islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير البيضاوى
18044

22-الحج

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

1ـ " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة " تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي ، أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به . وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها . " شيء عظيم " هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى .

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

2ـ " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت " تصوير لهولها والضمير للـ " زلزلة " ، و " يوم " منصوب بـ " تذهل " ، وقرئ " تذهل " مجهولاً ومعروفاً أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعنه من فيه وذهلت عنه ، و " ما " موصولة أو مصدرية . " وتضع كل ذات حمل حملها " جنينها . " وترى الناس سكارى " كأنهم سكارى . " وما هم بسكارى " على الحقيقة . " ولكن عذاب الله شديد " فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ " ترى " من أريتك قائماً أو رؤيت قائماً بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة و الكسائي (( سكرى )) كعطش إجراء للسكر مجرى العلل .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ

3ـ " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه . " ويتبع " في المجادلة أو في عامة أحواله . " كل شيطان مريد " متجرد للفساد وأصله العري .

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ

4ـ " كتب عليه " على الشيطان . " أنه من تولاه " تبعه والضمير للشأن . " فأنه يضله " خبر لمن أو جواب له ، والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه ، وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام . وقرئ بالكسر بالموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو تضمين الكتب معناه . " ويهديه إلى عذاب السعير " بالحمل على ما يؤدي إليه .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى

5ـ " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " من إمكانه وكونه مقدوراً ، وقرئ " من البعث " بالتحريك كالجلب . " فإنا خلقناكم " أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم . " من ترابً " بخلق آدم منه ، أو الأغذية التي يتكون منها المني . " ثم من نطفة " مني من النطف وهو الصب . " ثم من علقة " قطعة من الدم جامدة . " ثم من مضغة " قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ . " مخلقة وغير مخلقة " مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة . " لنبين لكم " بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً قدر على ذلك ثانياً ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر . " ونقر في الأرحام ما نشاء " أن نقره " إلى أجل مسمى " هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ (( ونقره )) بالنصب وكذا قوله : " ثم نخرجكم طفلاً " عطفاً على (( نبين )) كأن خلقهم مدرجاً لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعاً ونصباً ويقر بالياء " ونقر " من قررت الماء إذا صببته ، و " طفلاً " حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر. " ثم لتبلغوا أشدكم " كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور . " ومنكم من يتوفى " عند بلوغ الأشد أو قبله . وقرىء " يتوفى " أو يتوفاه الله تعالى . " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وهو الهرم والخرف ، وقرئ بسكون الميم . " لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً " ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره . " وترى الأرض هامدةً " ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رماداً . " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " تحركت بالنبات . " وربت " وانتفخت ، وقرئ (( وربأت )) أي ارتفعت . " وأنبتت من كل زوج " من كل صنف " بهيج " حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

6ـ " ذلك " إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة ، وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره : " بأن الله هو الحق " أي بسبب أنه الثابت في نفسه الذي به تتحقق الأشياء . " وأنه يحيي الموتى " وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة . " وأنه على كل شيء قدير " لأن قدرته لذاته الذي نسبته إلى الكل على سواء ، فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها .

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ

7ـ " وأن الساعة آتية لا ريب فيها " فإن التغير من مقدمات الانصرام وطلائعه . " وأن الله يبعث من في القبور " بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ

8ـ " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة بقوله : " ولا هدى ولا كتاب منير " على أنه لا سند له عن استدلال أو وحي ، أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين ، والمراد بالعلم العلم الفطري ليصح عطف الـ " هدى " والـ " كتب عليه " .

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ

9ـ " ثاني عطفه " متكبراً وثنى العطف كناية عن التكبر كلي الجيد ، أو معرضاً عن الحق استخفافاً به . وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه . " ليضل عن سبيل الله " علة للجدال ، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال ، وأنه من حيث مؤداه كالغرض له . " له في الدنيا خزي " وهو ما أصابه يوم بدر . " ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق " المحروق وهو النار .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

10ـ " ذلك بما قدمت يداك " على الالتفات ، أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي . " وأن الله ليس بظلام للعبيد " وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم والمبالغة لكثرة العبيد .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ

11ـ " ومن الناس من يعبد الله على حرف " على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحسن بظفر قر وإلا فر . " فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه " روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شراً وانقلب . وعن أبي سعيد "أن يهودياً أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال إن الإسلام لا يقال فنزلت" . " خسر الدنيا والآخرة " بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ (( خاسراً )) بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع كالظاهر موضع الضمير تنصيصاً على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . " ذلك هو الخسران المبين " إذ لا خسران مثله .

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

12ـ " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه " يعبد جماداً لا يضر بنفسه ولا ينفع . " ذلك هو الضلال البعيد " عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالاً .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ

13ـ " يدعو لمن ضره " بكونه معبوداً لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة . " أقرب من نفعه " الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى ، واللام معلقة لـ " يدعو " من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد ، أو داخلة على الجملة الواقعة مقولاً إجراء له مجرى قول : أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به ، أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره " لبئس المولى " الناصر . " ولبئس العشير " الصاحب .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

14ـ " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد " من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا مانع .

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ

15ـ " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة " كلام فيه اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كانت يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه . وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن . " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع " فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظاً ، أو المبالغ جزعاً حتى يمد حبلاً إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق ، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . وقيل فليمدد حبلاً إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه . وقرأ ورش و أبو عمرو و ابن عامر (( ليقطع )) بكسر اللام. " فلينظر " فليتصور في نفسه . " هل يذهبن كيده " فعله ذلك وسماه على الأول كيداً لأنه منتهى ما يقدر عليه . " ما يغيظ " غيظه أو الذي يغيظه من نصر الله . وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطأوا نصر الله لاستعجالهم وشده غيظهم على المشركين .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

16ـ " وكذلك " ومثل ذلك الإنزال . " أنزلناه " أنزلنا القرآن كله . " آيات بينات " واضحات ." وأن الله يهدي " به أو يثبت على الهدى . " من يريد " هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبيناً .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

17ـ " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل ، أو ا لجزاء فيجازي كلا ما يليق به ويدخله المحل المعد له ، وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد . " إن الله على كل شيء شهيد " عالم به مراقب لأحواله .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِ

18ـ " ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض " يتسخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمة مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : " والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " إفراداً لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها . وقرئ " والدواب " بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين . " وكثير من الناس " عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهومية ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة . " وكثير حق عليه العذاب " بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل (( وكثيراً )) تكريراً للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفاً بما بعده . وقرىء " حق " بالضم و (( حقاً )) بإضمار فعله . " ومن يهن الله " بالشقاوة " فما له من مكرم " يكرمه بالسعادة، وقرئ بالفتح بمعنى الإكرام . " إن الله يفعل ما يشاء " من الإكرام والإهانة .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

19ـ " هذان خصمان " أي فوجان مختصمان . ولذلك قال : " اختصموا " حملاً على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بهما المؤمنون والكافرون . " في ربهم " في دينه أو في ذاته وصفاته . وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبياً قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسداً فنزلت . " فالذين كفروا " فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ". " قطعت لهم " قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرئ بالتخفيف . " ثياب من نار " نيران تحيط بهم إحاطة الثياب. " يصب من فوق رؤوسهم الحميم " حالم من الضمير في " لهم " أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار .

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ

20ـ " يصهر به ما في بطونهم والجلود " أي يؤثر من فرط حرارته في بطونهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم ، والجملة حال من " الحميم " أو من ضميرهم . وقرئ بالتشديد للتكثير .

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ

21ـ " ولهم مقامع من حديد " سياط منه يجلدون بها وجمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف .

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

22ـ " كلما أرادوا أن يخرجوا منها " من النار . " من غم " من عمومها بدل من الهاء بإعادة الجار . " أعيدوا فيها " أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها . " وذوقوا " أي وقيل لهم ذوقوا . " عذاب الحريق " أي النار البالغة في الإحراق .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ

23ـ " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار " غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحماداً لحال المؤمنين وتعظيماً لشأنهم . " يحلون فيها " من حليت المرأة إذا ألبستها الحلى ، وقرىء بالتخفيف والمعنى واحد . " من أساور " صفة مفعول محذوف " أساور " جمع أسورة وهو جمع سوار . " من ذهب " بيان له . " ولؤلؤاً " عطف عليها لا على " ذهب " لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة به ، ونصبهم نافع و عاصم عطفاً على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون ، وقرئ (( لؤلؤاً )) بقلب الثانية واواً و (( لولياً )) بقلبهما ، و (( لوين )) ثم تقلب الثانية ياء و (( ليليا )) بقلبهما ياءين و (( لول )) كأدل . " ولباسهم فيها حرير " غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة ، أو للمحافظة على هيئة الفواصل .

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ

24ـ " وهدوا إلى الطيب من القول " وهو قولهم " الحمد لله الذي صدقنا وعده " أو كلمة التوحيد . " وهدوا إلى صراط الحميد " المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة ، أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو الله سبحانه وتعالى وصراطه الإسلام .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

25ـ " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله " لا يريد به حالاً ولا استقبالاً وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حين عطفه على الماضي . وقيل هو حال من فاعل " كفروا " وخبر " إن " محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون . " والمسجد الحرام" عطف على اسم الله وأوله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : " الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد " أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : " الذين أخرجوا من ديارهم " وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و " سواء " خبر مقدم والجملة مفعول ثان لـ " جعلناه " إن جعل " للناس " حالاً من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و " العاكف " مرتفع به ، وقرىء " العاكف " بالجر على أنه بدل من الناس . " ومن يرد فيه " مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرئ بالفتح من الورود . " بإلحادً " عدول عن القصد " بظلم " بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحداً بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام " نذقه من عذاب أليم " جواب لـ " من " .

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

26ـ " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " أي واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة . وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه . قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسله فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم . " أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود " " أن " مفسرة لـ " بوأنا " من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة ، أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ، ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ، وقرئ " يشرك " بالياء وقرأ نافع و حفص وهشام " بيتي " بفتح الياء .

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

27ـ " وأذن في الناس " ناد فيهم وقرئ (( وآذن )) . " بالحج " بدعوة الحج والأمر به . "روي أنه عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج " . وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع . " يأتوك رجالاً " مشاة جمع راجل كقائم وقيام ، وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجالى كعجالى . " وعلى كل ضامر " أي وركباناً على كل بعير مهزل أتعبه بعد السفر فهزله . " يأتين " صفة لـ " ضامر " محمولة على معناه ، وقرئ (( يأتون )) صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير لـ " الناس " "من كل فج " طريق. " عميق " بعيد ، وقرئ (( معيق )) يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى .

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ

28ـ " ليشهدوا " ليحضروا . " منافع لهم " دينية ودنيوية ، وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة . " ويذكروا اسم الله " عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها . وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنه المقصود مما بتقرب به إلى الله تعالى . " في أيام معلومات " هي عشر ذي الحجة ، وقيل أيام النحر . " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " علق الفعل بالمروزق وبينه بالبهيمة تحريضاً على التقرب وتنبيهاً على مقتضى الذكر . " فكلوا منها " من لحومها أمر بذلك إباحة وإزالة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه ، أو ندباً إلى مواساة الفقراء ومساواتهم ، وهذا في المتطوع به دون الواجب . " وأطعموا البائس " الذي أصابه بؤس أي شدة . " الفقير" المحتاج ، والأمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول .

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

29ـ " ثم ليقضوا تفثهم " ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال . " وليوفوا نذورهم " ما ينذرون من البر في حجهم ، وقيل مواجب الحج . وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشيد الفاء . " وليطوفوا " طواف الركن الذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث ، وقيل طواف الوداع . وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما . " بالبيت العتيق " القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، أو المعتق من تتسلط الجبابرة فكم جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى ، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

30ـ " ذلك "خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين . " ومن يعظم حرمات الله " أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه ، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف . وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم . " فهو خير له " فالتعظيم " خير له " ." عند ربه " ثواباً . " وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم " إلا المتلو عليكم تحريمه ، وهو ما حرم منهما لعارض : كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تحرموا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة . " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . " واجتنبوا قول الزور " تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك رداً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك . وقيل شهادة الزور لما " روي أنه عليه الصلاة والسلام قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثاً وتلا هذه الآية ". و " الزور " من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك من الأفك وهو الصرف ، فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع .

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ

31ـ " حنفاء لله " مخلصين له . " غير مشركين به " وهما حالان من الواو . " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء " لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر . " فتخطفه الطير " فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره ، وقرأ نافع وحده " فتخطفه " بفتح الخاء وتشديد الطاء . " أو تهوي به الريح في مكان سحيق " بعيد فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة وأو للتخيير كما قوله تعالى : "أو كصيب من السماء " ، أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلاً ، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى : ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكاً يشبه أحد الهلاكين .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

32ـ " ذلك ومن يعظم شعائر الله " دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده ، وتعظيمها أن تختارها حساناً سماناً غالية الأثمان . " روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب "، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار . " فإنها من تقوى القلوب " فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما.

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ

33ـ " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق " أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم ، و " ثم " تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة ، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها ، وهو على الأولين إما متصل بحديث " الأنعام " والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت ، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة ، وعلى الثاني " لكم فيها منافع " التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ

34ـ " ولكل أمة " ولكل أهل دين . " جعلنا منسكاً " متعبداً أو قرباناً يتقربون به إلى الله ، وقرأ حمزة و الكسائي بالكسر أي موضع نسك . " ليذكروا اسم الله " دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه ، علل الجعل به تنبيهاً على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود . " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " عند ذبحها ، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعماً . " فإلهكم إله واحد فله أسلموا " أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك . " وبشر المخبتين " المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات صفتهم .

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

35ـ " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها ." والصابرين على ما أصابهم " من الكلف والمصائب . " والمقيمي الصلاة " في أوقاتها ، وقرئ (( والمقيمي الصلاة )) على الأصل . " ومما رزقناهم ينفقون " في وجوه الخير .

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُ

36ـ " والبدن " جمع بدنة كخشب وخشبة ، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة " بقوله عليه الصلاة والسلام البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " تناول اسم البدنة لها شرعاً . بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره . " جعلناها لكم " ومن رفعه جعله مبتدأ . " من شعائر الله " من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى . " لكم فيها خير " منافع دينية ودنيوية . " فاذكروا اسم الله عليها " بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك . " صواف " قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وقرىء (( صوافن )) من صفن الفرس إذ قام على ثلاث . وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ، وقرئ (( صوافنا )) بإبدال التنوين من حرف الإطلاق عند الوقف و (( صوافي )) أي خوالص لوجه الله ، و (( صوافي )) بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقاً كقولهم : أعط القوس باريها . " فإذا وجبت جنوبها " سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت . " فكلوا منها وأطعموا القانع " الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة (( القنع )) ، أو السائل من قنعت إليه قنوعاً إذا خضعت له في السؤال . " والمعتر " والمعترض بالسؤال ، وقرى ء (( والمعتري )) يقال عره وعراه واعتره واعتراه . " كذلك " مثل ما وصفنا من نحرها قياماً . " سخرناها لكم " مع عظمهما وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها . " لعلكم تشكرون " إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص .

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ

37ـ " لن ينال الله " لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول . " لحومها " المتصدق بها . " ولا دماؤها " المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء . " ولكن يناله التقوى منكم " ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إله والإخلاص له ، وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت . " كذلك سخرها لكم " كرره تذكيراً للنعمة وتعليلاً له بقوله : " لتكبروا الله " أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غير ه فتوحدوه بالكبرياء . وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح . " على ما هداكم " أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها ، و " ما " تحتمل المصدرية والخبرية و " على " متعلقة بـ " لتكبروا "لتضمنه معنى الشكر . " وبشر المحسنين " المخلصين فيما يأتونه ويذرونه .

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ

38ـ " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " غائلة المشركين ، وقرأ نافع و ابن عامر والكوفيون (( يدافع )) أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه . " إن الله لا يحب كل خوان " في أمانة الله . " كفور " لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم .

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ

39ـ " أذن " رخص ، وقرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي على البناء للفاعل وهو الله . " للذين يقاتلون " المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه ، وقرأ نافع و ابن عامر و حفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون . " بأنهم ظلموا " بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت . وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية . " وإن الله على نصرهم لقدير " وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم .

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ

40ـ " الذين أخرجوا من ديارهم " يعني مكة . " بغير حق " بغير موجب استحقوه به . " إلا أن يقولوا ربنا الله " على طريقة قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من راع الكتائب وقيل منقطع . " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين . " لهدمت " لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل ، وقرأ نافع (( دفاع )) وقرأ نافع وابن كثير " لهدمت " بالتخفيف . " صوامع " صوامع الرهبانية . " وبيع " بيع النصارى . " وصلوات " كنائس اليهود ، سميت بها لأنها يصلى فيها ، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت . " ومساجد " مساجد المسلمين . " يذكر فيها اسم الله كثيراً " صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلاً . " ولينصرن الله من ينصره " من ينصره دينه ، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم . " إن الله لقوي " على نصرهم . " عزيز " لا يمانعه شيء.

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ

41ـ " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء ، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين . وقيل بدل ممن ينصره . " ولله عاقبة الأمور " فإن مرجعها لى حكمه ، وفيه تأكيد لما وعده .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ

42 ـ " وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود " .

وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ

43 -" وقوم إبراهيم وقوم لوط " .

وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

43ـ " وأصحاب مدين " تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه . " وكذب موسى " غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل ، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع . " فأمليت للكافرين " فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة . " ثم أخذتهم فكيف كان نكير " أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكاً والعمارة خراباً .

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

45ـ " فكأين من قرية أهلكناها " بإهلاك أهلها ، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم . " وهي ظالمة " أي أهلها . " فهي خاوية على عروشها " ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو خالة مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقاً بـ " خاوية " ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي : مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها ، والجملة معطوفة على " أهلكناها " لا على " وهي ظالمة " فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره " أهلكناها " وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع . " وبئر معطلة " عطف على " قرية " أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله . " وقصر مشيد " مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه ، وذلك يقوي أن معنى " خاوية على عروشها " خالية مع بقاء عروشها ، وقيل المراد بـ " بئر " بئر في سفح جبل بحضر موت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

46ـ " أفلم يسيروا في الأرض " حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك . " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال . " أو آذان يسمعون بها " ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم . " فإنها " الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار . وفي " تعمى " راجع إليه والظاهر أقيم مقامه . " لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر " الصدور " للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر . قيل لما نزل " ومن كان في هذه أعمى " قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت " فإنها لا تعمى الأبصار " .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

47ـ " ويستعجلونك بالعذاب " المتوعد به . " ولن يخلف الله وعده " لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة . " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال ، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة ، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة ، وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي بالياء .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ

48ـ " وكأين من قرية " وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو ، لأن الأولى بدل من قوله " فكيف كان نكير " وهذه في حكم مما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى . " أمليت لها " كما أمهلتكم . " وهي ظالمة " مثلكم . " ثم أخذتها " بالعذاب . " وإلي المصير " وإلى حكمي مرجع الجميع .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

49ـ " قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين " أوضح لكم ما أنذركم به ، والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم .

فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

50ـ " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة " لما بدر منهم . " ورزق كريم " هي الجنة والـ " كريم " من كل نوع ما يجمع فضائله .

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

51ـ " والذين سعوا في آياتنا " بالرد والإبطال . " معاجزين " مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق ، ومن عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به ، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو " معجزين " على أنه حال مقدرة . " أولئك أصحاب الجحيم " النار الموقدة ، وقيل اسم دركة .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

52ـ " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه " أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له . وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام . " إلا إذا تمنى " زور في نفسه ما يهواه . " ألقى الشيطان في أمنيته " في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما " قال عليه الصلاة والسلام وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " . " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيحه . " ثم يحكم الله آياته " ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة . " والله عليم " بأحوال الناس . " حكيم " فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت . وقيل تمني لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان قي ناديهم فنزلت عليه سورة (( والنجم )) فأخذ يقرؤها فلما بلغ " ومناة الثالثة الأخرى " وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال . تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها ، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية . وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله . تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رسل وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعاً صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رد أيضاً بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " لأنه أيضاً يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم .

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

53ـ " ليجعل ما يلقي الشيطان " علة لتمكين الشيطان منه ، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل . " فتنةً للذين في قلوبهم مرض " شك ونفاق . " والقاسية قلوبهم " المشركين . " وإن الظالمين " يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم . " لفي شقاق بعيد " عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين .

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

54ـ " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك " أن القرآن هو الحق النازل من عند الله ، أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم . " فيؤمنوا به " بالقرآن أو بالله . " فتخبت له قلوبهم " بالانقياد والخشية . " وإن الله لهاد الذين آمنوا " فيما أشكل . " إلى صراط مستقيم " هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه .

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

55ـ " ولا يزال الذين كفروا في مرية " في شك . " منه " من القرآن أو الرسول ، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها . " حتى تأتيهم الساعة " القيامة أو أشراطها أو الموت . " بغتةً " فجأة . " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم ، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيماً ، فوصف اليوم بوصفها اتساعاً أو لأنه لا خير لهم فيه ، ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطراً ولم تلقح شجراً ، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه ، أو يوم القيامة على أن المراد بـ " الساعة " غيره أو على وضعه ، موضع ضميرها للتهويل .

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

56ـ " الملك يومئذ لله " التنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية أي : يوم تزول مريتهم . " يحكم بينهم " بالمجازاة ، والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله : " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم".

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

57ـ " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين " وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى ، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال " لهم عذاب " ولم يقل : هم في عذاب .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

58 ـ " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا " في الجهاد . " أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً " الجنة ونعيمها ، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل . روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت . " وإن الله لهو خير الرازقين " فإنه يرزق بغير حساب .

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ

59 ـ " ليدخلنهم مدخلاً يرضونه " هو الجنة فيها ما يحبونه . " وإن الله لعليم " بأحوالهم وأحوال معادهم . " حليم " لا يعاجل في العقوبة .

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

60 ـ " ذلك " أي الأمر ذلك . " ومن عاقب بمثل ما عوقب به " ولم يزد في الاقتصاص ، وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء للازدواج أو لأنه سببه . " ثم بغي عليه " بالمعاودة إلى العقوبة . " لينصرنه الله " لا محالة . " إن الله لعفو غفور " للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام وأعرض عما ندب الله إليه بقوله ولمن صبر وغفران ذلك لمن عزم الأمور وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة ، فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى ، وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

61ـ " ذلك " أي ذلك النصر . " بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " بسبب أن الله تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض ، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بأن يزيد فيه ما ينقص منه ، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك باطلاعها . " وأن الله سميع " يسمع قول المعاقب والمعاقب . " بصير " يرى أفعالهما فلا يهملهما .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

62 ـ " ذلك " الوصف بكمال القدرة والعلم . " بأن الله هو الحق " الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالماً بذاته وبما عداه ، أو الثابت الإلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادراً عالماً . " وأن ما يدعون من دونه " إلهاً ، وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين ، وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلة . " هو الباطل " المعدوم في حد ذاته ، أو باطل الألوهية . " وأن الله هو العلي " على الأشياء . " الكبير " على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر منه سلطاناً .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

63 ـ " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً " استفهام تقرير ولذلك رفع . " فتصبح الأرض مخضرةً " عطف على " أنزل " إذ لو نصب جواباً لدل على نفي الاخضرار كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني ، والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان . " إن الله لطيف " يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق . " خبير " بالتدابير الظاهرة والباطنة .

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

64ـ " له ما في السموات وما في الأرض " خلقاً وملكاً . " وإن الله لهو الغني " في ذاته عن كل شيء . " الحميد " المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

65ـ " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم . " والفلك " عطف على " ما " أو على اسم " أن " ، وقرئ بالرفع على الابتداء . " تجري في البحر بأمره " حال منها أو خبر . " ويمسك السماء أن تقع على الأرض " من أن تقع أو كراهة بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك . " إلا بإذنه " إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها . " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار .

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ

66ـ " وهو الذي أحياكم " بعد أن كنتم جماداً عناصر ونطفاً . " ثم يميتكم " إذ جاء أجلكم . " ثم يحييكم " في الآخرة . " إن الإنسان لكفور " لجحود لنعم الله مع ظهورها .

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ

67ـ " لكل أمة " أهل دين . " جعلنا منسكاً " متعبداً أو شريعة تعبدوا بها ، وقيل عيدا . " هم ناسكوه " ينسكونه . " فلا ينازعنك " سائر أرباب الملل . " في الأمر" في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع ، وقيل المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم ، فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء ، أو عن منازعتهم قولك : لا يضار بك زيد ، وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم ، وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ، وقرى " فلا ينازعنك " على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته إذا غلبته . " وادع إلى ربك " إلى توحيده وعبادته . " إنك لعلى هدى مستقيم " طريق إلى الحق سوي .

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ

68ـ " وإن جادلوك " وقد ظهر الحق ولزمت الحجة . " فقل الله أعلم بما تعملون " من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها ، وهو وعيد فيه رفق .

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

69ـ " الله يحكم بينكم " يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب . " يوم القيامة " كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات . " فيما كنتم فيه تختلفون " من أمر الدين .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

70ـ " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض " فلا يخفى عليه شيء . " إن ذلك في كتاب " هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له . " إن ذلك " إن الإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ ، أو الحكم بينكم . " على الله يسير " لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ

71ـ " ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً " حجة تدل على جواز عبادته . " وما ليس لهم به علم " حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله . " وما للظالمين " وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم . " من نصير " يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُو

72ـ " وإذا تتلى عليهم آياتنا " من القرآن . " بينات " واضحات الدلالة على العقائد الحقية والأحكام الإلهية . " تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر " الانكار لفرك نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليداً ، وهذا منتهى الجهالة والإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر " يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " يثبون ويبطشون بهم . " قل أفأنبئكم بشر من ذلكم " من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم ، أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم . " النار " أي هو النار كأنه جواب سائل قال : ما هو ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : " وعدها الله الذين كفروا " وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلاً من شر فتكون الجملة استئنافاً كما إذا رفعت خبراً أو حالاً منها . " وبئس المصير" النار.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

73ـ " يا أيها الناس ضرب مثل " بين لكم حال مستغربة أو قصة رائعة ولذلك سماها مثلاً ، أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة . " فاستمعوا له " للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر . " إن الذين تدعون من دون الله " يعني الأصنام ، وقرأ يعقوب بالياء وقرئ مبيناً للمفعول والراجح إلى الموصول محذوف على الأولين . " لن يخلقوا ذباباً " لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن " لن " بما فيها من تأكيد والنفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه ، و " الذباب " من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان . " ولو اجتمعوا له " أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة ، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين . " وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه " جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا إلهاً قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها تماثيل هي أعجز الأشياء ، وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ، بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه من عندها . قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليا الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله . " ضعف الطالب والمطلوب " عابد الصنم ومعبوده ، أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب ، أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات .

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

74ـ " ما قدروا الله حق قدره " ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة . " إن الله لقوي " على خلق الممكنات بأسرها . " عزيز " لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها .

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

75ـ " الله يصطفي من الملائكة رسلاً " يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي . " ومن الناس " يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم ، كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عباداً مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريراً للنبوة وتزييفاً لقولهم " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ، والملائكة بنات الله تعالى ، ونحو ذلك . " إن الله سميع بصير " مدرك للأشياء كلها .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

76ـ " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " عالم بواقعها ومترقبها . " وإلى الله ترجع الأمور " وإليه ترجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

77ـ " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " في صلاتكم ، أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام ، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها ، أو اخضعوا لله وخروا له سجداً . " واعبدوا ربكم " بسائر ما تعبدكم به . " وافعلوا الخير " وتحروا ما هو 0خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق " لعلكم تفلحون " أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم ، والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود " ولقوله عليه الصلاة والسلام فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرؤها " .

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ

78ـ " وجاهدوا في الله " أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس . " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . " حق جهاده " أي جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم ، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله . " هو اجتباكم " اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم ، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه ، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم " لقوله عيه الصلاة والسلام إذا أمرت بشيء فائتوا منه ما استطعتم " وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجاً بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم باب الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد " ملة أبيكم إبراهيم " منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم . " هو سماكم المسلمين من قبل " من قبل القرآن في الكتب المتقدمة . " وفي هذا " وفي القرآن ، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ (( الله سماكم )) ، أو لـ " إبراهيم " وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " . وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين . " ليكون الرسول " يوم القيامة متعلق بسماكم . " شهيداً عليكم " بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتماداً على عصمته ، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى . " وتكونوا شهداء على الناس " بتبليغ الرسل إليهم . " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف . " واعتصموا بالله " وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه . " هو مولاكم " ناصركم ومتولي أموركم " فنعم المولى ونعم النصير " هو إذا لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة . " عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي " .


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس