا يقال النادي إلا لما فيه أهله . " المنكر " كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها . وقيل الخذف ورمي البنادق . " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " في استقباح ذلك أو في دعوى النبوة المفهومة من التوبيخ .
30ـ " قال رب انصرني " بإنزال العذاب . " على القوم المفسدين " باتباع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم ، وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعار بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب .
31ـ " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى " بالبشارة بالولد والنافلة . " قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال . " إن أهلها كانوا ظالمين " تعليل لإهلاكهم لهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الذي هو الكفر وأنواع المعاصي .
32ـ " قال إن فيها لوطاً " اعتراض عليهم بأنه فيها من لم يظلم ، أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم . " قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم به وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم منها ، وفيه تأخير للبيان عن الخطاب . " إلا امرأته كانت من الغابرين " الباقين في العذاب أو القرية.
33ـ " ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم " جاءته المساءة والغم بسببه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، و " أن " صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما . " وضاق بهم ذرعاً " وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً له ، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع . " وقالوا " لما رأوا فيه أثر الضجرة . " لا تخف ولا تحزن " على تمكنهم منا . " إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين " وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب (( لننجينه )) (( ومنجوك )) بالتخفيف ووافهم أبو بكر و ابن كثير في الثاني ، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب " أهلك " بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل .
34ـ " إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء " عذاباً منها سمي بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أي اضطرب ، وقرا ابن عامر (( منزلون )) بالتشديد . " بما كانوا يفسقون " بسبب فسقهم .
35ـ " ولقد تركنا منها آيةً بينة " هي حكايتها الشائعة أو آثار الديار الخربة ، وقيل الحجارة الممطرة فإنها كانت باقية بعد وقيل بقية أنهارها المسودة . " لقوم يعقلون " يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، وهو متعلق بـ " تركنا " أو " آية " .
36ـ " وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر " وافعلوا ما ترجون به ثوابه فأقيم المسبب مقام السبب ، وقيل إنه من الرجاء بمعنى الخوف . " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " .
37ـ " فكذبوه فأخذتهم الرجفة " الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب ترجف لها . " فأصبحوا في دارهم " في بلدهم أو دورهم ولم يجمع لأمن اللبس . " جاثمين " باركين على الركب ميتين .
38ـ " وعادا وثمود " منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا ، وقرأ حمزة و حفص و يعقوب " وثمود " غير منصوب على تأويل القبيلة . " وقد تبين لكم من مساكنهم " أي تبين لهم بعض مساكنهم ، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها . " وزين لهم الشيطان أعمالهم " من الكفر والمعاصي . " فصدهم عن السبيل " السوي الذي بينه الرسل لهم . " وكانوا مستبصرين " متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا ، أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ولكنهم لجوا حتى هلكوا .
39ـ " وقارون وفرعون وهامان " معطوف على عاداً وتقديم " قارون " لشرف نسبه . " ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين " فائتين بل أدركم أمر الله من سبق طالبه إذا فاته .
40ـ " فكلاً " من المذكرين . " أخذنا بذنبه " عاقبناه بذنبه . " فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً " ريحاً عاصفاً فيها حصباء ، أو ملكاً رماهم بها كقوم لوط . " ومنهم من أخذته الصيحة " كمدين وثمود . " ومنهم من خسفنا به الأرض " كقارون . " ومنهم من أغرقنا " كقوم نوح وفرعون وقومه . " وما كان الله ليظلمهم " ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عز وجل " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بالتعرض للعذاب .
41ـ " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء " فما اتخذوه معتمداً ومتكلاً . " كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً " فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعاً ما ، أو مثلهم بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً من حجر وجص ، والعنكبوت يقع عل الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، والتاء فه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب . " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه . " لو كانوا يعلمون " يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهمن من ذلك ، ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقاً للتمثيل فيكون المعنى : وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم .
42ـ " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم ، وقرأ البصريان بالياء حملاً على ما قبله و " ما " استفهامية منصوبة بـ " تدعون " و " يعلم " معلقة عنها و " من " للتبيين أو نافية و " من " مزيدة و " شيء " مفعول" تدعون " أو مصدرية و " شيء " مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول " تدعون " عائدها المحذوف ، والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم . " وهو العزيز الحكيم " تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئاً بمن هذا شأنه ، وأن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم ، وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم .
43ـ " وتلك الأمثال " يعني هذا المثل ونظائره . " نضربها للناس " تقريباً لما بعد من أفهامهم . " وما يعقلها " ولا يعقل حسنها وفائدتها . " إلا العالمون " الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي . " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال : العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .
44ـ " خلق الله السماوات والأرض بالحق " محقاً غير قاصد به باطلاً ، فإن المقصود بالذات من خلقها إفادة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله : " إن في ذلك لآيةً للمؤمنين " لأنهم المنتفعون به .
45ـ " اتل ما أوحي إليك من الكتاب " تقرباً إلى الله تعالى بقراءته وتحفظاً لألفاظه واستكشافاً لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف به بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " بأن تكون سبباً للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه . روي " أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه السلام فقال : إن صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب " . " ولذكر الله أكبر " وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو لذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته . " والله يعلم ما تصنعون " منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة .
46ـ " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح ، وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء ، وقيل المراد به ذو العهد منهم . " إلا الذين ظلموا منهم " بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم " يد الله مغلولة " أو بنبذ العهد ومنع الجزية . " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " هو من المجادلة بالتي هي أحسن . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم " . " وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
47ـ " وكذلك " ومثل ذلك الإنزال . " أنزلنا إليك الكتاب " وحياً مصدقاً لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله : " فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به " هم عبد الله بن سلام وأضرابه ، أو من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب . " ومن هؤلاء " ومن العرب أو أهل مكة أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتابين . " من يؤمن به " بالقرآن . " وما يجحد بآياتنا " مع ظهورها وقيام الحجة عليها . " إلا الكافرون " إلا المتوغلون في الكفر فإن جزمهم به يمنعهم عن التأمل فيما يقيد لهم صدقها لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشار إليه بقوله :
48ـ " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة ، وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد . " إذاً لارتاب المبطلون " أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين ، وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المكاثرة ، وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر . " بل هو" بل القرآن .
49ـ " آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه . " وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " المتوغلون في الظلم بالمكابرة بعد وضوح دلائل إعجازها حتى لم يعتدوا بها .
50ـ " وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه " مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ، وقرأ نافع و ابن عامر و و البصريان و حفص (( آيات )) . " قل إنما الآيات عند الله " ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه . " إنما أنا نذير مبين " ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات .
51ـ " أولم يكفهم " آية مغنية عما اقترحوه . " أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات ، أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك . " إن في ذلك " الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة . " لرحمةً " لنعمة عظيمة . " وذكرى لقوم يؤمنون " وتذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت . " وقيل إن أناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب كتب فيها بعض ما يقول اليهود فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم " فنزلت .
52ـ " قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً " بصدقي وقد صدقني بالمعجزات ، أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم ونصحي ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت . " يعلم ما في السموات والأرض " فلا يخفى عليه حالي وحالكم . " والذين آمنوا بالباطل " وهو ما يعبد من دون الله . " وكفروا بالله " منكم . " أولئك هم الخاسرون " في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان .
53ـ " ويستعجلونك بالعذاب " بقولهم " فأمطر علينا حجارة من السماء " . " ولولا أجل مسمى " لكل عذاب أو قوم . " لجاءهم العذاب " عاجلاً . " وليأتينهم بغتةً " فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم . " وهم لا يشعرون " بإتيانه .
54ـ " يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب ، أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة و الكفر والمعاصي التي توجيها بهم ، واللام للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة ، أو للجنس فيكون استدلالاً بحكم الجنس على حكمهم .
55ـ " يوم يغشاهم العذاب " ظرف " لمحيطة " أو مقدرة مثل كان كيت وكيت . " من فوقهم ومن تحت أرجلهم " من جميع جوانبهم . " ويقول " الله أو بعض ملائكته بأمره لقراءة ابن كثير و ابن عامر و البصريان بالنون . " ذوقوا ما كنتم تعملون " أي جزاءه .
56ـ " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك ، " وعنه عليه الصلاة والسلام من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام " . والفاء دواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها .
57ـ " كل نفس ذائقة الموت " تناله لا محالة . " ثم إلينا ترجعون " للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء .
58ـ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم " لننزلنهم . " من الجنة غرفاً " علالي ، وقرأ حمزة و الكسائي (( لنثوينهم )) أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم ، أو بنزع الخافض أو بتشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين " وقرئ (( فنعم )) والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله .
59ـ " الذين صبروا " على أذية المشركين والهجرة للدين إلى غير ذلك من المحن والمشاق . " وعلى ربهم يتوكلون " ولا يتوكلون إلا على الله .
60ـ " وكأين من دابة لا تحمل رزقها " لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره ، وإنما تصبح ولا معيشة عندها . " الله يرزقها وإياكم " ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله ، لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة ، فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت . " وهو السميع " لقولكم هذا . " العليم " بضميركم .
61ـ " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر " المسؤول عنهم أهل مكة . " ليقولن الله " لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود . " فأنى يؤفكون " يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك .
62ـ " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحداً على أن البسط والقبض على التعاقب وألا يكون على وضع الضمير موضع من يشاء وإبهامه لأن من يشاء مبهم . " إن الله بكل شيء عليم " يعلم مصالحهم ومفاسدهم .
63ـ " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله " معترفين بأنه الموجد للمكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك . " قل الحمد لله " على ما عصمك من مثل هذه الضلالة ، أو على تصديقك وإظهار حجتك . " بل أكثرهم لا يعقلون " فيتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به الصنم ، وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم .
64ـ " وما هذه الحياة الدنيا " إشارة تحقير وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة . " إلا لهو ولعب " إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين . " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " لهي دار الحياة الحقيقة لامتناع طريان الموت عليها ، أو هي في ذاتها حياة للمبالغة ، و " الحيوان " مصدر حي سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واواً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ها هنا . " لو كانوا يعلمون " لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال .
65ـ " فإذا ركبوا في الفلك " متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر . " دعوا الله مخلصين له الدين " كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو . " فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " فاجؤوا المعاودة إلى الشرك .
66ـ " ليكفروا بما آتيناهم " اللام فيه لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة . " وليتمتعوا " باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها ، أو لام الأمر على التهديد ويؤيده قراءة ابن كثير و حمزة و الكسائي و قالون عن نافع (( وليتمتعوا )) بالسكون . " فسوف يعلمون " عاقبة ذلك حين يعاقبون .
67ـ " أو لم يروا " يعني أهل مكة . " أنا جعلنا حرماً آمناً " أي جعلنا بلدهم مصوناً عن النهب والتعدي آمناً أهله عن القتل والسبي . " ويتخطف الناس من حولهم " يختلسون قتلاً وسبياً إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب . " أفبالباطل يؤمنون " أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان . " وبنعمة الله يكفرون " حيث أشركوا به غيره وتقديم الصلتين للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة .
68ـ " ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً " بأن زعم أن له شريكاً . " أو كذب بالحق لما جاءه " يعني الرسول أو الكتاب ، وفي " لما " تسفيه لهم بأن لم يتوافقوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه . " أليس في جهنم مثوى للكافرين " تقرير لثوائهم كقوله : ألستم خير من ركب المطايا أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب ، أو لاجترائهم أي ألم يعلموا أن " في جهنم مثوى للكافرين " حتى اجترؤوا مثل هذه الجراءة .
69ـ " والذين جاهدوا فينا " في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه . " لنهدينهم سبلنا " سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقاً لسلوكها كقوله تعالى : " والذين اهتدوا زادهم هدى " وفي الحديث " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " . " وإن الله لمع المحسنين " بالنصر والإعانة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين " .