islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير البيضاوى
17300

42-الشورى

حم

1-" حم " .

عسق

2-" عسق " لعله إسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين ، وإن كانا اسماً واحداً فالفصل ليطابق سائر الحواميم ، وقرئ حم سق .

كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

3-" كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم " أي مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى إليك وإلى الرسل من قبلك ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته ، وقرأ ابن كثير يوحى بالفتح على أن كذلك مبتدأ و يوحى خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدر و يوحى مسند إلى إليك ، و " الله " مرتفع بما دل عليه يوحى ، و " العزيز الحكيم " صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به كما مر في السورة السابقة ، أو بالابتداء كما في قراءة نوحي بالنون و " العزيز " وما بعده أخبار أو " العزيز الحكيم " صفتان . وقوله :

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ

4-" له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم " خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته .

تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

5-" تكاد السموات " وقرأ نافع و الكسائي بالياء . " يتفطرن " يتشققن من عظمة الله ، وقيل من ادعاء الولد له . وقرأ البصريان و أبو بكر ينفطرن بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر ، وقرئ تتفطرن بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر . " من فوقهن " أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأول . وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس . " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض " بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة ، وذلك في الجملة يعم المؤمن ولكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد ، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة . " ألا إن الله هو الغفور الرحيم " إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته ، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه ، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته .

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ

6-" والذين اتخذوا من دونه أولياء " شركاء وأنداداً . " الله حفيظ عليهم " رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها . " وما أنت " يا محمد . " عليهم بوكيل " بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم .

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ

7-" وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً " الإشارة إلى مصدر " يوحي " أو إلى معنى الآية المتقدمة ، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولا به و " قرآناً عربياً " حال منه . " لتنذر أم القرى " أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى . " ومن حولها " من العرب . " وتنذر يوم الجمع " يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح ،أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعول الأول و أول مفعولي الثاني للتهويل وإبهام التعميم ، وقرئ لينذر بالياء والفعل للقرآن . " لا ريب فيه " اعتراض لا محل له من الإعراب . " فريق في الجنة وفريق في السعير " أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولاً ثم يفرقون ، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه ، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق ، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

8-" ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدةً " مهتدين أو ضالين . " ولكن يدخل من يشاء في رحمته " بالهداية والحمل على الطاعة . " والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير " أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه ،ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإنذار .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

9-" أم اتخذوا " بل اتخذوا . " من دونه أولياء " كالأصنام . " فالله هو الولي " جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق . " وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير " كالتقرير لكونه حقيقاً بالولاية .

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ

10-" وما اختلفتم " أنتم والكفار . " فيه من شيء " من أمر من أمور الدنيا أو الدين . " فحكمه إلى الله " مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة . وقيل " وما اختلفتم فيه " من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله . " ذلكم الله ربي عليه توكلت " في مجامع الأمور . " وإليه أنيب " إليه أرجع في المعضلات .

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

11-" فاطر السموات والأرض " خبر آخر لـ" ذلكم " أو مبتدأ خبره . " جعل لكم " وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله . " من أنفسكم " من جنسكم . " أزواجاً " نساء . " ومن الأنعام أزواجاً " أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافاً أو ذكوراً و أناثاً . " يذرؤكم " يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و " الأنعام " على تغليب المخاطبين العقلاء . " فيه " في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير . " ليس كمثله شيء " أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته . ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى " ليس كمثله " غير أنه آكد لما ذكرناه . وقيل مثله صفته أي ليس كصفته صفة . " وهو السميع البصير " لكل ما يسمع ويبصر .

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

12-" له مقاليد السموات والأرض " خزائنها . " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " يوسع ويضيق على وقف مشيئته . " إنه بكل شيء عليم " فيفعله على ما ينبغي .

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي

13-" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى " أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام وما بينهما من أرباب الشرائع ، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله : " أن أقيموا الدين " وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول " شرع " ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به . " ولا تتفرقوا فيه " ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " " كبر على المشركين " عظم عليهم . " ما تدعوهم إليه " من التوحيد . " الله يجتبي إليه من يشاء " يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين ." ويهدي إليه " بالإشارة والتوفيق . " من ينيب " يقبل إليه .

وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ

114-" وما تفرقوا " يعني الأمم السالفة . وقيل أهل الكتاب لقوله : " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب " " إلا من بعد ما جاءهم العلم " العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه ، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها . " بغياً بينهم " عداوة أو طلباً للدنيا . " ولولا كلمة سبقت من ربك " بالإمهال . " إلى أجل مسمى " هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة . " لقضي بينهم " باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا . " وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم " يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب . وقرئ ورثوا و ورثوا . " لفي شك منه " من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان ، أو من القرآن . " مريب " مقلق أو مدخل في الريبة .

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا و

15-" فلذلك " فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب ، أو العلم الذي أوتيته . " فادع " إلى الاتفاق على الملة الحنفية أو الإتباع لما أوتيت ، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإفادة الصلة والتعليل . " واستقم كما أمرت " واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى : " ولا تتبع أهواءهم " الباطلة . " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض . " وأمرت لأعدل بينكم " في تبليغ الشرائع والحكومات ، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية . " الله ربنا وربكم " خالق الكل ومتولي أمره ." لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " وكل مجازى بعمله . " لا حجة بيننا وبينكم " ولا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد . " الله يجمع بيننا " يوم القيامة . " وإليه المصير " مرجع الكل لفصل القضاء ،وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال .

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ

16-" والذين يحاجون في الله " في دينه . " من بعد ما استجيب له " من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه ، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر ، أو من بعد استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به . " حجتهم داحضة عند ربهم " زائلة باطلة . " وعليهم غضب " لمعاندتهم . " ولهم عذاب شديد " على كفرهم .

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ

17-" الله الذي أنزل الكتاب " جنس الكتاب . " بالحق " ملتبساً بعيداً من الباطل ، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام . " والميزان " والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس ، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها . " وما يدريك لعل الساعة قريب " إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك ، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب ، أو لأن الساعة بمعنى البعث .

يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ

18-" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " استهزاء . " والذين آمنوا مشفقون منها " خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب . " ويعلمون أنها الحق " أ ي الكائن لا محالة . " ألا إن الذين يمارون في الساعة " يجادلون فيها من المرية ، أو من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة . " لفي ضلال بعيد " عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات ،فمن لم يهتد لتجويزه ، فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ

19-" الله لطيف بعباده " بربهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام . " يرزق من يشاء " أي يرزقه كما يشاء فيخص كلاً من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته . " وهو القوي " الباهر القدرة . " العزيز " المنيع الذي لا يغلب .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ

20-" من كان يريد حرث الآخرة " ثوابها شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة ، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه ، " نزد له في حرثه " فنعطه بالواحد عشراً إلى سبعمائة فما فوقها . " من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها " شيئاً منها على ما قسمنا له . " وما له في الآخرة من نصيب " إذ " الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " .

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

21-" أم لهم شركاء " بل ألهم شركاء ، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم . " شرعوا لهم " بالتزيين . " من الدين ما لم يأذن به الله " كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا . وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء ،وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو صور من سنة لهم . " ولولا كلمة الفصل " أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ،أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة . " لقضي بينهم " بين الكافرين والمؤمنين ، أو المشركين وشركائهم . " وإن الظالمين لهم عذاب أليم " وقرئ أن بالفتح عطفاً على كلمة " الفصل " أي " ولولا كلمة الفصل " وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا ،فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة .

تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ

22-" ترى الظالمين " في القيامة . " مشفقين " خائفين . " مما كسبوا " من السيئات . " وهو واقع بهم " أي وباله لاحق بهم أشفقوا . " والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات " في أطيب بقاعها وأنزهها . " لهم ما يشاؤون عند ربهم " أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم ." ذلك " إشارة إلى المؤمنين . " هو الفضل الكبير " الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا .

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ

23-" ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد ، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي يبشر من بشره وقرئ يبشر من أبشره . " قل لا أسألكم عليه " على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة . " أجراً " نفعاً منكم . " إلا المودة في القربى" أي تودوا قرابتي ، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم أجراً قط ولكني أسألكم المودة ، و " في القربى " حال منها أي " إلا المودة " ثابتة في ذوي " القربى " متمكنة في أهلها ، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث " الحب في الله والبغض في الله " . روي :" أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال : علي وفاطمة وابناهما " . وقيل " القربى " التقرب إلى الله أي إلا تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وقرئ إلا مودة في القربى . " ومن يقترف حسنةً " ومن يكتب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ومودته لهم . " نزد له فيها حسناً " في الحسنة بمضاعفة الثواب ، وقرئ يزد أي يزد الله وحسنى . " إن الله غفور " لمن أذنب " شكور " لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

24-" أم يقولون " بل أيقولون . " افترى على الله كذباً " افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن . " فإن يشإ الله يختم على قلبك " استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوماً على قلبه جاهلاً بربه ،فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا ، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه . وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه ، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم . " ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور " استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده ، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن ،أو بقضائه الذي لا مرد له ، وسقوط الواو من " يمح " في بعض المصاحف لإتباع اللفظ كما في قوله تعالى :" ويدع الإنسان بالشر " .

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ

25-" وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " بالتجاوز عما تابوا عنه ، والقبول يعدي إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة ، وقد عرفت حقيقة التوبة . وعن علي رضي الله تعالى عنه : هي اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ،ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته . " ويعفو عن السيئات " صغيرها وكبيرها لمن يشاء . " ويعلم ما تفعلون " فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة ، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر ما تفعلون بالتاء .

وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ

26-" ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في " وإذا كالوهم " والمراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة ، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " أفضل الدعاء الحمد لله " ، أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها . " ويزيدهم من فضله " على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة . " والكافرون لهم عذاب شديد " بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل .

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ

27-" ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " لتكبروا وأفسدوا فيها بطراً ، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب ،وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية . " ولكن ينزل بقدر " بتقدير . " ما يشاء " كما اقتضته مشيئته . " إنه بعباده خبير بصير " يعلم خفايا أمرهم و جلايا حالهم 0فيقدر لهم ما يناسب شأنهم . روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت . وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا .

وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ

28-" وهو الذي ينزل الغيث " المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع ،وقرأ نافع و ابن عامر ينزل بالتشديد . " من بعد ما قنطوا " أيسوا منه ،وقرئ بكسر النون . " وينشر رحمته " في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان . " وهو الولي " الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته . " الحميد " المستحق للحمد على ذلك .

وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ

29-" ومن آياته خلق السموات والأرض " فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم . " وما بث فيهما " عطف على السموات ألو الـ" خلق " . " من دابة " من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب ، أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيها في الجملة . " وهو على جمعهم إذا يشاء " أي في أي وقت يشاء . " قدير " متمكن منه و " إذا " كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع .

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ

30-" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " فبسبب معاصيكم ، والفاء لأن " ما " شرطية أو متضمنة معناه ،ولم يذكرها نافع و ابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية . " ويعفو عن كثير " من الذنوب فلا يعاقب عليها . والآية مخصوصة بالمجرمين ، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه .

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

31-" وما أنتم بمعجزين في الأرض " فائتين ما قضى عليكم من المصائب . " وما لكم من دون الله من ولي " يحرصكم عنها . " ولا نصير " يدفعها عنكم .

وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ

32-" ومن آياته الجوار " السفن الجارية . " في البحر كالأعلام " كالجبال . قالت الخنساء : وإن صخر لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ

33-" إن يشأ يسكن الريح " وقرئ الرياح . " فيظللن رواكد على ظهره " فيبقين ثوابت على ظهر البحر . " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " لكل من وكل همته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكر في آلائه ، أو لكل مؤمن كامل الإيمان فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر .

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ

34-" أو يوبقهن " أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة ، والمراد إهلاك أهلها لقوله تعالى : " بما كسبوا " وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله تعالى : " ويعف عن كثير " إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناساً بذنوبهم وينج ناساً على العفو منهم ، وقرئ ويعفو على الاستئناف .

وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ

35-" ويعلم الذين يجادلون في آياتنا " عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم " ويعلم " ، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جواراً للأشياء الستة لأنه أيضاً غير واجب ، وقرأ نافع و ابن عامر بالرفع على الاستئناف ، وقرئ بالجزم عطفاً على " يعف " فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم و إنجاء قوم وتحذير آخرين . " لهم من محيص " محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل .

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

36-" فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا " تمتعون به مدة حياتكم . " وما عند الله " من ثواب الآخرة . " خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " لخلوص نفعه ودوامه و " ما " الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء جوابها بخلاف الثانية . وعن علي رضي الله تعالى عنه :تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت .

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ

37-" والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " " والذين " بما بعده عطف على " للذين آمنوا " أو مدح منصوب أو مرفوع ،وبناء " يغفرون " على ضميرهم خبراً للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال النصب ،وقرأ حمزة و الكسائي كبير الإثم .

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

38-" والذين استجابوا لربهم " نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له . " وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم " ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاورا ويجتمعوا عليه ، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور ، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور . " ومما رزقناهم ينفقون " في سبيل الله الخير .

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ

39-" والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " على ما جعله الله لهم كراهة التذلل ، وهو وصفهم عن عجز المغفور بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران ،فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم ، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي ،ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي .

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

40-" وجزاء سيئة سيئة مثلها " وسمى الثانية " سيئة " للازدواج ، أو لأنها تسوء من تنزل به . " فمن عفا وأصلح " بينه وبين عدوه . " فأجره على الله " عدة مبهمة تدل على عظم الموعود . " إنه لا يحب الظالمين " المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام .

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ

41-" ولمن انتصر بعد ظلمه " بعد ما ظلم ، وقد قرئ به . " فأولئك ما عليهم من سبيل " بالمعاتبة والمعاقبة .

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

42-" إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " يبتدئونهم بالإضرار وبطلبون ما لا يستحقونه تجبراً عليهم . " ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم " على ظلمهم وبغيهم .

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ

43-" ولمن صبر " على الأذى . " وغفر " ولم ينتصر . " إن ذلك لمن عزم الأمور " أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، للعلم به .

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ

44-" ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده " من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه . " وترى الظالمين لما رأوا العذاب " حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقاً . " يقولون هل إلى مرد من سبيل " هل إلى رجعة إلى الدنيا .

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ

45-" وتراهم يعرضون عليها " على النار ، ويدل عليه " العذاب " . " خاشعين من الذل " متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل . " ينظرون من طرف خفي " أيبتدئ نظرهم إلى النار مع تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف . " وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم " بالتعريض للعذاب المخلد . " يوم القيامة " ظرف لـ" خسروا " والقول في الدنيا ،أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال . " ألا إن الظالمين في عذاب مقيم " تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم .

وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ

46-" وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل " إلى الهدى أو النجاة .

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ

47-" استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله " لا يرده الله بعدما حكم به و " من " صلة لـ" مرد " . وقيل صلة " يأتي " أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده . " ما لكم من ملجأ " مفر . " يومئذ وما لكم من نكير " إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوار حكم .

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ

48-" فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً " رقيباً أو محاسباً . " إن عليك إلا البلاغ " وقد بلغت . " و إنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها " أراد بالإنسان الجنس لقوله : " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور " بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها ،وهدا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه . وتصدير الشرطية الأولى بـ" إذا " والثانية بـ" إن " لأن إذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية ، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة .

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ

49-" لله ملك السموات والأرض " فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء . " يخلق ما يشاء " من غير لزوم ومجال اعتراض . " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

50-" أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً " بدل من " يخلق " بدل البعض ، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين ، ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكبير النسل ، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإنسان والإناث كذلك ، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء ،أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور ، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه فسم المشترك بين القسمين ، ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة . " إنه عليم قدير " فيفعل بحكمة واختيار .

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ

51-" وما كان لبشر " وما صح له . " أن يكلمه الله إلا وحياً " كلاماً خفياً يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة ، وهو ما يعم المشاقه به كما روي في الحديث المعراج ، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور ، ولكن عطف قوله : " أو من وراء حجاب " عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها . وقيل المراد به الإلهام والإلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله : " أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " أو يرسل إليه نبياً فيبلغ وحيه كما أمره ، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل ، ووحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن " من وراء حجاب " صفة كلام محذوف والإرسال نوع من الكلام ، ويجوز أن يكون وحياً ويرسل مصدرين و " من وراء حجاب " ظرفاً وقعت أحوالاً ، وقرأ نافع " أو يرسل " برفع اللام " إنه علي " عن صفات المخلوقين . " حكيم " يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط ، وتارة بغير وسط إما عياناً و إما من وراء حجاب .

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

52-" وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا " يعني ما أوحي إليه ،وسماه روحاً لأن القلوب تحيا به ، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي . " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " أي قبل الوحي ، وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قيل النبوة بشرع . وقيل المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلا السمع . " ولكن جعلناه " أي الروح أو الكتاب أو الإيمان . " نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا " بالتوفيق للقبول والنظر فيه . " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " هو الإسلام ،وقرئ لتهدى أي ليهديك الله .

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ

53-" صراط الله " بدل من الأول . " الذي له ما في السموات وما في الأرض " خلقاً وملكاً . " ألا إلى الله تصير الأمور " بارتفاع الوسائط والتعلقات ، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين . عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له " .


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس