غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية. بسم الله الرحمن الرحيم . 1."أتى أمر الله فلا تستعجلوه "كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاءً وتكذيباً ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه."سبحانه وتعالى عما يشركون"تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على وفق قوله: " فلا تستعجلوه"والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي " أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت "فلا تستعجلوه"".
2."ينزل الملائكة بالروح" بالوحي أو القرآن ، فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل ، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، وذكره عقيب ذلك إشارة إلى الطريق الذي به علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما تحقق موعدهم به ودنوه وإزاحة لاستبعادهم اختصاصه بالعلم به . وقرأ ابن كثر وأبو عمرو "ينزل" من أنزل ، وعن يعقوبمثله وعنه تنزل بمعنى تتنزل . وقرأ أبو بكرتنزل على المضارع المبين للمفعول من التنزيل ."من أمره"بأمره أو من أجله . "على من يشاء من عباده"أن يتخذه رسولاً ."أن أنذروا"بأن أنذروا أي اعلموا من نذرت بكذا إذا علمته."أنه لا إله إلا أنا فاتقون"أن الشأن"لا إله إلا أنا فاتقون"، أو خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأنه "لا إله إلا أنا"وقوله "فاتقون"رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود و"أن"مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول ، أو مصدرية في موضع الجر بدلاً من الروح أو النصب ينزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة . والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كما القوة العملية . وأن النبوة عطائية والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان اله شريكك لقدر على ذلك فيلزم التمانع.
3."خلق السموات والأرض بالحق"أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته . "تعالى عما يشركون"منهما أو مما يفتقر في وجوده أو بقائه إليهم ومما لا يقدر على خلقهما . وفيه دليل على أنه تعالى ليس قبيل الأجرام .
4."خلق الإنسان من نطفة"جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل ."فإذا هو خصيم" منطيق مجادل ."مبين"للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل : "من يحيي العظام وهي رميم "."روي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم."فنزلت.
5."والأنعام"الإبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره . "خلقها لكم"أو بالعطف على الإنسان ن وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له."فيها دفء"ما يدفأ به فيقي البرد. "ومنافع"نسلها وجرها وظهورها ، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها . "ومنها تأكلون"أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان ، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي ، أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش ، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه.
6."ولكم فيها جمال" زينة"حين تريحون"تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي . "وحين تسرحون" تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها ، وتقديم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرئ حيناً على أن"تريحون"" تسرحون "وصفان له بمعنى"تريحون" فيه " تسرحون "فيه.
7."وتحمل أثقالكم"أحمالكم ."إلى بلد لم تكونوا بالغيه"أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلاً أن تحملوها على ظهوركم إليه . "إلا بشق الأنفس" إلا بكلفة ومشقة.وقرئ بالفتح وهو لغة فيه ،وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمنى النصف ، كأنه ذهب نصف قوته بالتعب . "إن ربكم لرؤوف رحيم" حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم.
8."والخيل والبغال والحمير"عطف على"الأنعام"."لتركبوها وزينةً" أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة . وقيل هي معطوفة على محل "لتركبوها "وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ، ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض . وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة"لتركبوها" أو مصدراً في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو متزيناً بها ، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالباً أن لا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر"ويخلق ما لا تعلمون"لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالباً احتياجاً ضرورياً أو غير ضروري أجمل غيرها ، ويجوز أن يكون إخباراً بأن له من الخلائق ما لا علم لنابه ، وأن يراد به ما خلق في الحنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر.
9."وعلى الله قصد السبيل"بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق ن أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلاً، أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه، والمراد من "السبيل"الجنس ولذلك أضاف إليه الـ"قصد"وقال: "ومنها جائر"حائد عن القصد أو عن الله ، وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة ، او لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وقرئ ومنكم جائر أي عن القصد ."ولو شاء"الله ."لهداكم أجمعين"أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء.
10."هو الذي أنزل من السماء "من السحاب أو من جانب السماء " ماء لكم منه شراب "ما تشربونه،"ولكم"صلة"أنزل"أو خبر"شراب"و"من" تبعيضية متعلقة به ، وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه ولا بأس به لأن مياه العيون والآبار منه لقوله: "فسلكه ينابيع "وقوله "فأسكناه في الأرض". "ومنه شجر"ومنه يكون شجر يعني الشجر الذي ترعاه المواشي . وقيل كل ما نبت على الأرض شجر قال: يعلفها اللحم إذا عز الشجر والخيل في إطعامها اللحم ضرر "فيه تسيمون"ترعون ، من سامت الماشية وأسامها صاحبها ن وأصله السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات.
11."ينبت لكم به الزرع"وقرأأبو بكر بالنون على التفخيم ."والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات"وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار، ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانياً هو أشرف الأغذية ، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها."إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون"على وجود الصانع وحكمته ، فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به لذلك .
12."وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم"بأن هيأها لمنافعكم ."مسخرات بأمره"حال من الجميع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء ، أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه ، وفيه إيذان بالجواب عما عسى أن يقال إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها، فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضاً ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة ، فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعاً للدور والتسلسل ، أو مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع. وقرأحفص " والنجوم مسخرات" على الابتداء والخبر فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامرالشمس والقمر أيضاً ."إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون"جمع الآية ، وذكر العقل لأنها تدل أنواعاً من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات.
13."وما ذرأ لكم في الأرض"عطف على"الليل"، أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان وبنات."مختلفاً ألوانه"أصنافه فإنها تتخالف باللون غالباً ."إن في ذلك لآيةً لقوم يذكرون"إن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم.
14."وهو الذي سخر البحر"جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص."لتأكلوا منه لحماً طرياً"هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ، ولإظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق ، وتمسك به مالك والثوريعلى أن من حلف أن لا يأكل لحماً حنث بأكل السمك . وأجيب عنه بأن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه ."وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها" كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم ."وترى الفلك"السفن ."مواخر فيه "حواري فيه تشقه بحيزومها. من المخر وهو شق الماء .وقيل صوت حري الفلك."ولتبتغوا من فضله"من سعة رزقه بركوبها للتجارة."ولعلكم تشكرون"أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها،ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سبباً للانتفاع تحصيل المعاش.
15."وألقى في الأرض رواسي"جبالاً رواسي."أن تميد بكم "كراهة أن تميل بكم وتضطرب ، وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع ، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك ، أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة .وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال . "وأنهاراً"وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معناه"وسبلاً لعلكم تهتدون"لمقاصدكم ، أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.
16."وعلامات"معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك ."وبالنجم هم يهتدون"بالليل في البراري والبحار ، والمراد بالنجم الجنس ويدل عليه قراءة وبالنجم بضمتين وضمة وسكون على الجمع .وقيل الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي ، ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فالاعتبار بذلك ولشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.
17."أفمن يخلق كمن لا يخلق"إنكار بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كما لقدرته وتناهي حكمته ، والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته لأن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك بل على إيجاد شيء ما، وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكنه عكس تنبيهاً على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة شبيهاً بها، والمراد بمن لا يخلق كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى مغلباً فيه أولو العلم منهم أو الأصنام وأجروها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق الإله أن يعلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من مخلق أو للمبالغة وكأنه قيل : إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده، "أفلا تذكرون"فتعرفوا فساد ذلك فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات .
18."وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" لا تضبطوا عددها فضلاً أن يطيقوا القيام بشكرها، أتبع ذلك تعداد النعم وإلزام الحجة على تفرده باستحقاق العبادة تنبيهاً على أن وراء ما عدد نعماً لا تنحصر ، وأن حق عبادته على غير مقدور . "إن الله لغفور" حيث يتجاوز عن تقصير في أداء شكرها ز"رحيم"لا يقطعها لتفريطكم فيه ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
19."والله يعلم ما تسرون وما تعلنون"من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم بعد تزييفه باعتبار القدرة.
20." والذين يدعون من دون الله "أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه. وقرأ أبو بكر يدعون بالياء .وقرأ حفص ثلاثتها بالياء."لا يخلقون شيئاً" لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا يخلقون شيئاً لينتج أنهم لا يشاركونه، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهية فقال: "وهم يخلقون"لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق ، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.
21."أموات" هم أموات لا تعتريهم الحياة ، أو أموات حالاً أو مآلاً."غير أحياء"بالذات ليتناول كل معبود ، والإله ينبغي أن يكون حياً بالذات لا يعتريه الممات . "وما يشعرون أيان يبعثون"ولا يعلمون وقت بعثهم ، أو بعث عبدتهم فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم . والإله ينبغي أن يكون عالماً بالغيوب مقدراً للثواب والعقاب ، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
22."إلهكم إله واحد"تكرير للمدعى بعد إقامة الحجج ."فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون"بيان لما اقتضى إصرارهم بعد وضوح الحق وذلك عدم إيمانهم بالآخرة ، فإن المؤمن بها يكون طالباً للدلائل متأملاً فيما يسمع فينتفع به ، والكافر بها يكون حاله بالعكس وإنكار قلوبهم ما لا يعرف إلا بالبرهان إتباعاً للأسلاف وركوناً إلى المألوف ، فإنه ينافي النظر والاستكبار عن اتباع الرسول و تصديقه والالتفات إلى قوله ، والأول هو العمدة في الباب ولذلك رتب عليه ثبوت الآخرين .
23."لا جرم"حقاً . "أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون"فيجازيهم ، وهو في موضع الرفع بـ"جرم"لأنه مصدر أو فعل . "إنه لا يحب المستكبرين"فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده أو اتباع الرسول.
24."وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم"القائل بعضهم على التهكم أو الوافدون عليهم أو المسلمون ."قالوا أساطير الأولين"أي ما تدعون نزوله ،أو المنزل أساطير الأولين وإنما سموه منزلاً على التهكم أو على الفرض أي على تقدير أنه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه ، والقائلون قيل هم المقتسمون.
25."ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة"أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال ."ومن أوزار الذين يضلونهم"وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب."بغير علم"حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال، وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ن إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق والمبطل ."ألا ساء ما يزرون"بئس شيئاً يزرونه فعلهم.
26."قد مكر الذين من قبلهم"أي سووا مصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام ."فأتى الله بنيانهم من القواعد"فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت ."فخر عليهم السقف من فوقهم"وصار سبب هلاكهم ."وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون" لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل .وقيل المراد به نمروذ بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا.
27."ثم يوم القيامة يخزيهم"يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى : "ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"."ويقول أين شركائي"أضاف إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم ."الذين كنتم تشاقون فيهم"تعادون المؤمنين في شأنهم . وقرأنافعبكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز وجل ."وقال الذين أوتوا العلم "أي الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة ."إن الخزي اليوم والسوء "الذلة والعذاب ."على الكافرين "وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة ، وحكايته لأن يكون لطفاً ووعظاً لمن سمعه.
28."الذين تتوفاهم الملائكة "وقرأحمزة بالياء .وقرئ بإدغام في التاء وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة "ظالمي أنفسهم"بأن عرضوها للعذاب المخلد. "فألقوا السلم"فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت ."ما كنا"قائلين ما كنا. "نعمل من سوء"كفر وعدوان ، ويجوز أن يكون تفسيراً لـ"السلم"على أن المراد به القول الدال على الاستسلام ."بلى"أي فتجيبهم الملائكة بلى."إن الله عليم بما كنتم تعملون"فهو يجازيكم عليه، وقيل قوله: "فألقوا السلم "إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة ، وعلى هذا أول من لم يجوز الكذب يومئذ"ما كنا نعمل من سوء "بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءاً ، ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله تعالى، أو أولو العلم .
29."فادخلوا أبواب جهنم "كل صنف بابها المعد له . وقيل أبواب جهنم أصناف عذابها ."خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين"جهنم.
30."وقيل للذين اتقوا"يعني المؤمنين."ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً"أي أنزل خيراً ، وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب ، وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة . روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك ."للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة"مكافأة في الدنيا . "ولدار الآخرة خير" أي ولثوابهم في الآخرة خير منها، وهو عدة للذين اتقوا على قولهم ، ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلاً وتفسيراً لـ"خيراً"على أنه منتصب بـ"قالوا"."ولنعم دار المتقين" دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها وقوله:
31."جنات عدن"خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح. " يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون "من أنواع المشتهيات ، وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة ."كذلك يجزي الله المتقين "مثل هذا الجزاء يجزيهم وهو يؤيد الوجه الأول .
32."الذين تتوفاهم الملائكة طيبين"طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة "ظالمي أنفسهم".وقيل فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة ، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس ."يقولون سلام عليكم"لا يحيقكم بعد مكروه." ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون "حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم . وقيل هذا التوفي وفاة الحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ.
33."هل ينظرون"ما ينتظر الكفار المار ذكرهم ."إلا أن تأتيهم الملائكة" لقبض أرواحهم .وقرأحمزةو الكسائيبالياء ."أو يأتي أمر ربك"القيامة او العذاب المستأصل . "كذلك"مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب ."فعل الذين من قبلهم "فأصابهم ما أصابوا ."وما ظلمهم الله "بتدميرهم."ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"بكفرهم معاصيهم والمؤدية إليه .
34."فأصابهم سيئات ما عملوا "أي جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف ، أو تسمية الجزاء باسمها."وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"وأحاط بهم جزاؤه والحيق لا يستعمل إلا في الشر.
35."وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء"إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعاً للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها، أو إنكار لقبح ما أنكر عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله صدورها عنهم ولشاء خلافه ، ملجئاً إليه لا اعتذاراً إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم، وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين."كذلك فعل الذين من قبلهم"فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله."فهل على الرسل إلا البلاغ المبين "إلا الإبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط ، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقاً بل بأسباب قدرها له ، ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى:
36."ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت."فمنهم من هدى الله "وفقهم للإيمان بإرشادهم ."ومنهم من حقت عليه الضلالة"إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم ، وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل الله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله ، وقد صرح به في الآية الأخرى ."فسيروا في الأرض"يا معشر قريش."فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون.
37."إن تحرص"يا محمد."على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل"من يريد ضلاله وهو المعني بمن حقت عليه الضلالة . وقرأ غير الكوفيين "لا يهدي"على البناء للمفعول وهو أبلغ." وما لهم من ناصرين "من ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
38."وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت"عطف على"وقال الذين أشركوا"إيذاناً بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة في البت على فساده،ولقد رد الله عليهم أبلغ رد فقال: "بلى"يبعثهم."وعداً" مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه "بلى"فإن يبعث موعد الله ."عليه "إنجازه لامتناع الخلف في وعده ، أو لأن البعث مقتضى حكمته. "حقاً"صفة أخرى للوعد ."ولكن أكثر الناس لا يعلمون"أنهم يبعثون وإما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي حرت عادته بمراعاتها ، وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه، ثم إنه تعالى بين الأمرين فقال :
39."ليبين لهم"أي يبعثهم"ليبين لهم"."الذي يختلفون فيه"وهو الحق ."وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين"فيما يزعمون، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضي له من حيث الحكمة ، وهو المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب ثم قال:
40."إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون"وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد ، وإلا لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده ، ونصبابن عامر والكسائيها هنا وفي يس فيكون عطفاً على نقول أو جواباً للأمر .
41."والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا"هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة، أن المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم ، وقوله: "في الله"أي في حقه ولوجهه."لنبوئنهم في الدنيا حسنةً"مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة. "ولأجر الآخرة أكبر"مما يعجل لهم في الدنيا . وعن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما أدخر لك في الآخرة أفضل."لو كانوا يعلمون"الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم ، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
42."الذين صبروا"على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن ، ومحله النصب أو الرفع على المدح ."وعلى ربهم يتوكلون"منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله.
43."وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم "رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ، أي جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليه على ألسنة الملائكة ، والحكمة في ذلك قد ذكرت في سورة الأنعام فإن شككتم فيه. "فاسألوا أهل الذكر"أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم."إن كنتم لا تعلمون"وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكاً للدعوة العامة وقوله: "جاعل الملائكة رسلاً "معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال . ورد بما "روي : أنه عليه الصلاة والسلام ،رأي جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها مرتين" .وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.
44."بالبينات و الزبر"أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب ، كأنه جواب : قائل قال : بم أرسلوا؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً في الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، أو صفة لهم أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض ، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإلزام ."وأنزلنا إليك الذكر "أي القرآن وإنما سمي ذكراً لأنه موعظة وتنبيه."لتبين للناس ما نزل إليهم " في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل . "ولعلهم يتفكرون"وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق.
45."أفأمن الذين مكروا السيئات "أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء ، أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه عن الإيمان ."أن يخسف الله بهم الأرض"كما خسف بقارون "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون "بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط.
46."أو يأخذهم في تقلبهم"أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم ."فما هم بمعجزين ".
47."أو يأخذهم على تخوف"على مخافة بأن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون، أو على أن ينقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته . روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر : ما تقولون فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص ، فقال هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم ، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته: تخوف الرحل منها بامكاً قرداً كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم."فإن ربكم لرؤوف رحيم"حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.
48."أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء"استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه، وما موصولة مبهمة بيانها. " يتفيأ ظلاله "أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة . وقرأحمزة والكسائي تروا بالتاء وأبو عمروتتفيؤ بالتاء ."عن اليمين والشمائل"عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها ، استعارة من يمين الإنسان وشماله ، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله ،وجمعه في قوله: "سجداً لله وهم داخرون"وهما حالان من الضمير في ظلاله، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال "وهم داخرون"حال من الضمير .والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها ، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضاً داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها ، وجمع "داخرون"بالواو لن من جملتها من يعقل ، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . وقيل المراد بـ اليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع و شماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض. فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض . وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض .
49."ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض"أي ينقاد انقياداً يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعاً والانقياد لتكليفه وأمره طوعاً ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله :"من دابة"بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في ارض أو سماء "والملائكة"عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم ، أو عطف المجردات على الجسمانيات ، وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان لما في ملائكتها من الحفظة وغيرهم ، وما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليباً للعقلاء ." وهم لا يستكبرون "عن عبادته.
50."يخافون ربهم من فوقهم "يخافونه أن يرسل عذاباً من فوقهم ، أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى : "وهو القاهر فوق عباده" .والجملة حال من الضمير في"لا يستكبرون"، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته. "ويفعلون ما يؤمرون"من الطاعة والتدبير، وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء .
51."وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين"ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه ، أو إيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية كنا ذكر الواحد في قوله:"إنما هو إله واحد"للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإلهية ، أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإلهية ."فإياي فارهبون"نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحاً بالمقصود فكأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد فإياي فارهبون لا غير .
52."وله ما في السموات والأرض"خلقاً وملكاً ."وله الدين"أي الطاعة. "واصباً" لازماً لما تقرر من أنه الإله وحده و الحقيق بأن يرهب منه . وقيل "واصباً" من الوصب أي وله الدين ذا كلفة . وقيل الدين الجزاء أي وله الجزاء دائماً لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر ."أفغير الله تتقون"ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى.
53."وما بكم من نعمة فمن الله "أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، "وما"شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول ، فإن استقرار النعمة بهم يكون سبباً للإخبار بأنها من الله لا لحصولها منه ."ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون "فما تتضرعون إلا إليه ، و الجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
54."ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم "وهم كفاركم ."بربهم يشركون"بعبادة غيره ، هذا إذا كان الخطاب عاماً ، فإن كان خاصاً بالمشركين كان من للبيان كأنه قال: إذا فريق وهم أنتم ، ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى : "فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد".
55."ليكفروا بما آتيناهم "من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو إنكار كونها من الله تعالى. "فتمتعوا" أمر تهديد."فسوف تعلمون"أغلظ وعيده. وقرئ فيمتعوا مبنياً للمفعول عطفاً على"ليكفروا" ، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب.
56."ويجعلون لما لا يعلمون"أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير " لما" ، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم و تشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف ،أو لجعلهم على أن ما مصدرية و المجهول له محذوف للعلم به."نصيباً مما رزقناهم"من الزروع و الأنعام."تالله لتسألن عما كنتم تفترون"من أنها آلهة حقيقية بالتقرب إليها و هو وعيد لهم عليه.
57."ويجعلون لله البنات"كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله ."سبحانه"تنزيه له من قولهم ، أو تعجب منه . "ولهم ما يشتهون"يعني البنين ، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار ، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف .
58." وإذا بشر أحدهم بالأنثى "أخبر بولادتها."ظل وجهه"صار أو دام النهار كله. "مسوداً" من الكآبة والحياء من الناس.واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير. "وهو كظيم"مملوء غيظاً من المرأة .
59."يتوارى من القوم "يستخفي منهم . "من سوء ما بشر به ".من سوء المبشر به عرفاً . " أيمسكه"محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه. "على هون"ذل."أم يدسه في التراب"أي يخفيه فيه ويئده ،وتذكير الضمير للفظ"ما"وقرئ بالتأنيث فيهما ."ألا ساء ما يحكمون"حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم.
60."للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء"صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهاراً بهم و كراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق . "ولله المثل الأعلى"وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين."وهو العزيز الحكيم"المنفرد بكمال القدرة والحكمة .
61."ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم"بكفرهم ومعاصيهم ."ما ترك عليها"على الأرض ، وإنما أضمرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها."من دابة"قط بشؤم ظلمهم.وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة . وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء ."ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى"سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ."فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون"بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة ، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.
62."ويجعلون لله ما يكرهون"أي ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة ، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال."وتصف ألسنتهم الكذب " مع ذله وهو . "أن لهم الحسنى "أي عند الله كقوله:"ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى"وقرئ"الكذب"جمع كذوب صفة للألسنة."لا جرم أن لهم النار"رد لكلامهم وإثبات لضده. "وأنهم مفرطون" مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. وقرأنافع بكسر الراء على أنه من الإفراط في المعاصي. وقرئ بالتشديد مفتوحاً من فرطته في طلب الماء ومكسوراً من التفريط في الطاعات.
63."تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم "فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين . "فهو وليهم اليوم "أي في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية ، ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم ، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم ، والولي القرين أو الناصر فيكون نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ."ولهم عذاب أليم"في القيامة.
64."وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم" للناس."الذي اختلفوا فيه" من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال."وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون" معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين.
65."والله أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها" انبت فيها أنواع النبات بعد يبسها ."إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون"سماع تدبر وإنصاف.
66." وإن لكم في الأنعام لعبرة " دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم ."نسقيكم مما في بطونه"استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة المؤمنين للمعنى ، فإن الأنعام اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى ، فإن المراد به الجنس .وقرأنافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب"نسقيكم"بالتفتح هنا وفي المؤمنين."من بين فرث ودم لبناً" فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الإنهضام في الكرش. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً ، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثقله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضماً ثانياً فيحدث أخلاطاً أربعة معها مائية ، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولاً إلى الرحم لجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبناً ، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و"من"الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك: سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وهي متعلقة بـ"سقيكم"أو حال من "لبناً" قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة."خالصاً "صافياً لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ،أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه."سائغاً للشاربين"سهل المرور في حلقهم ، و قرئ سيغاً بالتشديد والتخفيف.
67."ومن ثمرات النخيل والأعناب"متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وقوله: "تتخذون منه سكراً"استئناف لبيان الإسقاء أو بـ"تتخذون"، ومنه تكرير للظرف تأكيداً أو خبر لمحذوف صفته"تتخذون"، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو لأن الـ"ثمرات"بمعنى الثمر والـ"سكر"مصدر سمي به الخمر . "ورزقاً حسناً "كالتمر والزبيب والدبس والخل ، والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة.وقيل الـ"سكر"النبيذ وقيل الطعم قال: جعلت أعراض الكرام سكرا أي تنقلت بأعراضهم . وقيل ما يسد الجوع من السكر فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه ."إن في ذلك لآيةً لقوم يعقلون "يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات .
68."وأوحى ربك إلى النحل"ألهمها وقذف في قلوبها، وقرئ "إلى النحل" بفتحتين ."أن اتخذي " بأن اتخذي ويجوز أن تكون"أن"مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول، وتأنيث الضمير على المعنى فإن النحل مذكر ."من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون"ذكر بحرف التبعيض لأنها لا تبني في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من كرم أو سقف، ولا في كل مكان منها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببناء الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وحصة القسمة التي لا يقوى عليها أحذق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة ،ولعل ذكره لتنبيه على ذلك وقرئ "بيوتاً" بكسر الباء ، وقرا ابن عامر وأبو بكر "يعرشون"بضم الراء .
69."ثم كلي من كل الثمرات"من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها. " فاسلكي"ما أكلت."سبل ربك "في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ، أو "فاسلكي"الطرق التي ألهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك "سبل ربك"لا تتوعر عليك . ولا تلتبس ."ذللاً"جمع ذلول وهي حال من السبل . أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكن أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به."يخرج من بطونها"كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس، لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم."شراب"يعني العسل لأنه مما يشرب، واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلاً ، ثم تفئ ادخاراً للشتاء ، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها في بيوتها ادخاراً فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل فسر البطون بالأفواه. "مختلف ألوانه"أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف سن النحل والفصل . "فيه شفاء للناس"إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه، مع أن التنكير فيه مشعر يكون بالتبعيض،ويجوز أن يكون للتعظيم .وعن قتادة "أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه فقال :اسقه العسل، فذهب ثم رجع فقال:قد سقيته فما نفع فقال: اذهب وسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك.فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال". وقيل الضمير للقرآن أو لما بين الله من أحوال النحل ."إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون"فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعاً أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه .
70."والله خلقكم ثم يتوفاكم"بآجال مختلفة."ومنكم من يرد"يعاد."إلى أرذل العمر"أخسه يعني الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل . وقيل هو خمس وتسعون سنة وقيل خمس وسبعون ." لكي لا يعلم بعد علم شيئا "ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية في النسيان وسوء الفهم."إن الله عليم"بمقادير أعماركم."قدير" يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني ، وفيه تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدل أمزجتهم على قدر معلوم،ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.
71."والله فضل بعضكم على بعض في الرزق"فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق غيرهم ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك ."فما الذين فضلوا برادي رزقهم "بمعطي رزقهم . "على ما ملكت أيمانهم"على مماليكهم فإنما يردون عليهم رزقهم الذي جعله الله في أيديهم . "فهم فيه سواء" فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم ، فالجملة لازمة للجملة المنفية أو مقررة لهاء، ويجوز أن تكون واقعة موقع الجواب كأنه قيل: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق على أنه رد وإنكار على المشركين فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم .فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه."أفبنعمة الله يجحدون"حيث يتخذون له شركاء ، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحهم ، والباء لتضمن الجحود معنى الكفر . وقرأ أبو بكر تجحدون بالتاء لقوله :"خلقكم"و"فضل بعضكم".
72."والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً"أي من جنسكم لتأنسوا بها ولتكون أولادكم مثلكم . وقيل هو خلق حواء من آدم ."وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدةً"وأولاد أولاد أو بنات ، فإن الحافد هو المسرع في الخدمة والبنات يخدمن في البيوت أتم خدمة. وقيل هم الأختان على البنات. وقيل الربائب ويجوز أن يراد بها البنون أنفسهم والعطف لتغاير الوصفين . " ورزقكم من الطيبات "من اللذائذ أو الحلالات و"من"للتبعيض فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها. "أفبالباطل يؤمنون"وهو أن الأصنام تنفعهم ، أو أن من الطبيات ما يحرم كالبحائر و السوائب ." وبنعمة الله هم يكفرون "حيث أضافوا نعمة إلى الأصنام ، أو حرموا ما أحل الله لهم ، وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام أو لإيهام التخصيص مبالغة ، أو للمحافظة على الفواصل .
73."ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً" من مطر ونبات ، و"رزقاً"إن جعلته مصدراً فشيئاً منصوب به وإلا فبدل منه ."ولا يستطيعون "أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلاً ، وجمع الضمير فيه وتوحيده في"لا يملك"لأن "ما"مفرد في معنى الألهة ، ويجوز أن يعود إلى الكفار أي ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون شيئاً من ذلك فكيف بالجماد.
74."فلا تضربوا لله الأمثال"فلا تجعلوا له مثلاً تشركونه به ، أو تقيسونه عليه فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال ."إن الله يعلم "فساد ما تعولون عليه من القياس على أن عبدة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وعظم جرمكم فيما تفعلون ."وأنتم لا تعلمون"ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو عليم للنهي ، أو أنه يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم دون نصه، ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وانتم لا تعلمون . ثم علمهم كيف يضرب فضرب مثلاً لنفس ولمن عند دونه فقال:
75."ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون "مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأساً ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالاً كثيراً فهو نتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء، واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية و المخلوقية على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات وبين الله الغني القادر على الإطلاق . وقيل هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق ، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر فإنه تمثيل عبد الله وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون وجعله قسيماً للمالك المتصرف يدل على أن المملوك لا يملك ، والأظهر أن "من "نكرة موصوفة ليطابق"عبداً" ، وجمع الضمير في "يستوون "لأنه للجنسين فإن المعنى هل يستوي الأحرار والعبيد ؟."الحمد لله"كل الحمد له ، لا يستحقه غيره فضلاً عن العبادة لأنه مولى النعم كلها . "بل أكثرهم لا يعلمون " فيضيفون نعمة إلى غيره ويعبدونه لأجلها.
76."وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم"ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم ."لا يقدر على شيء "من الصنائع والتدابير لنقصان عقله."وهو كل على مولاه "عيال وثقل على من يلي أمره . "أينما يوجهه"حيثما يرسله مولاه في أمر ، وقرئ "يوجه"على البناء للمفعول و"يوجه"بمعنى يتوجه كقوله أينما أوجه ألق سعداً وتوجه بلفظ الماضي ."لا يأت بخير"ينجح وكفاية مهم . "هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل "ومن هو فهم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل ."وهو على صراط مستقيم" وهو في نفسه على طريق مستقيم لا يوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي ، وإنما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين لنهما كمال ما يقابلهما، وهذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام لإبطال المشاركة بينه وبينهم أو للمؤمن والكافر.
77."ولله غيب السموات والأرض "يختص به علمه لا بعلمه غيره ، وهو ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوساً ولم يدل عليه محسوس.وقيل يوم القيامة فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض."وما أمر الساعة"وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته."إلا كلمح البصر"إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. "أو هو أقرب"أو أمرها أقرب منه بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذين تبتدئ فيه ، فإنه تعالى يحيي الخلائق دفعة وما يوجد دفعت كان في آن ، و"أو "للتخيير أو بمعنى بل . وقيل معناه أن قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة في استقرابه . "إن الله على كل شيء قدير"فيقدر أن يحيي الخلائق دفعة كما قدر أن أحياهم متدرجاً ، ثم دل على قدرته فقال:
78. "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم"وقرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنه لغة أو إتباع لما قبلها، وحمزة بكسرها وكسر الميم والهاء مزيدة مثلها في أهراق ."لا تعلمون شيئاً"جهالاً مستصحبين جهل الجمادية . "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة "أداة تتعلمون بها فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تتنبهون بقلوبكم لمشاركات و مباينات بينها بتكرر الإحساس حتى تتحصل لكم العلوم البديهية ، وتتمكنوا من تحصيل المعالم الكسبية بالنظر فيها ."لعلكم تشكرون"كي تعرفوا ما أنعم عليكم طوراً بعد طور فتشكروه.
79."ألم يروا إلى الطير "قرأابن عامر و حمزة ويعقوب بالتاء على أنه خطاب للعامة."مسخرات"مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية له ."في جو السماء"في الهواء المتباعد من الأرض ."ما يمسكهن"فيه."إلا الله"فإن ثقل جسدها يقتضي سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها."إن في ذلك لآيات"تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة يمكن معها الطيران ، وخلق الجو بحيث يمكن الطيران فيه وإمساكها في الهواء على خلاف طبعها."لقوم يؤمنون"لأنهم هم المنتفعون بها.
80."والله جعل لكم من بيوتكم سكناً" موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر ، فعل بمعنى مفعول ."وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" هي القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها."تستخفونها"تجدونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها."يوم ظعنكم "وقت ترحالكم ."ويوم إقامتكم"ووضعها أو ضربها وقت الحضر أو النزول .وقرأ الحجازيان والبصريان يوم ظعنكم بالفتح وهو لغة فيه."ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها" الصوف للضائنة والوبر للإبل والشعر للمعز،وإضافتها إلى ضمير "الأنعام "لأنها من جملتها."أثاثاً" ما يلبس ويفرش ."ومتاعاً" ما يتجر به ."إلى حين" إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة ، أو إلى حين ، مماتكم أو إلى أن تقضوا منه أو طاركم.
81."والله جعل لكم مما خلق"من الشجر والجبل والأبنية وغيرها."ظلالاً" تتقون بها حر الشمس . "وجعل لكم من الجبال أكناناً" مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها جمع كن."وجعل لكم سرابيل " ثياباً من الصوف والكتان والقطن وغيرها."تقيكم الحر "خضه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم ."وسرابيل تقيكم بأسكم "يعني الدروع والجواشن ،والسربال يعم كل ما يلبس "كذلك "كإتمام هذه النعم التي تقدمت . "يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون"أي تنظرون في نعمه فتؤمنون به وتنقادون لحكمه .وقرئ تسلمون من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب ، أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك.قيل "تسلمون "من الجراح بلبس الدروع.
82."فإن تولوا"أعرضوا ولم يقبلوا منك ."فإنما عليك البلاغ المبين "فلا يضرك فإنما عليك البلاغ وقد بلغت ، وهذا من إقامة السبب مقام المسبب.
83." يعرفون نعمة الله "أي يعرف المشركون نعمة الله التي عددها عليهم وغيرها حيث يعترفون بها وبأنها من الله تعالى ."ثم ينكرونها"بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا أو بإعراضهم عن أداء حقوقها . وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عناداً ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة . "وأكثرهم الكافرون"الجاحدون عناداً ، وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل أو التفريط في النظر ، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف وإما لأنه يقام مقام الكل كما في قوله:"بل أكثرهم لا يعلمون"
84."ويوم نبعث من كل أمة شهيداً"وهو نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر ."ثم لا يؤذن للذين كفروا"في الاعتذار إذ لا عذر لهم .وقيل في الرجوع إلى الدنيا .و"ثم "لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الإقناط الكلي على ما يمنون به من شهادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ."ولا هم يستعتبون"ولا هم يسترضون ، من العتبى وهي الرضا وانتصاب يوم بمحذوف تقديره اذكر ، أو خوفهم أو يحيق بهم ما يحيق وكذا قوله:
85."وإذا رأى الذين ظلموا العذاب "عذاب جهنم."فلا يخفف عنهم"أي العذاب . " ولا هم ينظرون "يمهلون.
86."وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم"أوثانهم التي ادعوها شركاء،أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه." قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك "نعبدهم أو نطيعهم .وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك ، أو التماس لأن يشطر عذابهم . "فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله ، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة وإنما عبدوا أهواءهم كقوله تعالى "كلا سيكفرون بعبادتهم"ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به حينئذ ، أوفي أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله:" وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي".
87."وألقوا "وألقى الذين ظلموا."إلى الله يومئذ السلم"الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا."وضل عنهم "وضاع عنهم وبطل . "ما كانوا يفترون"من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم.
88."الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله "بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر."زدناهم عذاباً " لصدهم ."فوق العذاب "المستحق بكفرهم ."بما كانوا يفسدون" بكونهم مفسدين بصدهم .
89."ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم "يعني نبييهم فإن نبي كل أمة بعث منهم ."وجئنا بك"يا محمد ."شهيداً على هؤلاء "على أمتك. "ونزلنا عليك الكتاب"استئناف أوحال بإضمار قد."تبياناً" بياناً بليغاً ."لكل شيء" من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال بالإحالة إلى السنة أو القياس ."وهدىً ورحمةً" للجميع وإنما حرمان المحرم من تفريطه."وبشرى للمسلمين "خاصة.
90."إن الله يأمر بالعدل "بالتوسط في الأمور اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الخبر والقدر ، وعملاً كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير."والإحسان "إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة والسلام "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.""وإيتاء ذي القربى " وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة . "وينهى عن الفحشاء"عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها."والمنكر"ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية . "والبغي "والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضى الله عنه: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر . وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله: " ونزلنا عليك الكتاب " للتنبيه عليه." يعظكم" بالأمر والنهي والميز بين الخير والشر ."لعلكم تذكرون "تتعظون.
91."وأوفوا بعهد الله " يعني البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:"إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله".وقيل كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله:"إذا عاهدتم"وقيل النذور .وقيل الإيمان بالله "ولا تنقضوا الأيمان "أي أيمان البيعة أو مطلق الأيمان ."بعد توكيدها"بعد توثيقها بذكر الله تعالى، ومنه أكد بقلب الواو همزة "وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً " شاهداً بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه "إن الله يعلم ما تفعلون" من نقض الإيمان والعهود.
92."ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها" ما غزلته، مصدر بمعنى المفعول . "من بعد قوة"متعلق بـ"نقضت"أي نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام ."أنكاثاً" طاقات نكث فتلها جمع نكث، وانتصابه على الحال من"غزلها" أو المفعول الثاني لنقضت فإنه بمعنى صيرت، والمراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه . وقيل هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية إنها كانت خرقاء تفعل ذلك."تخذون أيمانكم دخلاً بينكم"حال من الضمير في"ولا تكونوا"أو في الجار الواقع موقع الخبر أي لا تكونوا متشبهين بامرأة هذا شأنها ،متخذي أيمانكم مفسدة ودخلاً بينكم ، وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن من ."أن تكون أمة هي أربى من أمة"لأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً من جماعة ، والمعنى لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أن لكثرة منابذتهم وقوتهم كقريش، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم ."إنما يبلوكم الله به "الضمير لن تكون أمة لأنه بمعنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر . أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم. وقيل الضمير للرياء وقيل للأمر بالوفاء ."وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون "إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب.
93."ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً"متفقة على الإسلام ."ولكن يضل من يشاء "بالخذلان ."ويهدي من يشاء "بالتوفيق." ولتسألن عما كنتم تعملون "سؤال تبكيت ومجازة.
94."ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم"تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغة في قبح المنهي."فتزل قدم" أي عن محجة الإسلام ."بعد ثبوتها" عليها والمراد أقدامهم، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم فيكف بأقدام كثيرة. "وتذوقوا السوء "العذاب في الدنيا ."بما صددتم عن سبيل الله "بصدكم عن الوفاء أن صدكم غيركم عنه، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره ."ولكم عذاب عظيم" في الآخرة .
95."ولا تشتروا بعهد الله "ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم ."ثمناً قليلاً "عرضاً يسيراً ،وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد ." إنما عند الله "من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة . "هو خير لكم "مما يعدونكم ."إن كنتم تعلمون"إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
96." ما عندكم "من أعراض الدنيا."ينفد"ينقضي ويفنى ."وما عند الله "من خزائن رحمته ."باق"لا ينفد ،وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق."ولنجزين الذين صبروا أجرهم "على الفاقة وأذى الكفار ، أو على مشاق التكاليف.وقرأابن كثير وعاصم بالنون."بأحسن ما كانوا يعملون"بما يرجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات ، أو بحزاء أحسن من أعمالهم.
97."من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى"بينه بالنوعين دفعاً للتخصيص ."وهو مؤمن"إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. "فلنحيينه حياةً طيبةً"في الدنيا يعيش عيشاً طيباً فإنه إن كان موسراً فظاهر وإن كان معسراً يطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة ، بخلاف الكافر فإنه إن كان معسراً فظاهر وإن كان موسراً لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه.وقيل في الآخرة. "ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"من الطاعة.
98."فإذا قرأت القرآن "إذا أردت قراءته كقوله تعالى:"إذا قمتم إلى الصلاة" "فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم"فاسأل الله أن يعيذك كم وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة، والجمهور على أنه للاستحباب . وفيه دليل على أن المصلى يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً، وتعقيبه لذلك العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القرءاة من هذا القبيل . وعن ابن مسعود "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ."
99." إنه ليس له سلطان" تسلط وولاية"على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون"على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطاناً .
100."إنما سلطانه على الذين يتولونه"يحبونه ويطيعونه. "والذين هم به"بالله أو بسبب الشيطان "مشركون".
101."وإذا بدلنا آية مكان آية"بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً أو حكماً . "والله أعلم بما ينزل "من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه ، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل بالتخفيف ."قالوا"أي الكفرة."إنما أنت مفتر"متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، وجواب "إذا ""والله أعلم بما ينزل"، اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم ويجوز أن يكون حالاً . "بل أكثرهم لا يعلمون" حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب.
102."قل نزله روح القدس"يعني جبريل عليه الصلاة والسلام ،وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كقولهم :حاتم الجود وقرأابن كثيرروح القدس بالتخفيف وفي "ينزل"و"نزله"تنبيه على أن إنزاله مدرجاً على حسب المصالح بما يقتضي التبديل ."من ربك بالحق "ملتبساً بالحكمة . "ليثبت الذين آمنوا"ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم ." وهدى وبشرى للمسلمين "المنقادين لحكمه، وهما معطوفان على محل "ليثبت "أي تثبيتاً وهداية وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم وقرئ "ليثبت"بالتخفيف.
103."ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر"يعنون جبراً الرومي غلام عامر بن الحضرمي.وقيل جبراً ويساراً كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرأن التوراة والإنجيل ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرأنه . وقيل عائشاً غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب . وقيل سلمان الفارسي. "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي"لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه ، مأخوذ من لحد القبر. وقرأ حمزة والكسائييلحدون بفتح الياء والحاء ، لسان أعجمي غير بين ."وهذا "وهذا القرآن ."لسان عربي مبين"ذو بيان وفصاحة ، والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم ، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما:أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل ، فيكف يكون ما تلقفه منه . وثانيهما : هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق فيتلك العلوم مدة متطاولة ، فيكف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم.
104."إن الذين لا يؤمنون بآيات الله "لا يصدقون أنها من عند الله ."لا يهديهم الله "إلى الحق أو إلى سبيل النجاة . وقيل إلى الجنة . " ولهم عذاب أليم "في الآخرة ، هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم فقال:
105."إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله "لأنهم لا يخافون عقاباً يردعهم عنه."وأولئك"إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش ."هم الكاذبون " أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب ، أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة ، أو الكاذبون في قولهم :"إنما أنت مفتر ""إنما يعلمه بشر".
106."من كفر بالله من بعد إيمانه"بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض ، أومن "أولئك"أو من"الكاذبون"، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله:"فعليهم غضب"ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوف الجواب دل عليه قوله:"إلا من أكره"على الافتراء أو كلمة الكفر، استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان." وقلبه مطمئن بالإيمان "لم تتغير عقدته ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب."ولكن من شرح بالكفر صدراً" اعتقده وطاب به نفساً ."فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"إذ لا أعظم من جرمه ، "روي أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت،وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . " وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه لما "روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فما تقول في فقال: أنت فخلاه، وقال للآخر ما تقول في محمد قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال فما تقول في؟قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الأول فقد أخذ رخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ."
107."ذلك"إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد ."بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة"بسبب أنهم آثروها عليها."وأن الله لا يهدي القوم الكافرين "أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ.
108."أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم"فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه . "وأولئك هم الغافلون"الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر العواقب.
109."لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون"إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد.
110."ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا"أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر ، و"ثم"لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، وقرأ ابن عامرفتنوا بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبراً حتى ارتد ثم أسلم وهاجر ."ثم جاهدوا وصبروا"على الجهاد وما أصابهم من المشاق ."إن ربك من بعدها"من بعد الهجرة والجهاد والصبر . "لغفور"، لما فعلوا قبل ."رحيم"منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد.
111."يوم تأتي كل نفس"منصوب بـ"رحيم"أو باذكر ."تجادل عن نفسها"تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي ."وتوفى كل نفس ما عملت"جزاء ما عملت ."وهم لا يظلمون"لا ينقصون أجورهم.
112."وضرب الله مثلاً قريةً"أي جعلها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا ، فأنزل الله بهم نقمته، أو لمكة . "كانت آمنةً مطمئنةً" لا يزعج أهلها خوف."يأتيها رزقها"أقواتها."رغداً"واسعاً."من كل مكان"من نواحيها ."فكفرت بأنعم الله "بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس ."فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير: عمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ،وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له ،وقد ينظر إلى المستعار كقوله: ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر استعار الرداء لسيفه ثم قال فاعتجر نظراً إلى المستعار."بما كانوا يصنعون"بصنيعهم.
113."ولقد جاءهم رسول منهم"يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ،والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم."فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون"أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد،أو وقعة بدر.
114."فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً"أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم، صداً لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة ." واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون "تطيعون، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.
115." إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم "لما أمرهم بتناول ما أحل الهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم ، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال:
116."ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام" كما قالوا"ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا"الآية ،ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل :كالسباع والحمر الأهلية ، وانتصاب"الكذب"بـ"ولا تقولوا "و"هذا حلال وهذا حرام"بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام ، أو مفعول"لا تقولوا "، و"الكذب"منتصب بـ"تصف"وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي : لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل ،ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة فيوصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا،ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم:وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر .وقرئ"الكذب"بالجر بدلاً من ما و"الكذب"جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب. "لتفتروا على الله الكذب"تعليل لا يتضمن الغرض."إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون"لما كان المعتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله:
117."متاع قليل"أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب."ولهم عذاب أليم"في الآخرة.
118."وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك"أي وفي سورة الأنعام في قوله:"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر""من قبل"متعلق بـ"قصصنا"أو بـ"حرمنا"."وما ظلمناهم"بالتحريم."ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه ، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون المضرة يكون العقوبة.
119."ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة"بسببها او ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة ، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره ."ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها "من بعد التوبة ."لغفور"لذلك السوء ."رحيم"يثيب على الإنابة.
120."إن إبراهيم كان أمة"لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله: ليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله ، أو لأنه كان وحده مؤمناً وكان سائر الناس كفاراً.وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده ، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله:" إني جاعلك للناس إماما ""قانتاً لله"مطيعاً له قائماً بأوامره ."حنيفاً" مائلاً عن الباطل ."ولم يك من المشركين"كما زعموا فإن قريشاً كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم .
121."شاكراً لأنعمه"ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة فيكف بالكثيرة."اجتباه"للنبوة ."وهداه إلى صراط مستقيم"في الدعوة إلى الله
122."وآتيناه في الدنيا حسنةً"بأن حببه إلى الناس حتى أن أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه ، ورزقه أولاداً طيبة وعمراً طويلاً في السعة والطاعة. "وإنه في الآخرة لمن الصالحين"لمن أهل الجنة كما سأله بقوله:"وألحقني بالصالحين".
123."ثم أوحينا إليك"يا محمد، و"ثم "إما لتعظيمه والتنبيه على أن أحل ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ملته ، أو لتراخي أيامه."أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً"في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه"وما كان من المشركين"بل كان قدوة الموحدين.
124."إنما جعل السبت"تعظيم السبت ، أو التخلي فيه للعبادة ."على الذين اختلفوا فيه"أي على نبيهم ، وهم اليهود أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا:نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فألزمهم الله السبت وشدد الأمر عليهم .وقيل معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، فأحلوا الصيد في تارة وحرموه أخرى واحتالوا له الحيل،وذكرهم هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله."وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" بالمجازاة على الاختلاف ، أو بمجازاة كل فريق بما يستحقه.
125."ادع"من بعثت إليهم ."إلى سبيل ربك "إلى الإسلام ."بالحكمة " بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة. "والموعظة الحسنة " الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق و الثانية لدعوة عوامهم . "وجادلهم "وجادل معانديهم ."بالتي هي أحسن "بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم وتبين شغبهم."إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"أي إنما عليك البلاغ والدعوة ، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم.
126."وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة ، ومراعاة العدل مع من يناصبهم ، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات ، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام "لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : (والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك) فنزلت" فكفر عن يمينه، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه، وحث على العفو تعريضاً بقوله:"وإن عاقبتم " وتصريحاً على الوجه الآكد بقوله:"ولئن صبرتم لهو"أي الصبر."خير للصابرين "من الانتقام للمنتقمين ، ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه أولى الناس به لزيادة لعلمه بالله ووثوقه عليه فقال:
127."واصبر وما صبرك إلا بالله"إلا بتوفيقه وتثبيته."ولا تحزن عليهم"على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم."ولا تك في ضيق مما يمكرون"في ضيق صدر من مكرهم ، وقرأابن كثيرفي "ضيق"بالكسر هنا وفي النمل وهما لغتان كالقول والقيل ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق.
128."إن الله مع الذين اتقوا"المعاصي."والذين هم محسنون"في أعمالهم بالولاية والفضل ، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه ."عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية."